28-11-2024 10:39 PM بتوقيت القدس المحتلة

من 25 يناير إلى 30 يونيو هكذا انتحر "الإخوان" فهل يتّعظ العسكر؟

من 25 يناير إلى 30 يونيو هكذا انتحر

عانت مصر، كما تونس، كما ليبيا، كما سوريا، كما دول الخليج العربي وسائر العالم العربي من عقل إقصائي يسيطر على الفئات الحاكمة.


ابراهيم الأمين

عانت مصر، كما تونس، كما ليبيا، كما سوريا، كما دول الخليج العربي وسائر العالم العربي من عقل إقصائي يسيطر على الفئات الحاكمة. لم يكن شكل النظام مهمّاً، ولا حتى القوانين الأساسية، ولا أيضاً البنية الإدارية للدولة والمؤسسات، بل كان المهم، ولا يزال، العقل الإقصائي الذي يسيطر على غالبية الطبقة السياسية، وعلى المثقفين والنُخَب أيضاً، وأكثر من ذلك، على الفئات الشبابية الناشطة، وعلى الكوادر النقابية والمهنية... والأخطر، على مؤسسات الرأي العام، من سلطة الصحافة والرأي.

في مصر، رفض «الإخوان المسلمون» الإقرار بشروط عملية التحوّل في الحكم. اعتمدوا مبدأ إطاحة السلطة السياسية، علماً بأن الناس عندما خرجت في الشوارع، كانت تستهدف التخلّص من العقل التكفيري الذي سيطر على المؤسسة الحاكمة. لكن «الإخوان» اعتقدوا أن التفويض الذي أخذوه من الناس، إنما هو قابل للصرف على أيّ نحو. لم يلتفت هؤلاء إلى أنّ هذا التفويض إنما عكس رغبة الجمهور في مواجهة حكم فاسد ومتسلّط وتبعي وخائف، باع الدولة والسيادة وقوت الناس وداس كراماتهم، وضيّق عليهم الخناق ومنعهم حتى من التأفّف.

انشغل «الإخوان» في ترتيب حكم منفرد. لم يعرفوا سرّ عملية التحوّل في دولة بحجم مصر. لم يعرف هؤلاء أنّ ثورة 25 يناير كانت تشير بقوّة إلى احتجاج الجمهور على العقل الإقصائي، وأن الجمهور يريد حكماً ممثلاً له، يعني يريد عقلاً يقوم على مبدأ المشاركة والتفاعل، ويريد حكماً يعرف إزالة الأسباب العميقة المحفورة في قلب «العقل الوظيفي» داخل مؤسسات الدولة التي عاشت حوالى خمسة عقود وأكثر تحت رحمة العقل الفردي.

وأكثر من ذلك، لم يعرف «الإخوان» سبيل الاستفادة من النشاط الشبابي اللافت والناشط في قلب مؤسسات «الإخوان» نفسها، وهو العقل التشاركي والتصالحي. ولم يعرف «الإخوان» استغلال «اللحظة الرومانسية» التي ترافق ثورات من هذا النوع، لأجل مدّ الجسور مع الشركاء الفعليين في الثورة. وبدل الذهاب نحو «عصرنة» فكرهم وأدواتهم، لجأوا إلى محاباة مشغّلي أدوات النظام، وإلى التحالف معهم، من الجيش والمؤسسات الأمنية، إلى إدارات الدولة المترهّلة، إلى البيروقراطية الحاضرة بعمق في الدولة، إلى مشغّلي الاقتصاد الريعي. واعتقدوا أنّ إفساح المجال أمام الآخرين من الشركاء للتعبير عن آرائهم في مقالة أو برنامج أو منبر، سيكون كافياً للحديث عن ثورة وتغيير.

أخطأ «الإخوان» أيضاً في رسم الإطار السياسي لموقف مصر الخارجي. ظنّوا أنّ التحالفات التقليدية مع القوى النافذة عسكرياً ومالياً في الإقليم والعالم، تكفي لضمان استقرار حكمهم. تعاملوا مع المسألة الوطنية على طريقة النظام السابق، وتجاهلوا حقيقة أنّ القضية الفلسطينية سوف تظلّ تمثّل حجر الزاوية في المسألة الوطنية العربية والإسلامية، وانشغلوا في لعبة سخيفة حول مستقبل الإسلام السياسي والبحث عن دور ريادي في الإقليم والعالم، من خلال تنظيم «الإخوان» نفسه، المحلي أو الإقليمي أو الدولي، وتورّطوا في مواقف وألاعيب، من ليبيا والسودان وفلسطين وسوريا واليمن، كلّها قادتهم إلى المزيد من الفشل، والمزيد من الانعزال.

وفي لحظة حقيقية، ليس فيها مؤامرة ولا إعداد خفيّ، بدا أنّ «الإخوان» فقدوا الحاضنة الأساسية لشرعية وجودهم في السلطة. فهم ظهروا وحدهم، أقليّة صغيرة في مواجهة أغلبية جمعت كل الآخرين، من الشركاء في الثورة، إلى الذين جاءت الثورة لتطيحهم، مروراً بالكتلة الكبيرة التي صوّتت لأجل التغيير... كل هؤلاء شعروا بقوّة أنّ حكم «الإخوان» ليس سوى نسخة طبق الأصل عن الحكم المخلوع، ولكن الأسوأ أنه حكم غير مستقرّ، بلا أمن وبلا أمان، ومع انهيار إضافي في الاقتصاد والإدارة والنفوذ والهيبة.

في هذه اللحظة بالذات، استفاقت المؤسسة العسكرية الأكثر نفوذاً داخل مصر إلى أن الظروف تدعوها، بل تناشدها، التدخل، فكان ما كان، من انقلاب حمته احتجاجات شعبية واسعة على حكم «الإخوان»، وجاءت النتيجة الأولى إسقاط حكم «الإخوان»، ودخول مصر من جديد في مرحلة انتقالية إضافية.


ماذا يفعل المصريون اليوم؟
قد يكون ضرورياً فتح نقاش مبكر في سلوك القوى السياسية التي شاركت في احتجاجات 30 يونيو، وفي أداء السلطة العسكرية الحاكمة، وجماعة «الإخوان» داخل مصر وخارجها. لكن الأهم هو تأكيد أن إطاحة «الإخوان» ليس لها معنى يتصل بجوهر ما حصل في 25 يناير، إذا لم تقترن ببرنامج سياسي يلغي فكرة الإقصاء، ما يعني أن أي حكومة مقبلة يجب أن تكون ممثلة للجميع، وربما على طريقة لبنان، بمعزل عن مآسيه الكبيرة. لكن على القوى السياسية في مصر، وخصوصاً تلك التي ثارت على حكم «الإخوان» إدراك حقيقة أنه مثلما يصعب اجتثاث الذين عملوا مع السلطة السابقة، فإنه يصعب العمل على اجتثاث «الإخوان» من الحكم ومن العمل السياسي المركزي في الدولة، وأن الهدف الفعلي لاحتجاجات 30 يونيو هو استعادة جوهر 25 يناير، لجهة ضمان مشاركة جماعية تشمل الجيش كشريك فعلي في هذه المرحلة.

يمثل الجيش في هذه اللحظة مركز الثقل في مواجهة متطلبات إدارة دولة بهذا الحجم. لكن تجربته تحتاج الى مراجعة، وطبيعته تمنع تطويرها في عقود قليلة، بل يمكن الرهان على آليات تنتجها السلطة السياسية تحفظ الجيش كمؤسسة، وتسحب منها عصب الانقلاب والتسلط لناحية الرقابة الخفية والعون على منع الفوضى. لكن في حالة مصر اليوم، يمثل حكم العسكر كارثة كبرى ما لم يكن هناك قوى سياسية قادرة ليس فقط على رفع الصوت احتجاجاً، بل تملك حق الفيتو داخل مؤسسات القرار. وهذا هو بالضبط جوهر ثورة 25 يناير، وهو يفترض أن يكون هدف احتجاجات 30 يونيو.

المهم أننا اليوم لسنا في لحظة تشبه عام 1952. عندما قاد جمال عبد الناصر انقلاباً كان ثورة بحد ذاته، ونقل مصر داخلياً وخارجياً من ضفة المهمل الى ضفة المنتج والقادر. نحن اليوم أمام حركة احتجاج شعبية واسعة، يمكن الجيش أن يكون عنصر حماية لها، وداعماً لوصولها الى مطالبها. لكن لا يمكن بأي حال القبول بفكرة التفويض المطلق، ولو تحت عنوان مكافحة الإرهاب، خصوصاً عندما تتسلق الفلول المنابر بطريقة تثير الغثيان.

سقط «الإخوان» ولا أسف عليهم، لكن سقوط مصر هو الكارثة. وتفادي هذه الكارثة هو بيد من يقدر اليوم على استعادة حضوره عنصراً فاعلاً في إدارة الدولة المدنية، لا مجرد هاتف أو مصفّق ينتظر وصول المدرعات!

موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه