28-11-2024 12:42 AM بتوقيت القدس المحتلة

35 دقيقة من المغامرة

35 دقيقة من المغامرة

ألهب السيد الحاضرين لـ 35 دقيقة من دون توقّف. حارت العيون. بين الشاشة الكبيرة فوق، ونصر الله الحقيقي تحتها. في الشاشة، يوجّه السيد كلامه للجميع. أما كلامه الحقيقي، فيظنّ كلّ واحد من الحاضرين أنه هو

فراس الشوفي / جريدة الأخبار

سماحة الأمين العام السيد نصرالله يفاجئ الجمهور بحضوره شخصيا على منصة المسرح2013مرّت ثوانٍ، قبل أن تصدّق الجموع. ما أن أنهى عريف الاحتفال بيوم القدس، علي عبّاس، كلامه، حتى تسمّرت العيون على الشاشة العملاقة المعلّقة في صدر الحائط الجنوبي لمجمع سيد الشهداء في الضاحية الجنوبية. كان السّيد حسن نصر الله يتسلّل إلى العيون من على يسار المسرح. هو هنا، بشحمه ولحمه وعباءته البنيّة وعمامته السوداء.

ساد الصمت في القاعة الضخمة، والسّيد يمشي بين مرافقيه. جُنت الجموع. لم تعدْ تجدُ قدماً على الأرض، الرجال والنساء فوق الكراسي، والأطفال على أكتاف آبائهم، القبضات إلى الأعلى، الجفون تغرق بالدمع والحناجر تصدح «لبيك يا نصر الله».


ألم ينعته «حكّام النفط» بـ«المغامر» بعد خطف الجنديين الإسرائيليين في 12 تموز 2006؟ رجل تطارده أجهزة أمن إسرائيل ومن لفّ لفيفها ليل نهار، يخرج على الملأ في حمأة التهديد الأمني الحقيقي للضاحية الجنوبية. كيف سيخاف هؤلاء؟ كيف يمكن لمريدي نصر الله أن يحسبوا حساباً لعبوة ناسفة تسفك دمهم أو لصاروخ يحيل بيوتهم ركاماً، وقائدهم يخرج في مناسبة علنية على الشاشات مباشرةً غير آبه بأعدائه المتربصين؟ وما أكثرهم.

قبل ظهور نصر الله، كان «الجناح العسكري في حزب الله ـــ فرع كشافة المهدي» يستعرض شيئاً من «العسكرة». توقّف حزب الله منذ زمن عن تنظيم عرض عسكري في «يوم القدس». العروض العسكرية تنظمها الجيوش إجمالاً، لأسباب عديدة، منها تعبئة مواطنيها، إخافة أعدائها والتلويح بالقوّة لمنع وقوع الحرب. لم يعد حزب الله بحاجة إلى ذلك. جمهوره معبّأ بنزف دم يومي وشهداء بالجملة، أعداؤه يحسبون له ألف حساب، والحرب التي عمل على إيقافها طويلاً، واقعة الآن لا محالة. على كلّ حال، كشافة المهدي «بتكفّي وبتوفّي».

«الجناح العسكري في حزب الله ــ فرع كشافة المهدي» يستعرض شيئاً من «العسكرة» قبل حَمَلَة الرايات، اعتلى المنبر قائد الفرقة الموسيقية بزِيِّه الأبيض المذهّب. «إلى الأمام سر»، قال القائد، وبدأ العزف بنظام بديع. اتخذت الفرقة مكانها في الصدر، ثمّ تبعتها الرايات: العلم اللبناني، الفلسطيني، وحزب الله. غياب العلم السوري من ثلةّ الرايات عوّضه أحد الحاضرين، إذ لم يكفّ عن التلويح بعلم سوري ضخم طوال مدّة الاحتفال. بعد الرايات، دخلت أولى فرق الكشافة. لبس الشبان في المقدمة قمصاناً زرقاء، وأحذية وقفازات بيضاء. لبست الفرقة التالية قمصاناً زيتية، والفرقة التي بعدها قمصاناً بيضاء، وبين الأيدي أعلام صغيرة، وعلى الجباه عصبات صفراء خُطّ عليها بالأحمر: «يا قدس إنّا قادمون». «سرايا القدس ــ مكانك، تأهب، تقدّم» صرخ القائد من جديد، وبدأت مواكب من الأطفال ــ الرجال بالمسير، خلف مجسّمٍ لقبّة الصخرة الذهبيّة في مدينة القدس، التي لطالما تختلط على الناس فيظنونها قبّة المسجد الأقصى.


 قبل الموعد المقرّر للاحتفال بربع ساعة تقريباً، كانت المقاعد شبه ممتلئة بالكامل. أول الواصلين من رُكّاب الصفوف الأولى كان مرشّح 8 آذار في المنية كمال الخير، تلاه المعاون السياسي لنصر الله حسين الخليل. ومن على بعد خمسة مقاعد، كان الخير يبتسم ويلوّح للخليل. ومع امتلاء الصفوف الأولى، كان المقعد المخصّص لحركة حماس إلى جانب مقعد ممثّل حركة الجهاد الإسلامي في لبنان أبو عماد الرفاعي لا يزال فارغاً. بعد وقت، جلس عليه أحد ممثّلي القوى الناصرية، وبقي المقعد فارغاً، من حركة حماس. على المقلب الآخر من الصفّ الأول، جلس الوزير السابق وئام وهّاب وحيداً لبعض الوقت، ثمّ تبعه ممثّل قائد الجيش العميد عبد الكريم يونس ببذلته العسكرية الرسمية، ثمّ السيد هاشم صفيّ الدين، وآخر الواصلين، السفير السوري عبد الكريم علي.

بصمتك يا سيد نصرالله هي التي تدمغ الحقيقة بالصدقوحدها قبضة النائب بلال فرحات تظهر من فوق الحاضرين في الصفّ الأول، تكفي لتخبّر عن مدى الحماسة التي تجتاح المكان. وقف نصر الله لثوانٍ فوق المسرح، ثمّ أبلغ الحاضرين بابتسامته الهادئة أنه سيغيب عنهم للانتقال إلى ما وراء منبر خشبي. تُرى، كم ظهر السيد سابقاً من خلف شاشة، وفي الوقت الذي ظنّه الناس فيه بعيداً، كان يفصلهم عنه ستار؟..


 ألهب السيد الحاضرين لـ 35 دقيقة من دون توقّف. حارت العيون. بين الشاشة الكبيرة فوق، ونصر الله الحقيقي تحتها. في الشاشة، يوجّه السيد كلامه للجميع. أما كلام نصر الله الحقيقي، فيظنّ كلّ واحد من الحاضرين أنه هو، المستمع الوحيد. كلّ كلمة تردد صداها في المساحة. وبين هتاف وآخر، كان نصر الله يأخذ قسطاً من الراحة، يعيد ترتيب الكُمّ الأيمن في عباءته، حتى يلوّح براحة، ويهدّد براحة، ويَعِد براحة، ولم يجفّف عرقه مرّة واحدة.