كثيرون توقفوا عند خطاب الأمين العام لحزب الله في يوم القدس العالمي وما تضمنه من مواقف في مرحلة مفصلية تاريخية، وبعضهم اجتهد في فك رموز هذا الخطاب بسبب النبرة الخاصة التي اتسم بها
علي عبادي
كثيرون توقفوا عند خطاب الأمين العام لحزب الله في يوم القدس العالمي وما تضمنه من مواقف في مرحلة مفصلية تاريخية، وبعضهم اجتهد في فك رموز هذا الخطاب بسبب النبرة الخاصة التي اتسم بها، لا سيما في تأكيد ارتباط المسلمين الشيعة بالقضية الفلسطينية على انها قضية مركزية جامعة للأمة الاسلامية، في مقابل مساعي محمومة لمحاصرة الشيعة معنويا ومادياً وأمنياً.
خطاب السيد نصر الله يحمل، في تقديري، رسائل في اتجاهات عدة:
رسالة الى المسلمين الشيعة أنفسهم على امتداد العالم الاسلامي. من الواضح هنا ان هناك خطابا كريهاً يوجه اليوم الى الشيعة يعمل على وضعهم في خانة "الاشرار" ورميهم بكل الموبقات، في حملة دعائية أشد ربما من تلك التي شهدناها بعد احتلال العراق عام 2003؛ في تلك المرحلة تم تصوير الشيعة في العراق وغير العراق على انهم متواطئون مع الاحتلال الاميركي، والقائمون على تلك الحملة هم في اغلبهم اليوم ممن يحضون الاميركي على منابر المسلمين على "ابتغاء الأجر عند الله" وضرب النظام في سوريا، كما فعل في العراق. أما وقد انتهى احتلال العراق بجهود المقاومة على اختلاف توصيفاتها الفصائلية والمذهبية، لا يجد هؤلاء مبررا للتهجم على الشيعة ورفع مستوى الشحن ضدهم سوى مأخذ دعم النظام في سوريا او دعم التسوية السياسية للازمة في سوريا، وهذه التسوية المنشودة يثبت يوميا أنها خيار اكثر واقعية من خيار اسقاط النظام وافضل لشعب سوريا المعذب وأقل كلفة من حربهم العبثية التي يراد منها تصفية حسابات اقليمية وإغراق سوريا في الفوضى ومصادرة موقعها الاستراتيجي.
أولوية الاقتتال الداخلي!
الحملة على المسلمين الشيعة لها ما قبلها ولها ما بعدها، هي كانت قائمة - بدعم من القوى الرجعية العربية - حتى قبل قبل أزمة سوريا وقبل احتلال العراق وكانت تهدف الى "إقناع" القوى الشيعية الحية بأن من الأفضل لها في هذا "البحر السني المعادي" ان تدخل بيت الطاعة الاميركي وتسلك طريقا يوقف الاندفاع في دعم قضية فلسطين. وثمة في الساحة العربية من يتبرع ليتهجم على ايران وحزب الله والشيعة ( لا يميز بعضهم حتى بين المذهب والخيارات السياسية) وينظـّر بأن الشيعة أشد خطرا على السنة (!) من خطر اسرائيل والصهيونية وامريكا. ولعمري، لا تود اسرائيل ان تسمع كلاما غير هذا، ولا شك انها تضحك في سرها وعلانيتها لنشر هذا الخطاب الشوفيني الأرعن الذي يوقد نارا للحرب بين المسلمين أطفأها الله بوحدة جهود المقاومة في لبنان وفلسطين.
أراد السيد نصر الله أن يثبـّت أولوية حضور قضية فلسطين في وعي المسلمين الشيعة على امتداد العالم الاسلامي، لأن هناك اصواتاً دخيلة تقول إن الشيعة ليس لهم نصيب في فلسطين وعليهم ان ينشغلوا بأنفسهم ويفكروا بمصالحهم اولاً، في استعادة لخطاب المصالح القـُطرية الذين انطلق في وقت ما: "مصر اولاً" و"الاردن اولاً" و"لبنان اولاً"، وهي خطابات لم تستقم امام التحديات العاصفة التي تضرب المنطقة والتي تتطلب وعياً بأن المصالح المشتركة بين مكونات الأمة لا تنفصم عراها، ومن الضروري التعامل معها بما تستحق وما تتطلب من تجاوز للمذهبية الضيقة والقـُطرية الضيقة والقومية الضيقة والجهوية الضيقة، وكلها وصفات للتناحر والفشل. أما لماذا تنطلق فكرة فصل الشيعة عن قضية فلسطين؟ فلأجل اقناعهم بأن الخطر الأساسي عليهم يأتي من إخوانهم السنة، في حين انه يمكنهم "التهادن" مع "اسرائيل" وترتيب امورهم مع امريكا، وهو الخطاب نفسه الذي يتوجه به اصحاب الانتماءات الضيقة من السُنة الى ابناء مذهبهم بالقول إن الخطر الاساسي يأتي من الشيعة، مما يبرر تبريد كل انواع العداء لاسرائيل والغرب بل والتعايش معهما. هل هناك أشد سقماً من هذا التفكير وأكثر إفادة لأعداء الامة وأفتك بواقع المسلمين ومصالحهم؟!
يسعى المغرضون بصورة حثيثة الى تفكيك أواصر الامة على أسس مذهبية وطائفية وقومية وجهوية لتمزيقها مرة اخرى الى أجزاء متناثرة، وذلك في الفصل الثاني من مؤامرة تقسيم العالم الاسلامي التي بدأت قبل نحو مئة عام على ايدي الانكليز والفرنسيين. ولأن ما أسمي "الربيع العربي" انطلق من دون أية رؤية سياسية واضحة وأية قيادة جامعة بات بالإمكان استغلاله وتوظيفه في اتجاهات مدمرة.
توظيف الجماعات التكفيرية في مشروع تدميري
الرسالة الثانية لخطاب السيد نصر الله تتوجه الى الجهات الدولية والإقليمية التي توظف الجماعات التكفيرية لغرض استنزاف المسلمين الشيعة والتعرض لهم وصرفهم عن مواجهة الغرب و"اسرائيل"، عسى أن يسهم ذلك في محاصرتهم وإضعاف شوكتهم. هذا اللون من الممارسة عهدناه أيام الإمبراطورية البريطانية التي عملت على مبدأ "فرّقْ تسدْ"، حيث زرعت أفكاراً مسمومة ومللاً مبتدعة ومناخاتٍ مذهبية مريضة بهدف تمزيق المسلمين والحيلولة دون التوجه الى قضاياهم الكبرى وأهمها بناء الذات والاستقلال. ومن المؤسف ان الاميركيين وحلفاءهم لا يُعدمون العون في مخططاتهم للهيمنة على المنطقة من خلال مجموعات يضيق أفق تفكيرها وتنغلق على ذاتها فتعمل على تفخيخ واقع المسلمين وتدميره شيئا فشيئا وهي تظن انها تحسن صُنعاً !
أما بعض القوى العربية التي تعتقد انه يمكنها من خلال التجييش المذهبي وتوظيف بعض الجماعات التكفيرية في سوريا والمنطقة ان تزيد من مكاسبها وتنجو بفعلتها، فهي ترتكب خطأ جسيماً في حساباتها، لأن الفتنة متى عمّت لا تتوقف ارتداداتها عند حد.
مواجهة الحصار والثبات على الموقف
والرسالة الثالثة التي يمكن استشفافها من الخطاب تتوجه تحديداً الى الإدارة الأميركية و"اسرائيل". هذه القوى اذا كانت تعتقد ان اي شيء يمكن ان يصرف المسلمين الشيعة عن التزاماتهم المبدئية تجاه قضايا الامة ويحملهم على بناء مشاريع فئوية خاصة تتحالف مع الغرب للحصول على مرضاته فهي واهمة، والشيعة عموماً- بقيادتهم الحكيمة- مستعدون لأن يتحملوا الضغوط والعقوبات والحظر والتنكيل في سبيل تحقيق الاهداف العامة الكبرى للأمة، وقد فعلوا ذلك على مدى العقود الاخيرة بصبر عجيب. ومن يطلب الكثير عليه أن يتحمل الكثير.
نعم، هناك في الغرب من عمل منذ عشرات السنين لفصل ايران عن القضية الفلسطينية وحاول مساومتها قبل ان يكون لديها برنامج نووي، بأن لا سبيل لرفع الحصار الاقتصادي والسياسي عنها الا بانضمامها الى ركب الاعتدال العربي الرسمي ودعم عملية التسوية مع "اسرائيل". وقد وقفت ايران في التسعينيات بشجاعة لتعبر عن مواقفها المبدئية الراسخة التي لم تتغير ولم تتبدل على مر السنين وقدمت مختلف ألوان الدعم للمقاومة متحملة ًضائقة الحصار، وقد كان بإمكانها ان تنفتح على الغرب وتدير ظهرها لهذا الشرق العربي والاسلامي لكي تحصل على منافع اقتصادية وسياسية عاجلة. لكن التزاماتها القائمة على أسس اسلامية وجعل القدس في اولوياتها الخارجية منذ فجر الثورة الاسلامية يمثلان حصانة لها من الانحراف والزيغ.
وهذا يستعصي فهمه على عرب اميركا واصحاب النظريات السياسية النفعية الذين روجوا ويروجون ان ايران تستخدم القضية الفلسطينية أداة لسياساتها الاقليمية، وهو كلام لا يستقيم مع التجربة الطويلة وحساب الأثمان التي تدفعها ايران من اقتصادها وحضورها على الساحة الدولية وصورتها الاعلامية، حيث تصنفها واشنطن على انها دولة "مارقة" (متمردة على ادارة السيد الاميركي). ومن نافلة القول ان الموقف المبدئي (والسخي بالدعم) الذي التزمته الجمهورية الاسلامية الايرانية هو الرافعة الاقليمية الكبرى التي ساهمت، الى جانب الموقف الصلب للجمهورية العربية السورية وتضحيات المقاومة في لبنان وفلسطين، في تعطيل مشروع الاعتراف باسرائيل والتطبيع الرسمي معها. وهذا الموقف هو نفسه ساهم بقوة – وفق إقرار جنرالات اميركيين- في زعزعة استقرار الاحتلال الاميركي على ارض العراق، ثم في إحباط حصوله على جائز ترضية تتمثل باتفاقية تحفظ له حضورا عسكريا وامنيا في العراق بعد انتهاء أمد الاحتلال.
ومن المسلـَّم به ايضا أن الاعتراض الغربي على برنامج ايران النووي ينبع في الأساس من كون الدولة التي تقوم على هذا البرنامج لا تعترف بـ"اسرائيل"، بل إنها ترفض الاعتراف وتدعم جهود تقويض وجود الكيان الصهيوني. ولو كان موقف ايران غير هذا، لاختلف تعامل الغرب معها. وللتذكير، فان العقوبات الغربية على ايران، والتي يصفها مسؤولون اميركيون "بفخر" بأنها أشد العقوبات الاقتصادية في التاريخ، تقود الحكومة الصهيونية لجامها وهي دعت صراحة الى شل الجمهورية الاسلامية اقتصاديا اذا كان الغرب عاجزا في الوقت الراهن عن شن حرب عسكرية مضمونة النتائج عليها. هذه الحقائق الواضحة ينبغي التذكير بها واستعادتها في هذا المفصل التاريخي حيث يراد تضييع مصالح المسلمين الكبرى لكي يرتاح الغرب المثخن اقتصاديا وعسكريا ريثما يتمكن من استعادة طاقته المنهكة.
لقد كان يوم القدس مناسبة للتأكيد ان بوصلة المقاومة لم تتغير، وهي تميزُ بوضوح أصدقاءها من أعدائها، وتسعى حثيثاً لبلوغ أهدافها مهما اعترضها من صعاب داخلية وخارجية، وان ما يستجدّ من قضايا وخلافات بين قوى الأمة يمكن ان ينتهي يوماً ما بتسويات ومعالجات سياسية، لتبقى فلسطين مركز التحدي الأساسي للأمة الذي من خلاله تعبر الى النصر او تبقى منكـّسة في صحراء التيه. وبالله المستعان.