راحت مراسلة "الجديد" نوال بري تركض، فيما الحريق يلتهم المكان ولحم البشر. تخبرنا عن الذين لجأوا الى حبال و"قسطل" للإفلات من الموت، وعن صوت ظلّ يصرخ: "هربوا... بعدوا".
فاطمة عبدالله / جريدة النهار
مؤلم ان تشعر بالعجز أمام جثث متفحّمة، وأشلاء تبعثرت، لتجعل المكان مرعباً. نسأل المراسلين الذين واكبوا انفجار الضاحية الأخير عن وجع تعمّدوا اسكاته لئلا نراهم "ضعفاء". وعن لحظة قد يستحيل فيها المرء كائناً يتعذّب.
نريد من الزملاء صوراً تركت في العين دمعة. راحت مراسلة "الجديد" نوال بري تركض، فيما الحريق يلتهم المكان ولحم البشر. تخبرنا عن الذين لجأوا الى حبال و"قسطل" للإفلات من الموت، وعن صوت ظلّ يصرخ: "هربوا... بعدوا". يصبح وصف الجثة معضلة أخلاقية. تقول بري ان رقم الضحايا بات أضحوكة مقارنة بما ظنّوه عبوة، فإذا به رأس انفصل عن جسد. وعن شابة في العشرين احترقت وماتت، فحمّلوها في كيس أسود. "تخيلتني في ذاك الكيس". نُقتل بالألم.
هل ينبغي على الصحافي ان يُظهر أعصاباً من حديد، وألا يتأثر فيراه المُشاهد قريباً من الانهيار؟ "نكابر من أجل مُشاهد لا يحتمل ان يكون الجميع من حوله منهاراً، وإنما في لحظة ما، نشعر بالانتهاء". تضيف بري: "ذرفتُ في تلك الليلة دموعاً كثيرة".
يحدّثنا مراسل MTV حسين خريس عن مكمن ضعف في الانسان. رأى ولداً يتمسّك بوالدته. كان حافي القدمين وشبه عاري يبكي من ذعرٍ ملأ النفس. ورأى عربة أطفال بقي منها الدولاب فقط. يعترف بأنه شعر بالحاجة الى البكاء أمام مشهدية الطفولة المتفحّمة: "علينا ان نظلّ أقوياء، وألا نبالغ في الانجراف خلف مشاعرنا. بس نحنا مش حجر".
مرعب ما رآه مراسل "المنار" علي رسلان: أشلاء على محل لبيع الحقائب النسائية. لا يقوى على تحمّل منظر الجثة "الطبيعية"، فكيف بالجثث الغامضة التي لم يبق منها أثر؟ يستذكر رجلاً أراد المساعدة بإطفاء الحريق، فسقط شريط كهرباء من أعلى وارتطم بجسده، فأحاله جثة. "القضية والايمان"، يعيدان لرسلان قوته: "كان عليّ ان أتمالك أعصابي، فأنقل الحقيقة من أجل مَن يرفضون الهزيمة".
تصعب مواجهة القلب: أنتَ لستَ إلا عضلة. فضّلت مراسلة LBCI ندى اندراوس ان تحتفظ لنفسها بالمشاهدات، فللموت خصوصية. تختصر المأساة بكهل راح يبحث عن عائلته وهو بالكاد يقوى على المشي. ترى انه يُفترض بالصحافي ان يؤدي واجبه كاملاً، كالصليب الأحمر والدفاع المدني. "لا أخاف. سبق ان شاهدتُ الكثير. لا أسمح لنفسي بالانهيار. موجع جداً ان ينتهي الانسان بلحظة".
أيّ الوصفين يعطي مراسل OTV غبريال مراد للصور، مشهد من حرب أم فيلم سينما؟ أخبَروه عن امرأة انتظرت الحسومات لتشتري لابنتها ثوباً، ولم ترجعا. وعن عائلات تضرّعت لأن تتضمن لائحة أسماء الناجين بعض ابنائها. "ليتني لا أشاهد كل تلك العيون الحزينة ثانية. أردتُ ان أظلّ قوياً. ثم تساءلتُ: ماذا لو كانت عائلتي مكان هؤلاء؟ أحسستُ بجمود الأشياء، ولكني تماسكت لئلا يفقد ذوو المفقودين الأمل".
"خيّ شو بو؟"، سمعت مراسلة NBN ليندا مشلب إحداهن تستغيث. هي لعنة عين شاهدت جسداً يابساً، وأمعاء تساوت بالأرض. بات وجع الناس خبراً يفوق بأهميته وزن العبوة. ليتنا نمتلك ان نكون تمساحاً، فلا تؤلمنا حكاية عنصر في الجيش راح يصفع نفسه ويصرخ كالأطفال، ويجري بحثاً عن أحد. مشلب بكت أيضاً. كادت تنهار أمام جثة ولد يحترق.
"المستقبل" لم يرسل زميلاً للتغطية المباشرة. مراسل "المنار" يعلل السبب: "يصعب ضبط النفوس الغاضبة. يشكل وجودهم استفزازاً، كوجودنا في طرابلس وعكار. حزب الله لم يمنع قدومهم، وهو يعلم بإهانتهم للمقاومة وجمهورها في كل المناسبات".