لن ينسى كل العالم بلاغة وصدق تلك العبارة العابرة للحدود والقلوب الخارجة عن مألوف اللغة ومعاجمها وقواميسها، التي اختصر حضورها كلّ كلام الدنيا واختزل كلّ خطاب الناس لازمة الحاجة كاملة "فدا إجر المقاومة"
إن كان للمقاومة رواياتها فإن لأهلها قصصهم وحكاياهم، فغالباً ما قرر أهالي البلدات والقرى الجنوبية الصمود في ديارهم والشد من أزر مجاهديهم وعونهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولم يكن ليخرجوا منها إلا بعد أن تشتد المعارك حدةً وعنفاً وضراوة، أو بناءً على تمنياتٍ من المجاهدين أنفسهم.. لكي لا يكونوا عائقاً لعملهم أو سبباً في تشتيت جهدهم وجهادهم..
من بين تلك العائلات، عائلة الحاجة أمل بيضون من بلدة بنت جبيل، التي بقيت صامدة في منزلها في مدينة بنت جبيل حتى أكمل العدوان يومه الثالث عشر. حينها غادرت البلدة مع عائلتها تحت وطأة الضربات الجوية الجنونية والقصف المدفعي الهمجي، وانتقلوا على مدى ساعات طوال عبر طرق مقطوعة وأخرى وعرة أو مستحدثة وثالثة التفافية عبر مناطق جبلية إلى مدينة جبيل الساحلية. يومها كان الموت يتربص بهم في كل لحظة عبر طائرات العدو الحربية والاستطلاعية، وتصل إليهم في كل ساعة أخبار قتل مدنيين آمنين، لم تُفرق آلة الحرب الإسرائيلية بينهم وبين المقاومين، فتحصدهم حقداً وغدراً.
في جبيل، كانت تتابع أخبار المعارك وإنجازات المقاومة لحظة ً بلحظة وساعةً بساعة، عمليةٌ للمقاومة هنا، واعتداء هناك، شهداء لنا، وقتلى لهم، تأسى لهذا وتفرح لذاك.. ولكن ما عرفت - كما الكثيرين والكثيرات ممن نزحوا قسراً عن مدنهم وقراهم - طعم الراحة ولم يهدأ لها بال، فقلوب الجنوبيين وعقولهم كانت هناك، حيث تركوا المقاومين يدافعون عنهم ويصدون العدو عن ثغور الجنوب.. تركوهم مع دعاء بالنصر والتسديد، وما ارتحلوا عنهم.
تستعيد لحظات يوم الرابع عشر من آب العام 2006، يوم الولادة الجديدة، يوم النصر الكبير الذي سُجل ناصعاً في صفحات عز الأمة. يومذاك - كما عشرات، بل مئات الآف من الأهالي النازحين قسراً عن أرضهم وبلادهم - كانت تشد العزم وتيمم وجهها شطر ضاحية بيروت الجنوبية والجنوب اللبناني، فهوى القلب جنوبي والنصر جنوبي، وهو ما زال مذ كان.
لم تعبأ - كما كل الجنوبيين - بكل التهديدات والتحذيرات من الموت الكامن في آلاف القنابل العنقودية ومن عدم تسجيل نهاية للعمليات الحربية، فهي لن تنسى ولن ينسى كل العالم بلاغة وصدق تلك العبارة العابرة للحدود والقلوب، الخارجة عن مألوف اللغة ومعاجمها وقواميسها، التي اختصر حضورها كلّ كلام الدنيا واختزل كلّ خطاب الناس لازمة الحاجة كاملة "فدا إجر المقاومة"، تلك العجوز الجنوبية الآتية من نزف الجرح وعمق المعاناة، من "عيناثا" الناطقة بلسانها ولسان كل أخواتها وجاراتها، النابض قلبها صدقاً بحبّ المقاومة وسيدها.. هي اللغة التي - على بساطتها - عجز العالم عن أن يفهم سرّها وأن يدرك كُنه معناها!!..
كيف لكل هذه الجراح وكل هاتيك الآلام ألا تفتّ عضد هذا الشعب، وكيف يمكن لسيل الدماء وكمّ التضحيات الغاليات ألا تحطم جبروته وكبرياءه! بل أن يبثّ هذا التصبّر والتجلّد في نفوس الناس كلّ الحماسة؟! لن ننسى صدى صوتها يتردد مع خفقات قلوب ملايين المحبين في العالم، وهي تعلنها صراحة، ببساطة "مش هيدا بيتي راح ولك فدا إجر المقاومة، وبيتي بالضيعة راح فدا إجر المقاومة"؛ هو القلب النبيل المتعب الذي لا يمنعه تعبه من أن ينشد أغنية الفرح ومعزوفة النصر، وإن أحَسنَ الناس تحية السيّد ومقاومته، فلقد ردّها السيّد باسمه وباسم مقاومته بأحسن منها بأن صار "السيّد حسن وروحه ونفسه وأولاده فداء لكم"..، وجعل ختامها نصراً !..