بعد أشهر رحل مؤسّسها وملهمها جوزف سماحة بعدما وضع الأساسات الأخلاقيّة التي نحرص مع مرور الوقت على الوفاء لها وتطويرها. كثيرون راهنوا على نهاية «الكابوس» الذي يقضّ مضجعهم سياسياً ومهنيّاً
هيئة التحرير / جريدة الأخبار
لم تكن الحياة سهلة على «الأخبار»، منذ انطلاقتها يوم ١٤ آب ٢٠٠٦. وتلك حلاوة التجربة، ذلك سرّ المعادلة السحريّة!..
بدأت الجريدة على شكل مغامرة طموحة، غير مضمونة النتائج، يوم تحلّقت مجموعة منوّعة من الصحافيّات والصحافيين الشباب حول جوزف سماحة وإبراهيم الأمين وخالد صاغيّة وإميل منعم... كان ذلك تحت قصف الطائرات الاسرائيليّة التي اغتصبت سيادتنا بمباركة معظم «الديمقراطيّات الغربيّة» ذات صيف حارق، قبل أن تُهزَم مثل مارد الكرتون في اليوم نفسه الذي شهد صدور العدد الأوّل من «الأخبار».
وما هي إلا أشهر حتّى ملأت الجريدة فراغاً محسوساً على الساحة الاعلاميّة، وباتت ـــ باعتراف الخصوم قبل الأصدقاء ـــ حالة رائدة في الصحافة اللبنانيّة والعربيّة، يصعب تجاهلها. نضجت التجربة بإمكانات مادية قليلة، وتطلّعات عظيمة، وطاقات مهنيّة وفكريّة هائلة، وباتت مدرسة يحاول الجميع تقليدها في الشكل والمضمون. لكن، لسوء حظ بعض الزملاء والأصدقاء و... قطّاع الطرق والمقلّدين، الجرأة ليست صرعة، والريادة لا تقتصر على المظهر الخارجي، والنقد ليس استعراضاً، والابتكار لا يعترف بوصفة جاهزة، والحريّة ليست حفلة تنكريّة، والتقدّمية لا تكتفي بشعار «المجتمع المدني»، والوطنيّة لا تختصر إلى حلقة زجليّة!..
هذا ما لم يفهمه كثيرون ممن بنوا مشروعهم على قرصنة «الأخبار»، أو سرقة أفكارها ومقالاتها وصحافييها، أو محاصرتها اقتصاديّاً واعلانيا، أو عزلها سياسيّاً، أو أبلستها مهنيّاً وأخلاقيّاً. وهذا لا يفهمه حاليّاً الذين يخطّطون في المستقبل القريب لـ «كسرها» بعشرات ملايين الدولارات، معتمدين على حفنة من السذّج في أفضل الأحوال، وأصحاب الوعي المشوّش، لكي لا نقول الحاقدين والمرتزقة...
لم تكن الحياة سهلة على «الأخبار». الحصار الاعلاني كان ولا يزال فظيعاً، والحرب المعنويّة بلا هوادة، تخلّ بأبسط قواعد التعدديّة وقوانين الليبراليّة واقتصاد السوق. بعد أشهر رحل مؤسّسها وملهمها جوزف سماحة بعدما وضع الأساسات الأخلاقيّة التي نحرص مع مرور الوقت على الوفاء لها وتطويرها. كثيرون راهنوا على نهاية «الكابوس» الذي يقضّ مضجعهم سياسياً ومهنيّاً، لأنّهم لا يملكون الجرأة، ولأنّهم غير مسكونين بهاجس التمرّد والتجاوز والتقدّم.
لأنّهم غير قادرين على تجاوز الانعزاليّات والعصبيات المختلفة، لأنّهم غير مستعدّين لأن يشهدوا للحق مهما كان الثمن مكلفاً. عاشت الجريدة مع تناقضات بيئتها ومجتمعها وزمانها، تبعاً لمعادلة مركّبة أدهشت الكثيرين، واصطدمت لدى بعضهم بجدار التشكيك والتأويل ونظريّات المؤامرة. نشرت ما لا يجرؤ على نشره أحد، وفضحت البنى المترهّلة والفاسدة، وأشارت بأصابعها الفتيّة إلى آفات الجهل والتعصّب والاستبداد، إلى العدوّ الأعظم: الكيان الصهيوني الاستعماري الذي يحجب عنّا ضوء الشمس، ويمنع كل تطلعات التنمية والنهضة والتحرر.
واجهت كل أنواع الضغوط والتحديات، وحاولت جاهدة أن تبقى وفيّة للخط الذي رسمته لنفسها. لعلّها أخفقت مرّة ونجحت مرّات، لكنّها لم تُضع البوصلة التي تشير إلى دولة القانون، وإلى قيم الحريّة والعدالة. وإلى بيت المقدس. وصل الامر بالسفارة الاميركية ومؤسساتها الى «خداع» مؤسسات اعلانية بأن «الأخبار» ذراع لارهاب حزب الله ويمنع نشر الاعلانات فيها. هُدد موظفون بالفصل من اعمالهم ان تواصلوا معها، كما هدد مستفيدون من دعم مؤسسات التنمية الاميركية في حالة ضبطهم يتعاملون مع «الأخبار» مباشرة او غير مباشرة. حتى فرنسا، ام الديموقراطية، قررت انها جريدة معادية، ممنوع عليها ما هو مسموح للآخرين. هذه هي الديمقراطيّة حسب العم سام وبرامجه التي أغرقت المنطقة بالمال المغمّس بالدم. هذا مثل بسيط على الارهاب الذي أثنى رجال أعمال مؤمنين بالجريدة عن الاعلان فيها، يعطي فكرة عن الضغوط الهائلة التي نتعرّض لها كل يوم «ومع ذلك تدور»، كما قال كوبرنيك على المقصلة في مواجهة ظلاميي القرون الوسطى.
لم تكن الحياة سهلة على «الأخبار» التي آمنت بـ«الربيع العربي» وحملته على الراحات، قبل أن تكتشف الخديعة الكبرى التي ذهبت ضحيّتها شعوب تحلم بالرغيف والكرامة. الجرح السوري كان الأكثر إيلاماً داخل الجريدة، كما هو بالنسبة إلى كل العرب. ترك بصماته على هيئة التحرير التي خاضت النقاش بشفافيّة نادرة لا تعرفها المؤسسات الاعلاميّة العربيّة. خسرنا على الدرب شركاء أساسيّين ما زلنا ننتظر عودتهم، وصحونا من نشوة المراهقة وطيشها على مشهد الخراب العربي والحروب الأهليّة، ووصاية الرجعيّات الاقليميّة والاستعمار الجديد الذي يسعى الى أن يستبدل بالواقع السيئ أسوأ منه. عشنا التمزّق بين «الحريّة» و«الضرورة»، بعضنا رفض أن يكبر وفضّل التمديد لمراهقته السعيدة، وبعضنا الآخر استخلص الدروس وواصل المشوار على الدروب الشائكة والملتوية...
لم تكن الحياة سهلة على «الأخبار» في يوم من الأيّام، ومع ذلك ها هي هنا اليوم بين أيديكم، ككلّ صباح تجربة فريدة، كل من عبرها لم يتمكّن من الشفاء منها. هناك وصفة سحريّة صنعت «الأخبار»، وما زالت تساعدها على مخر عباب اللجة الهائلة في هذا الزمن الصعب. الاستقلاليّة والموضوعيّة مشروع طموح طويل النفس، لا يتحقق بين ليلة وضحاها. لم نتردد يوماً في ارتياد الأقاليم الخطرة، والمناطق الصعبة، والقضايا الاشكاليّة، وحقول الألغام، باسم المبادئ التي آمنّا بها، وانطلاقاً من تصوّر معيّن لعالم عربي آخر عادل ومنفتح ومتعدد وفخور بهويّته وقادر على الدفاع عن مصالحه وحقوقه المشروعة. اليوم تقف «الأخبار» التي لم تخسر شيئاً من حماستها واندفاعها وايمانها بقيم حوزف سماحة، تقف وحيدة عارية في وجه العاصفة.
رغم مصاعبها المختلفة، تنتصب بوجه التنين الزاحف لشراء الضمائر واحتواء الطاقات وتخدير العقول وتدجين الغضب الشعبي واغراق مشروع التغيير والمقاومة في مستنقع من الدولارات. تقف وتمدّ لسانها بنزق لقوى الرجعيّة، وترفع شارة النصر. كما في حكايات ابن المقفّع... على الفيل أن يعرف أنّه لن يغلب القبّرة.