27-11-2024 10:31 PM بتوقيت القدس المحتلة

"الدّولة والشّريعة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر"

العلاقة بين الدولة والشريعة مسألة أخذت في الفكر الإسلامي عموماً، بكل تياراته، حيّزاً واسعاً من النقاش، واحتل البحث فيها صفحات تنوء بالعصبة أولي القوّة

"الدّولة والشّريعة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر"صدر للأستاذ برّاق زكريا دراسة جديدة حول "الدّولة والشّريعة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر". وهذه الدراسة هي من إصدار "مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي في بيروت". وتندرج ضمن سلسلة الدراسات الحضارية التي يصدرها المركز.

وتصدَّر محتويات المجلد الأول ثلاث كلمات: كلمة المركز، ومقدمة تمهيدية. ومحتويات هذا المجلد تراوحت ما بين ثلاثة أقسام مع فصولهم. وتمحور القسم الأول حول: إشكالية العلاقة بين الدين والدولة في أوروبا، وكيف دخلت إلى بلادنا؟، القسم الثاني: الدين والدولة في عصر النهضة. القسم الثالث: الإحيائية الإسلامية ظهورها وأفكارها. إضافة إلى خاتمة ونتائج.

وجاء في كلمة المركز: العلاقة بين الدولة والشريعة مسألة أخذت في الفكر الإسلامي عموماً، بكل تياراته، حيّزاً واسعاً من النقاش، واحتل البحث فيها صفحات تنوء بالعصبة أولي القوّة، بل أُريق على مذبحها من الدماء أكثر مما أُريق من الحبر. واختلفت التقديرات لطبيعة العلاقة بين الطرفين بين من رأى أنها علاقة مانعة انفصال؛ فالسياسة في الإسلام والشّريعة عين الديانة والعكس صحيح. وبين من رأى ضرورة بناء الدولة على أسس غير دينية تستورد من جغرافيا العقل الإنساني دون نظر إلى جغرافياه الأرضية أو الفكرية. مع الالتفات إلى تعدّد الرؤى بين هذين الحدّين تعدّد ألوان الطيف.

والآن، وبعد الاهتزازات التي عصفت بالعالم الإسلامي والعربي منه على وجه التحديد وصعود نجم التيارات الإسلامية، يبدو الرجوع إلى دفاتر الفكر السياسي الذي صدرت عنه بعض الحركات الإسلامية التي ثُنيت لها وسادة الحكم في بعض البلاد الإسلامية ولو من غير استقرار حتى الآن، تبدو العودة إلى تلك الدفاتر ضرورة ملحّة لفهم الحدث واستشراف المآلات التي يمكن أن تؤول إليها الأحداث.

وقد حاول باحثنا الأستاذ برّاق زكريا استطلاع أهم نظريات الفكر السياسي التي تبنّتها بعض الحركات الإسلامية في العالم العربي، للكشف عن أهم عناصرها المكونة لها، والحفر في أعماقها لاكتشاف المصادر التي استقت منها أفكارها. وهذه الدراسة جمعت بين الاختصار وحسن التحليل ما قد لا يتوفر في غيرها من أمثالها.

لا مِراء في أنّ الإشكالية السياسية هي القضيةُ المركزية المِحور والأُم التي شغلت، ولا تزال، الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر – حسب ما جاء في المقدمة التمهيدية للكتاب – بل إن ثمة علاقة تلازُمية، من حيث التكوين، بين الفكر العربي الحديث وبين الإشكالية السياسية.

القضية المركزية التي يدور حولها هذا البحث هي العلاقة بين الشريعة والدولة ومكانة الشريعة في الدولة لدى مفكري الإسلام المحدثين. فالإشكالية محل النزاع بينهم وبين المفكرين العرب من غير ذوي النزعة الإسلامية، من جهة، وبين بعضهم وبعض من جهة أخرى، تدول حول مرجعية الدولة: هل هي الشريعة الإسلامية، أم الدستور الوضعي البشري؟ وهل الإسلام دين ودولة، وعقيدة وشريعة، أم هو دين وعقيدة فحسب؟ وبكلام آخر، ما المرجعية في أمور القضاء والسياسة والاقتصاد والإدارة؟ هل الإسلام هو المرجعية في كل ذلك، أم أن هذه الأمور أمور دنيوية، بالتالي، فإن "الحل والعقد" فيها متروكان لاجتهادات البشر الخاضعة للتبدُّل والتغيّر والتطور تبعاً للظروف والأحوال وتبدُّلاتها، وللناس أن يقدِّروا ما فيه صلاحهم ومصالحهم ومنافعهم، فيأتوه كما لهم أن يشخّصوا ما فيه فسادهم ومضارهم، فيجتنبوه، ولا يد للدين في ذلك، وشأنه مقصور على ما له مساس بأمور العقيدة والعبادة والآخرة والمعاد وما له علاقة بالروح والأخلاق والسلوك فحسب؟..

وبمعنى آخر، هل تخضع الدولة، قياداتها ومؤسساتها وحكامها ومحكوموها لقانون السماء، أم للقانون الوضعي ولاجتهادات البشر بلا مرجعية عليا منها يستمدون، وإليها في كل أمورهم يرجعون؟ وهل نمتد بالدين، ليشمل السياسة وأمور الحكم وإدارة الدولة، أم نستبعد كل ذلك من ميدانه؟.

لقيت نظرية فصل الدين، مرجعية وشريعة وقانوناً، عن الدولة من هذه الفئة القبول والترحاب، ومن تلك النقد والرفض. إذ وجد فيها بعضهم الطريقة المُثلى والترياق الأنجع للخروج من حالتي التخلف والرجعية الواقعة فيهما الأمة، واللانعتاق – على غرار ما كان في الغرب – من نير استعباد رجال الدين ونظرياتهم الموغلة في القدم، والغارقة في طوباوية الماضي التليد، والمقيدة بأمجاد السلف، والرهينة لذلك العصر الذهبي الآفل منذ قرون...

لقد أصبح واجباً، بنظر أصحاب هذا المنزع، التحرّر من أغلال التجذُّر بتُربة الأسلاف، دع إعادة تطبيق نظرياتهم في واقعنا المعاصر المباين كلياً لواقعهم. وبرأي هؤلاء، فإن هذا ما يفرضه العقل ويحتّمه الاعتبار، وقبل ذلك وبعده، هذا ما يتطلبه الواقع وتوجبه المصلحة، و"حيثما كانت المصلحة، فثمّ شرع الله". وعليه، فلا ضير برأيهم في الاعتبار بتجارب الغرب وطرائقه ومناهجه، لا سيما نظريته في الفصل بين الدين والدولة، بين الروحي والزمني، بين الإلهي والإنساني؛ إذ إنها نظرية إنسانية عامة توصِّل إليها بدوافع ملحة وضرورات حتمية، وبعد جهود مضنية بذلها المفكرون الغربيون في مواجهة سلطة الكنيسة، ولكفّ أيدي رجال الدين عن السياسة؛ بل ولافتكاك الدين نفسه من أغلالها. فكانت هذه النظرية خير ما أنتجت العقول البشرية في مجال الاجتماع السياسي، وهي بالتالي، صالحة لكل زمان ومكان وللمجتمعات الإنسانية كافة، على اختلاف أديانها وأيديولوجياتها.