قرابة منتصف ليل الثلاثاء ـــ الأربعاء، بوشرت إجراءات خاصة من الجانب الفلسطيني للحدود الشمالية مع لبنان. قوة كومندوس إسرائيلية تابعة لإحدى فرق النخبة تتقدم باتجاه السياج الحدودي مع لبنان
وقائع كمين المقاومة قبالة علما الشعب
ابراهيم الأمين
قرابة منتصف ليل الثلاثاء ـــ الأربعاء، بوشرت إجراءات خاصة من الجانب الفلسطيني للحدود الشمالية مع لبنان. قوة كومندوس إسرائيلية تابعة لإحدى فرق النخبة تتقدم باتجاه السياج الحدودي مع لبنان. مجموعة توزعت على أكثر من نقطة، قبل أن تكون جاهزة للعبور بعد نحو عشرين دقيقة. وخط السير، أخذ النقطة الواقعة تحت إشراف أكبر موقعين إسرائيليين في المنطقة الغربية قبالة بلدة علما الشعب الجنوبية: موقع اللبونة، وموقع جل العلام.
ثمة طريق ضيق سبق أن سلكه جنود العدو، وسبق أن ضُبطوا وهم يقومون بأعمال ذات طابع أمني. وفي الطريق إلى داخل الأراضي اللبنانية، ثمة طريق شبه إلزامي، يتطلب عملية التفاف على موقع لقوات الطوارئ الدولية، وبما يبقي المجموعة المتقدمة بعيداً عن أعين نقطة للجيش اللبناني. المسافة الفعلية تلامس ألف متر، احتاج جنود العدو إلى دقائق عدة قبل العبور باتجاه منطقة أخرى، فيها ما يشبه الخندق، حيث سار الجنود من خلفه قبل أن يتقدموا إلى أعلى بقليل. وعند الثانية عشرة وأربعين دقيقة فُجِّرت عبوة ناسفة مربوطة بشرك من 4 عبوات صغيرة محشوة بالكرات الحديدية. وبعدها بعشرين ثانية تماماً، فجرت عبوة ثانية مشابهة، ورُبطت أيضاً بأربع عبوات صغيرة محشوة هي الأخرى بكرات حديدية. ورسم التفجيران دائرة عصف بقطر يصل إلى نحو ثلاثين متراً، كانت كافية لإصابة كل شيء يتحرك في هذه الدائرة من بشر وشجر وحتى الحجر.
جنود العدو المدربون بصورة جيدة جداً على ما ظهر، كانوا موزعين بطريقة تتحسب الاصطدام بكمين. تحركوا مع مسافات فرقت في ما بينهم، بعضهم كان يبدو محتمياً بتلال الخندق إياه، وآخرون كانوا قد انتقلوا إلى مكان آخر أكثر إشرافاً. وخلال دقائق قليلة، تمزقت القوة المتسللة. وحصل إطلاق نار ظل على ما يبدو خارج التداول حتى مساء أمس. لكن فرقة إنقاذ خاصة تدخلت بقوة، وتحرك معها عناصر موقعي اللبونة وجل العلام، ثم سارعت قوة الإسناد إلى إطلاق قنابل مضيئة في السماء، وبدأت عملية الإخلاء. ومع أنّ العدو احتاج إلى وقت غير قصير لإنجاز مهمته، فواضح أنه حرص على إزالة كل الآثار الممكنة. لكن إصابات الجنود والخشية من تعرضهم لضربة جديدة عجلت في الانسحاب وترك آثار الدماء...
بعد نحو 4 ساعات ونصف، كانت ساحة المواجهة خالية من أي ظهور بشري. قوات الطوارئ الدولية لم تحرك ساكناً. قال ضابط بارز في القوة إنّ جنوده أجروا اتصالات سريعة مع الجانب الإسرائيلي، الذي أفاد بأنه لا يوجد شيء مهم، وأنّ التقدير الأولي حول سبب الانفجارين هو احتمال إطلاق ألعاب نارية ومفرقعات. طبعاً لم يتحرك جنود القوة الدولية، وعندما تبلغت قوة الجيش اللبناني في المنطقة أمراً بالتوجه إلى المكان، حاول جنود القوة الدولية مرافقتهم. لكن الجيش طلب منهم التمهل، قبل أن يرسل في طلبهم في وقت لاحق. لكن لم يكن أحد في وارد العثور على شيء. إلا أنّ الذين وصلوا من لبنانيين ودوليين عاينوا مكان المواجهة، وشاهدوا آثار الكرات الحديدية التي أصابت كثيراً من الأشجار، بينما دلت بقع الدماء على طريقة الانسحاب الخاص بالجنود الإسرائيليين. وتقرر قياس حجم الخرق من خلال اعتماد خط نار بين آخر نقطة دماء والخط الأزرق، ليتقرر أن الخرق حصل بحجم 400 متر في العمق اللبناني.
نتائج وخلاصات
يبدو أن القوة الإسرائيلية تقدمت للقيام بمهمة تنفيذية. لم يعرف بالضبط ما الذي خلّفه الجنود وراءهم بعد هذه الزيارة في آخر ليالي رمضان. لكن بين المهمة الأمنية التي سبق للعدو أن قام بها مراراً هناك، وبين احتمال الإعداد لعمل عسكري له خلفية أمنية، يرجّح المطلعون الاحتمال الثاني. لكن ثمة معطيات لا تزال خافية من شأنها كشف هدف هذه العملية، علماً بأنّ من المفيد الملاحظة أن توقيتها يصادف الأسبوع الأخير من حرب تموز الشهيرة. ذلك الأسبوع الذي تحرك فيه العدو من خلال المدرعات والمشاة وتلقى أقسى هزيمة في تاريخه.
العدو أعلن إصابة 4 من جنوده، ثلاثة بجراح متوسطة ورابع بجروح طفيفة. لكن الرقابة العسكرية منعت الأطباء ورؤساء البلديات والمستوطنات والإعلاميين من الحديث عن تفاصيل إضافية. تكفي تصريحات رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه موشي يعلون بما حصل، لتؤكد أن جيش الاحتلال كان بصدد القيام بعملية داخل الأراضي اللبنانية. وكل الإشارات الصادرة عن جانب العدو عن «مهمة لحماية الحدود»، تعني عملياً إقرار العدو بأنه ارتكب حماقة خرق الحدود مع لبنان ووقع في مصيدة، ليس عندنا غير المقاومة من يقدر على نصبها، وعلى صنع العبوات لتنفجر بالإسرائيليين فقط.
إلا أنّ المراجعة الأمنية والعسكرية لدروس الدقائق العشر، سرعان ما صارت في الواجهة وأمام العدو أسئلة محرجة، وهي أيضاً أسئلة برسم من لا يزال يناقش جدوى المقاومة وسلاحها وحقيقة جهوزيتها.
أولاً: بعد نحو ثلاثين سنة من المواجهة المفتوحة بين المقاومة والعدو، لا يزال مسلسل المفاجآت يحبط الإسرائيليين. وها هي 16 سنة مرت على كمين أنصارية الشهير، في أيلول عام 1997، عندما وقعت قوة من النخبة في كمين محكم قبالة ساحل بلدىة أنصارية الساحلية الجنوبية. ومع مرور كل هذه السنوات، لا تزال المقاومة تقول للعدو إنها قادرة على مفاجأته من حيث لا يحتسب.
الذي سيقال مفصلاً في وقت لاحق، هو أنّ القوة الإسرائيلية وقعت في كمين محكم، وأن هناك من كان ينتظرها، وبمعزل عن الأسرار الأمنية والاستخبارية الكبيرة التي رافقت هذه المواجهة، إلا أن العدو يجد نفسه أمام السؤال الصعب: كيف عرف حزب الله بأمرنا؟
إنّ الخلاصة البديهية لدى العدو، هي أنّ المقاومة جاهزة ويقظة، وعلى أتمّ الاستعداد لمواجهة أي خرق من جانبه، وهذه الجاهزية تمنحها عنصر المباغتة والمفاجأة.
ثانياً: إن الكمين المحكم، دلّ على فشل أمني خطير من النوع غير المحتمل عند العدو. فالكمين مدبَّر، يعني أنّ حزب الله يملك منظومة استخبارية مكنته من معرفة موعد وصول الدورية، وطريق سيرها، وبالتالي انتظارها بشرك متفجر ضمن مديات حيوية لأكبر موقعين، هما اللبونة وجل العلام، ما يعني تضاعف الأسئلة: كيف عرف بالمهمة، وكيف تجرأ على نصب كمين في هذه المنطقة، وكيف تمكن من فعل ذلك دون أن نلاحظه، وكيف نجح في تنفيذ عمليته والانسحاب؟
ثالثاً: كشفت المواجهة هذه، ليس فقط عن جهوزية المقاومة الأمنية والعسكرية على طول الحدود الجنوبية للبنان، بل عن ما هو أخطر برأي العدو، وهو وجود قرار بالتصدي لأي خرق، وبالتالي وجود إرادة ليس فقط بالتصدي والاشتباك، بل ما يعني استعداد المقاومة لاحتمال تطور الأمر إلى مواجهة أكبر، وصولاً إلى المواجهة الشاملة. فهل يفكر الإسرائيليون كيف يقوم حزب الله بذلك؟ وهل بمقدور رئيس أركان جيش العدو، بني غنتس، اليوم إعادة شرح نظرية «العباءة المحترقة» التي أسس لها على خلفية أنّ حزب الله مكبوح بسبب انخراطه في الحرب السورية وأنه يخسر العشرات من عناصر نخبته هناك، وأنه تحت ضغط حملة سياسية وإعلامية وأمنية تشنّ عليه داخل لبنان وخارجه؟
رابعاً: بدا أن تكتم العدو على ما حصل، وعمليات القمع الكبيرة التي تعرض لها العسكريون والإعلاميون وأعضاء الجسم الطبي وآخرون لعدم الحديث عمّا حصل والاكتفاء بتصريحات الدائرة السياسية، بدا أن هذا التكتم يخفي حراجة إسرائيل إزاء أمور كثيرة، من بينها أنه يريد حصر الضرر الناجم عن قيامه بخرق السيادة اللبنانية، وهو في هذه الحالة، يبدو كمن «رمى بسطل الحليب» الذي فرح بأنه امتلأ عند صدور قرار الاتحاد الأوروبي بوضع المقاومة ـــ أي ما وصفه الأوروبيون الأغبياء بأنه الجناح العسكري لحزب الله ـــ على لائحة الإرهاب. ماذا سيقول ليبرمان لسفراء الاتحاد الأوروبي؟ وماذا سيقول الأوروبيون أنفسهم عن خرق العدو؟ وهل يدينون الكمين لأنّ من نفذه تنظيم إرهابي بحسب تصنيفهم؟
لكن الهدف الآخر من التكتم، هو «طلب السترة» بسبب الفضيحة الاستخبارية الكبيرة، والفشل العملياتي الذي حصل. علماً أنّ المقاومة لم تكشف بعد عن كامل تفاصيل ما حصل.
بين 14 آذار وأبناء الجنوب
طبعاً، لن يخرج من أفواه قادة 14 آذار أي كلام يندد بالخرق الإسرائيلي، وكل ما يمكن أن يصدر بيانات تافهة يمكن استعارتها من أرشيف «أيام الغشاوة». وطبعاً، سيبلع هؤلاء ألسنتهم في تعقيبهم على ما حصل، ولكن ليس مستبعداً على مجانين من هذه الحفنة الخروج علينا والتقدم بشكوى؛ لأن هناك جهات داخل لبنان خرقت القرار 1701 الذي يمنع وجود أسلحة ومسلحين في منطقة عمل القوات الدولية جنوب نهر الليطاني.
فقط أهالي الجنوب، الذين خرجوا ليلاً إلى سطوح منازلهم ليشاهدوا ما يحصل، ونظروا إلى السماء المضاءة بقنابل العدو وهو يخلي جرحاه من أرض المعركة، سيتذكّرون، عشيّة العيد وصبيحته، أنه بينما كانوا يسهرون بعد الإفطار، انسلّ من بينهم رجال من نبلاء العصر، وذهبوا بصمت وهدوء ليطمئنوا على سلامة الأرض والعرض، ويقوموا بواجبهم تجاه عدو وقح لا يتعلم من الدرس. أنجز هؤلاء الرجال عملهم، ثم عادوا قبل الفجر لتناول السحور مع عائلاتهم، والحديث عن احتفالات الانتصار على العدو في كل آب!
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه