صدر حديثاً عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي كتاب تحت عنوان: "موسى الصَّدر مسار التحدّيات والتحوّلات" لصادق النابلسي وهو من سلسلة أعلام الفكر والإصلاح
صدر حديثاً عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي كتاب تحت عنوان: "موسى الصَّدر مسار التحدّيات والتحوّلات" لصادق النابلسي، (ط.أولى – بيروت 2013). وهو من سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي التي تندرج في سياق إصدارات مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي.
ويتضمن هذا الكتاب ستّة فصول ومقدمة إضافة إلى كلمة المركز التي جاء فيها: الإمام موسى الصدر اسم لمع في سماء لبنان ووصلت أصداء بريقه إلى العالم كلّه حتّى لا تكاد تجد من له أدنى إلمام بتاريخ لبنان والمنطقة العربية والإسلامية إلا وسمع به بشكل أو بآخر. والحديث عن هذا الرجل ذو شجون، فمن أين تبدأ؟ أَمِنَ الصدر العالم الذي شهد له كثير من أقرانه بالنباهة وسعة العلم في المجالات التي خاض غمارها تحصيلاً وانشغالاً علمياً في ساحات العلم والتعليم في الحوزة والجامعة؟ أم من الصدر الناشط الاجتماعي والمصلح الذي غادر موطنه وعاد إلى موطن الآباء والأجداد في هجرة معاكسة، ليتخذ من لبنان ساحة لاختبار رؤاه وتصوّراته، وميداناً لتحقيق ما كان يصبو إليه من طموحات.
وقصّة مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي مع السيد موسى الصدر طويلة، فقد كنا خططنا لإصدار عمل علمي عنه الأيام الأولى لتأسيس المركز وانطلاق نشاطه، ولكن ولأسباب عدة تعثّرت تلك المحاولات ولم يكتب لها النجاح، إلى أن غلبت إرادة الله وكان هذا الكتاب الذي هو حلقة عزيزة من حلقات سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي. لسنا ندّعي في هذا الكتاب أننا وفّينا الرجل حقه، كما لا ندّعي الإحاطة وتسليط الضوء على كل ما يستحق أن يسلّط الضوء عليه من أبعاد هذه الشخصية الجامعة الفذّة، وكل ما ندّعيه هو شرف المحاولة والرغبة في أداء الحق لمن يستحق أن يُدرج اسمه بين أعلام الفكر والإصلاح.
وجاء في مقدمة الكتاب: تحاول هذه الدراسة في الجزء الأول منها تجلية الأهداف التغييرية للإمام موسى الصدر عبر مشبكة المنهج الإسلامي بمضمونه الأخلاقي والديني العميق، ومتابعته في مقارباته الدينية للمسائل السياسية والثقافية والاجتماعية والتنموية، والالتفات إلى فرادة هذا المسعى التجديدي في منطقة تحتدم بالمصالح والتجاذبات المحلية والإقليمية والدولية وتزخر بالاعتبارات والرهانات الجيو سياسية أو الجيو دينية التي حكمت نوعية المواقف والتحركات والتحالفات في الفترة التي عايشها. كما ركَّزت على دراسة العوامل الفاعلة والأنماط المؤثرة في تحديد سلوكيات بعض الجماعات والدول التي كان لها نصيب وافر من التأثير على الساحات التي عمل بها.
كما إن ما اهتمت به هذه الدراسة يرتبط ارتباطاً عضوياً بقضية تجديد الإيمان وإحيائه في قلوب المسلمين الشيعة اللبنانيين، وفي تجميع كلمتهم وتوحيدها لتوفير رؤية إيديولوجية تقوم على مضاعفة المعطى الديني والإيماني في مسار التغيير والإصلاح، وفي مضمار الاقتدار الوطني، وتعزيز مكانة الشيعة داخل لبنان على مختلف المستويات.
إن زعامة الصدر القيادية شكلت على الدوام عاملاً حاسماً في نوعية التغيير وأنماطه واتجاهاته، وهي من دون مبالغة شكلت صدمة إيجابية قادت الطائفة الشيعية ولبنان إلى ولوج لحظات استثنائية في تاريخهما. ويمكن ملاحظة خمسة أبعاد على الأقل ترسو عليها حركة التغيير هذه: الإيماني، البعد العقلاني الواقعي، البعد المنهجي التنظيمي، البعد الرسالي، البعد العملاني. وفي جميع هذه الأبعاد سعى الصدر إلى تقديم تصور جديد إزاء القيم والاتجاهات الفكرية والسياسية والاقتصادية السائدة، وإزاء الطائفة والكيان اللبناني.
إلا أن الأمر الجدير بالملاحظة هنا لا يتعلق بالسجل الذهبي لما قام به الصدر من منجزات على الرغم من أهميتها، بل بالتراكم السريع لتجربته وفعاليتها، وميدانية حركته الشمولية المتسارعة والمتواصلة والمتكاملة، التي شقت طريقها وسط معوقات كثيرة ومتاعب جمّة وإشكالات واعتراضات عادة ما ترافق المناهج الإصلاحية الجديدة التي شكلت أبعادها القيمية والزمانية والمكانية ارتدادات وهزات عنيفة لواقع راكد انطوى على تقاليده وعاداته وعمل لحمايتها وحراستها من أي مس أو تبديل.
إن الإمام بدأ نشاطاً إصلاحياً مكثفاً على أكثر من مستوى: المستوى الديني، المستوى الاجتماعي، المستوى السياسي، المستوى الثقافي. وفي غمرة البحث في هذه العناوين نحاول تحديد معالم مشروع الصدر ومفرداته ومجالاته، وقراءتها كحلقة من حلقات الصعود الإسلامي في المنطقة، خصوصاً أننا نعتبر أن حركة الصدر مرتبطة بآفاق المشروع التغييري الإسلامي في كل من إيران بقيادة الإمام الخميني، وفي العراق بقيادة الإمام محمد باقر الصدر.
وفي إطار الدراسة ومشروع البحث تعدّ المرحلة الزمنية ما بين 1959، تاريخ مجيء الإمام الصدر إلى لبنان، 1978، تاريخ اختطافه، من المراحل التي تشكلت تحت وقع متغيرات هائلة عصفت بالوطن العربي، وتميزت بأحداث متفجرة شهدها لبنان من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه كشفت عن ديناميكيات العنف وانسياق اللبنانيين وراء لعبة عدمية قاتلة.
وفي هذه الظروف برزت الحركات الإسلامية التي امتدت عمودياً وأفقياً، على طول الخارطة العربية بل وأبعد منها إلى العالم الإسلامي الرحب، وكان للبنان نصيب من هذا التمدد من خلال ظاهرة الإمام موسى الصدر الذي أدخل الإسلام الحركي كمعطى ثابت وأساس ضمن مشروع النهوض بطائفته، وسعى لها لتكون شريكاً سوياً مع بقية الطوائف في ظل دولة عادلة لجميع اللبنانيين، وعمل على استعادة الارتباط بالأمة من خلال أقوى العلائق التي تجمع أبناءها في وحدتهم وتاريخهم وهويتهم الحضارية، وعلى تأسيس موقع لشيعة لبنان يتصل ويتفاعل مع المجالين الإيراني والعراقي لما لهذين المجالين من رمزية وخصوصية في وجدان الشيعة عموماً، وراح يضع مفاهيم جديدة في سياق مشروع يستند إلى الفكر الإسلامي في تطوير مناهج الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي وآلياته، وفي حل النزاعات الطوائفية التي شكلت عاملاً من عوامل تفجّر الحرب الأهلية اللبنانية.
إن المرتكز الفكري الذي انطلق منه الصدر يقوم على فرضية تقول إن أي تحول في الظاهر والبنى الفوقية لا بد من أن يستند إلى تحول في الأسس والبنى الفكرية التحتية للإنسان. وبحسب الصدر فإن الانحطاط الفكري والثقافي والسياسي والاجتماعي الذي أصاب المجتمع اللبناني، ما هو إلا نتيجة للبعد عن المفاهيم الدينية، وتسلط الغرائز الطائفية والعصبيات المذهبية وحلول، الزبائينية والزعامتية محل نظام القيم الدينية. من هنا، تفترض هذه الدراسة أن الصدر حاول تقديم خطاب جديد على المستويات السياسية والاجتماعية والوطنية والدينية والإنسانية، وسعى لإيجاد الحلول المناسبة على أساس من الدين والفلسفة والأخلاق.