بينت إدارة الحرب أن القيادتين السياسية والعسكرية في تل ابيب، كانتا بعيدتين عن وعي الواقع القائم وبالغتا في تقدير القوة الاسرائيلية وعرضتا أهدافا يتعذر تحقيقها.
حلمي موسى / جريدة السفير
يصعب القول إن حرب تموز رفعت أسهم أي من قادتها أو خلقت منهم شخصيات أكثر نفوذا وتأثيرا. فرئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه، إيهود أولمرت، اضطر لترك منصبه تحت ضغط اتهامات أشار كثيرون إلى أنها لم تكن لتثار لو كانت نتائج حرب تموز أفضل من الوجهة الإسرائيلية.
أما وزير الدفاع، عمير بيرتس فقد أسقط عن زعامة حزب العمل، واضطر في بحثه عن دور سياسي إلى الالتحاق بوزيرة خارجية تلك الحرب تسيبي ليفني التي أنشأت حزب «الحركة» بعد إسقاطها عن زعامة كديما. أما رئيس أركان الحرب، الجنرال دان حلوتس، فحدث عنه ولا حرج، إذ كاد يكون صفرا ولم تر فيه أي من الأحزاب السياسية ذخرا انتخابيا، وربما أنها خشيت أيضا من آثاره السلبية.
بينت إدارة الحرب أن القيادتين السياسية والعسكرية في تل ابيب، كانتا بعيدتين عن وعي الواقع القائم وبالغتا في تقدير القوة الاسرائيلية وعرضتا أهدافا يتعذر تحقيقها. وبديهي أن النتيجة كانت الفشل الواضح الذي قاد إلى السقوط وتدهور أسهم شعبية كل من هؤلاء بحيث يصعب العثور تقريبا على قيادي اسرائيلي نجا من لعنة «حرب لبنان الثانية».
ولقد أدلى كل خبير في إسرائيل برأيه السياسي أو العسكري الذي دان فيه قادة الحرب. قلة قليلة فقط حاولت أن تجد أعذارا لهذا أو ذاك من القادة ولكن كل هذه الأعذار لم تغير من الأمر شيئا. فالصورة كانت ولا تزال صورة مجموعة من الفاشلين الذين قادوا إسرائيل نحو حرب خاسرة. ومعروف أن الإسرائيليين نشأوا على فكرة أن إسرائيل لا تحتمل الهزيمة وأن الخسارة عندما تكون كبيرة تغدو أقرب إلى الهزيمة. لهذا السبب كان الأثر بالغ السلبية في موقف الجمهور الإسرائيلي من الأشخاص الذين قادوا تلك الحرب، على الأقل في المواقع المؤثرة.
وقبل الدخول في مآل كبار القادة لا بد من الإشارة إلى أن توصيات لجنة فينوغراد بخصوص طرق اتخاذ القرار لا تزال تخيم على اجتماعات الحكومة الإسرائيلية وتوصياتها في كل ما يتعلق بالأمن. كما أن القيادة العسكرية الإسرائيلية وبرغم كل محاولات ترميم صورتها لا تزال متأثرة بتلك الحرب خصوصا سلوك الرجل الذي أوكلت له مهمة إعادة الجيش إلى جاهزيته وهو الجنرال غابي أشكنازي، الذي أعيد من الخدمة المدنية. وثمة من يستشهد بـ«وثيقة هرباز» التي بينت حجم المؤامرات الداخلية التي تنسج في القيادة العسكرية والتي كانت على وشك إدخال أشكنازي دائرة التحقيق الجنائي وربما السجن.
في كل حال، كان جليا أن بين نتائج حرب تموز على الصعيد الشخصي اضطرار كل من رئيس الأركان دان حلوتس، وزير الدفاع عمير بيرتس وعدد من كبار الضباط أبرزهم قائد الجبهة الشمالية الجنرال أودي آدم الى الاستقالة. وحده رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، رفض الانصياع لمطلب الجمهور الإسرائيلي بالاستقالة وظل حتى سقوطه عن زعامة حزبه يرفض الاعتراف بوقوع إخفاقات جوهرية. وتعاظمت لدى الجمهور الإسرائيلي خيبة الأمل والحقد على هؤلاء أكثر بسبب حجم التأييد الشعبي الهائل الذي حظيت به الحرب وشدة الخيبة من نتائجها. وهذا ما دفع إلى رفض الجمهور لجان التحقيق الفرعية التي عمد الجيش أو وزارة الدفاع لتشكيلها ونشأت حركة شعبية ضغطت من أجل تشكيل لجنة تحقيق رسمية، فكانت «لجنة فينوغراد» التي تحدثت في استنتاجاتها «عن إخفاقات خطيرة على المستويين السياسي والعسكري»، حملت مسؤوليتها عددا من القادة الاسرائيليين وأبرزهم ايهود أولمرت، عمير بيرتس ودان حلوتس.
أولمرت: طموح كبير.. وفشل أكبر
ولد إيهود أولمرت في العام 1945 وشغل منصب رئيس الحكومة الثاني عشر لإسرائيل بعد أن كان قد خدم في العديد من المناصب الوزارية ورئاسة بلدية القدس. ويمكن القول ان وصوله إلى رئاسة الحكومة جاء عن طريق الصدفة بعد أن انشق مع رئيس الحكومة الأسبق أرييل شارون عن الليكود وأنشآ حزب كديما. وقضى أولمرت أغلب تاريخه السياسي بين صفوف الجناح المتطرف في الليكود إلا انه كان بين الحين والآخر، ولدوافع سياسية يخرج من الليكود ليعود إليه.
وبرغم أن أولمرت من عائلة تنقيحية حيروتية إلا انه كان بين أوائل المتمردين على المؤسسة الحزبية. وكان في الحادية والعشرين من عمره عندما تحدى الزعيم التاريخي لحيروت، مناحيم بيغين وطلب منه الاستقالة من زعامة الحزب. بعدها انشق عن الليكود ليلتحق بالمحامي شمعون شامير في حزب «المركز الحر» الذي غدا في العام 1973 أحد مكونات التكتل (الليكود) عند إنشائه. وبرغم طموحاته الكبيرة لم ينل في الليكود منصبا أكبر من منصب وزير التجارة والصناعة. وفي الانتخابات التمهيدية الأخيرة لأولمرت في الليكود لم ينل سوى المكان الثاني والثلاثين لكن أرييل شارون قرر تعيينه وزيرا بفضل علاقتهما الحميمة. ووجد أولمرت فرصته عندما راهن على نجاح شارون في خطة الفصل وانضم إليه عندما شق الليكود ليشكل حزب كديما.
ومعروف أن بقاء شارون في رئاسة الحكومة الإسرائيلية لم يطل بعد تشكيل كديما وجاءت «غيبوبته» الكبرى لتجعل من أولمرت رئيسا للحكومة بالوكالة. وقد ترسخت زعامة أولمرت لكديما بعد الانتخابات التي جرت في العام 2006 وصار يتعامل كزعيم. ومن الجائز أن افتقار أولمرت للتاريخ العسكري حيث لم ينل رتبة ملازم إلا وهو في القوات الاحتياطية وبشكل استثنائي فإنه مال لاستسهال العمل العسكري. وهكذا في عهده شن على الأقل حربي تموز 2006 وحرب غزة 2008. واتسمت الحروب التي قادها بالوحشية والشدة لكنها لم تحقق الأهداف التي سعى إليها. وفي كل حال، فإن أداءه في حرب تموز جلب له أشد الانتقادات وساهم في إسقاطه لأسباب جنائية. ولم تشفع له حتى قراراته التي قادت إلى عدد من العمليات العسكرية السرية وبينها ما قيل انه تدمير لمفاعل نووي سوري سري.
ونظرا للصورة السيئة لخطة الفصل في نظر الجمهور الإسرائيلي الذي يميل لليمين فإن مساعي أولمرت للتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين لم تنل أي تقدير. اشتهر أولمرت في شبابه بمحاربة الفساد لكنه كان رئيس الحكومة الأول في تاريخ إسرائيل الذي تقدم ضده لوائح اتهام بالفساد أثناء توليه الحكم وهي اللوائح التي كانت سببا في استقالته قبل أن يدان في بعضها ويبقى عرضة للمحاكمة بسبب بعضها الآخر حتى الآن. كما أن تقرير لجنة فينوغراد الذي انتقد أداء أولمرت بشدة ساعد في نشوء حركة شعبية تظاهرت مطالبة باستقالته من رئاسة الحكومة وهو ما حدث فعلا.
بيرتس الأول يصبح الأخير :
ولد عمير بيرتس في المغرب في العام 1952 باسم آرموند بيرتس وهاجر إلى فلسطين مع عائلته وهو في الرابعة من عمره. وتلقى بيرتس تعليمه في سديروت المجاورة لقطاع غزة وهو يقيم فيها حتى اليوم. خدم في الجيش ووصل الى رتبة نقيب في سلاح المظليين وأصيب بجراح بليغة أثناء خدمته في سيناء. وكان أول عمل عام له توليه منصب رئيس بلدية سديروت في العام 1983 عن حزب العمل. وركز اهتماماته العامة على الجوانب التعليمية والاجتماعية وهو ما قاده إلى العمل النقابي العام حيث غدا عضوا في الكنيست في العام 1988. وفي العام 1994 حاول أن يترشح عن حزب العمل لرئاسة نقابة العمال العامة (الهستدروت) لكنه لم يفلح. وفي العام التالي، ائتلف مع حاييم رامو وأنشأ كتلة منفصلة في الهستدروت فازت بالرئاسة التي سرعان ما تخلى عنها حاييم رامون ليغدو بيرتس رئيسا للهستدروت.
شكل الهستدروت خشبة قفز لبيرتس نحو الحياة السياسية حيث صار يتطلع لزعامة حزب العمل. وعندما فشل شكل في العام 1999 حزب «شعب واحد» وانشق عن حزب العمل. وخاض دورتين انتخابيتين نجح خلالهما في تثبيت نفسه في الكنيست. وعاد للاتحاد مع حزب العمل في العام 2005 وتنافس على زعامة الحزب وهزم شمعون بيريز الذي انشق وانضم الى حزب كديما.
حقق بيرتس لحزب العمل مكسبا انتخابيا جعله شريكا لكديما في انتخابات العام 2006 وغدا نائبا لرئيس الحكومة ووزيرا للدفاع. وبديهي أن خبرة بيرتس العسكرية كانت محدودة، ما جعله مع رئيس حكومته العديم الخبرة العسكرية أكثر ميلا للعدوانية برغم الميول الحمائمية من الوجهة السياسية. وهكذا اندفع بيرتس الى التهديد وإلى حرب تموز. وشهد دان حلوتس أمام لجنة فينوغراد بأن بيرتس هو من أمر بقصف مخازن صواريخ «فجر» في جنوب لبنان في بداية حرب 2006 على النقيض من توصية الجيش الإسرائيلي، وهو ما أوقع الكثير من الإصابات في صفوف المدنيين اللبنانيين.
أطيح ببيرتس عن زعامة حزب العمل في حزيران 2007 ولم يفلح في انتخابات الكنيست المبكرة اللاحقة إلا في الوصول الى المكان العاشر في قائمة حزب العمل. وعندما عادت تسيبي ليفني للحياة السياسية بعد تشكيلها حزب الحركة، انضم إليها وهو يحتل اليوم منصب وزير دولة في حكومة بنيامين نتنياهو.
حلوتس: عبء يختفي عن الأنظار
ولد داني حلوتس في العام 1948 وغدا رئيسا لأركان الجيش الإسرائيلي في حزيران 2005 وبقي في المنصب حتى شباط 2007. وكان آخر مناصبه قبل رئاسة الأركان قيادته لسلاح الجو الإسرائيلي وتعيينه نائبا لرئيس الأركان. وقد أوكلت له كرئيس للأركان مهمة تنفيذ خطة الانفصال عن قطاع غزة. وكان حلوتس أول رئيس للأركان لا يأتي من القوات البرية ويكون طيارا.
تجند حلوتس في العام 1966 وأنهى تدريباته كطيار في تموز 1968 وغدا بين أوائل الطيارين الإسرائيليين الذين قادوا طائرات الفانتوم في العام 1969. وقد ترك الخدمة العسكرية النظامية قبل شهرين من حرب تشرين 1973 لكنه جند للخدمة الاحتياطية كطيار على الجبهتين السورية والمصرية وبقي في الجيش بعدها. وشارك في الحرب على لبنان في العام 1982 لكن نجمه بدأ في البروز عندما اختير رئيسا للوحدة العملانية في مشروع صنع طائرة «لافي» الإسرائيلية. وبعد ذلك خدم في مناصب قيادية في سلاح الجو وصولا الى ترفيعه لرتبة جنرال وتعيينه نائبا لرئيس شعبة الأركان وبعدها رئيسا لشعبة العمليات. وفي العام 2000 غدا قائدا لسلاح الجو.
وخلال قيادته سلاح الجو، أجرى حلوتس تغييرات بنيوية على السلاح واستوعب طائرات اف 16 ووسع من استخدام الطائرات من دون طيار وتقنيات الرصد الحديثة. وخلال قيادته سلاح الجو توسعت بشكل كبير عمليات الاغتيال من الجو في الأراضي الفلسطينية المحتلة وخارجها وأنهى خدمته باغتيال الشهيد أحمد ياسين. واتسمت الاغتيالات في عهده بالوحشية وأبرزها اغتيال الشهيد صلاح شحادة باستهداف بيته بقذيفة بوزن طن في العام 2002 وقد أودت بحياة 14 مدنيا أغلبهم من الأطفال.
واشتهر في حينه بالإعراب عن إحساسه تجاه هذه العملية بقوله ان ما حصل «لم يكن أكثر من هزة في ذيل الطائرة». وأثار موقفه هذا ردود فعل كثيرة وصلت حد اتهامه بارتكاب جرائم حرب ورفض تعيينه رئيسا للأركان.
لكن تم تعيينه لأسباب سياسية بينها خطة الفصل ولأسباب عملياتية بينها محاولة تحديث الجيش الإسرائيلي ورفع مستواه التقني إلى مستوى سلاح الجو. وفي عهده كرئيس أركان تم تبني أساليب الحرب الجوية التي اعتمدتها أميركا وحلف الناتو في الحرب في يوغوسلافيا. لكن حلوتس طور هذه الأساليب إلى ما بات يعرف بـ«نظرية الضاحية» والقائمة على مبدأ التدمير الشامل ومن دون قيود لتوفير الردع والحسم السريعين.
حاول حلوتس تنفيذ نظريته في «حرب لبنان الثانية» من خلال الغارات الوحشية الجوية والبحرية والقصف المدفعي والصاروخي والقليل من الحركة الميدانية. وكانت هذه النظرية تتطلع إلى تحقيق هدف يعرف بـ«صفر إصابات» في صفوف القوات الإسرائيلية. لكن النتائج كانت عكس ذلك. فلم يتحقق في «نظرية الضاحية»، لا الردع ولا الحسم ولم تتقلص الإصابات في صفوف قواته.
وعجزت القوة النارية الإسرائيلية الهائلة عن وقف تساقط الصواريخ على إسرائيل، الأمر الذي أدخل ما لا يقل عن ربع سكان الدولة العبرية في الملاجئ وفتح الباب لتوسيع الدائرة.
ولذلك كانت النتيجة المزيد من الإحساس بالخيبة عموما ومن أداء حلوتس والجيش الإسرائيلي خصوصا. واضطر حلوتس للاستقالة إثر توصيات لجنة فينوغراد. وحاول الانخراط في الحياة السياسية لاحقا لكنه أحس بأن كل القوى السياسية تشعر بأنه عبء وليس ذخرا فاختفى عن الأنظار.