تشعر إسرائيل بأنها أمام مرحلة ملتبسة بكل المقاييس، وبأن حركة التاريخ تضعها أمام معضلة الاستمرارية والثبات في المساحة الجغرافية وفي العمق الاستراتيجي.
صادق النابلسي/ كاتب وأستاذ جامعي وباحث في منتدى جبل عامل للدراسات السياسية
تشهد إسرائيل منذ انتهاء عدوانها على لبنان صيف العام 2006 امتداداً معقداً لهزيمتها. منذ ذلك التاريخ لا سلاح لها غير الوله الكسير، ومراثي العجزة، وكلمات التهديد والوعيد، والأطر الجامدة المكررة التي لا يمكنها التنبؤ لها بفوز حتمي إذا شنت حرباً جديدة على حزب الله.
ما تنشره معاهد الدراسات السياسية والاستراتيجية عن خطط سنوية للجيش الإسرائيلي (معهد بيغن ـــ السادات نموذجاً) لا يظهر منها أنّ إسرائيل قد خرجت من عقيدتها الأمنية التقليدية وتجاوزت نظرية بن غوريون القائمة على مبدأ «القوة لتأمين جوهر البقاء».
وهي نظرية تضاءلت قيمتها وتأثيرها أمام فوضى التحولات في السياسة والأمن والجغرافيا والاقتصاد والرأي العام، وأمام تبدّل حقيقي في توازنات القوى الإقليمية، وصعود متعاظم لدور حزب الله العسكري الذي فاق دوره أدوار دول أساسية ومحورية في المنطقة (الفاعلون من غير الدول). هاجس البقاء بشقيْه الكينوني والحضاري تفاقم على نحو مطّرد مع تطور الأحداث التي تجري على ضفاف الكيان الصهيوني.
وسؤال الوجود المدرج من ضمن المحفوظات المدرسية الأساسية، يزداد تجذراً وإلحاحاً داخل الوعي الإسرائيلي، ما يعني أنّه سؤال أصيل عبر التاريخ، ينتقل من جيل إلى جيل، ويجري في الدم والمعرفة والوقائع. واليوم هو أكثر هولاً من أي زمن سابق بعد طفرة التهديدات اللانمطية، وتهشم الكثير من المفاهيم كمفهوم أمن الدولة أو الأمن القومي التي راجت منذ صلح وستفاليا العام 1984، وتكسر مبدأ شرعية الحدود التي فرضتها الجرائم والمصالح الاستعمارية بالعنف وعلى نحو اعتباطي بحسب تشومسكي Noam Chomsky.
تشعر إسرائيل بأنها أمام مرحلة ملتبسة بكل المقاييس، وبأن حركة التاريخ تضعها أمام معضلة الاستمرارية والثبات في المساحة الجغرافية وفي العمق الاستراتيجي.
وما حصل منذ «الربيع العربي» من انهيارات ومتغيرات جيو ـــ استراتيجية وعسكرية جعل قدرة إسرائيل على ضمان أمنها تتقلص إلى مستويات دنيا. فما عاد بالإمكان أن تعيش مناطق في عزلة عما يجري من أحداث وصراعات في أماكن قريبة أو بعيدة عنها، وخصوصاً أن النظام الدولي، منذ العام 1994، شهد مفهوماً جديداً للأمن يقوم على كونية وعالمية وواحدية الأمن الإنساني، بفعل تزايد عوامل الارتباط بين الدول والشعوب ونتيجة لجملة من التأثيرات المتبادلة في شتى الميادين.
فانتشار الحروب والنزاعات في نطاق جغرافي محدد لا يمنع مجالات جغرافية أخرى من أن تتسرب الأخطار والتهديدات الأمنية إليها. وبناءً عليه فإن مهمة تأمين وحماية الكيان الإسرائيلي في ظل المتغيرات الجديدة في بيئة المنطقة، واتساع نطاق الصراعات الطائفية والإثنية، وتعاظم الخلل في مجالات ومستويات الأمن الإقليمي والدولي على حد سواء، تجعل كلها من هذه المهمة غاية لا تدرك.
تعرف إسرائيل أن حاجاتها إلى الأمان والتوسّع وتحقيق الذات حاجات وجودية تتطلب منها مراكمة القوة وتنويع صيغ الردع في مواجهة أعدائها، وخصوصاً حزب الله (Shamuel Bar في دراسته المقدمة لمؤتمر هرتزيليا 2007)، لكنها حائرة في إطار أي استراتيجية تضع ذلك.
هل في إطار استراتيجية ليّنة تقوم على تجفيف مصادر التمويل، التطويق، الحصار، الاستفزاز والمضايقة، وضع قيود غربية وعربية على الأموال والأشخاص (قرار الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي أخيراً)، تهديد بيئة حزب الله بسلسلة من التفجيرات الدموية بهدف خفض مستوى نشاطه ووقف انخراطه السياسي والعسكري المتصاعد خارج مجاله ومداره التقليدي.
بيد أنّ سؤالاً استطرادياً ينشأ على ضفاف السؤال الآنف يدور حول إمكان هذه الاستراتيجية، (وسنسميها أيضاً البتر الناعم أو البطيء)، التي تحتاج إلى النفس الطويل والوقت المديد، إجبار حزب الله على تفكيك بنيته ونزع سلاحه، على قاعدة «بالصبر تبلغ ما تريد patience pays»، أم في إطار استراتيجية متشددة مبنية على الاندفاع الكامل (البتر السريع والفوري) بضربات قاصمة مدمرة لإفناء العدو، وخصوصاً أنّ إسرائيل تملك من القوة البشرية المدرّبة والوسائل التكنولوجيّة الحديثة والأسلحة الفتّاكة ما لا تملكه أقوى جيوش المنطقة، لكنّ إسرائيل واقعة في الالتباس واللاوثوقوية في ما تفعل. ولا تملك يقيناً بإمكان النجاح في أي من الاستراتيجيتين ـــ وهي التي جربتهما طيلة أعوام صراعها المرير مع حزب الله ـــ حتى وهي تنظر إلى سوريا حليفة الحزب مرهقة القوى، ضعيفة البنية، وتشاهد المقاومة الفلسطينية مشتتة الذهن، مذبذبة المسار، وتضحك على شعوب العالم العربي المنقسمة على نفسها والمشغولة بكثافة الفتن السياسية والطائفية والعرقية!..
عدم جرأة إسرائيل على شن حرب على حزب الله منذ سبع سنوات يعكس تغيّراً في طبيعة إدراك القيادتين السياسية والعسكرية الصهيونيتين للتهديدات النابعة من الجبهة الشمالية. والمثل الشهير الذي يقول:Strike hard while the iron is hot أي «اضرب على الحديد وهو ساخن» لا يشبه البتة المثل الآخر: «ختامها مسك».
فحتى لو كانت المنطقة من حولها تنهار وحزب الله في حفرة تلتف عليه الوحوش، فلا يقين بأنّ الإمكانات متاحة لخوض حرب تكون نتيجتها فوزاً لها بالضربة القاضية ومن الجولة الأولى. إسرائيل لا تشكو من مرض الجبن فحسب، بل أيضاً من تهور يحيل المبادرة على جحيم حقيقية. لقد بان ذلك بوضوح خلال الأربعة والثلاثين يوماً من سير المعارك في الحرب الأخيرة، أخفقت فيها التقويمات والتقديرات والحسابات الإسرائيلية، وبُغتت القيادتان بمفاجآت المقاومة، وذهلت من نوعية الصواريخ التي كانت بحوزة المقاومين، إذ لم يكن لدى الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية أدنى معلومة أو احتمال عنها، بل حتى لم تصل إليها أوهامها بحسب ما ذكره السيد نصر الله في مقابلته الأخيرة مع قناة «الميادين».
في اللحظة الراهنة، تبدو إسرائيل مشغولة أكثر وعلى نحو متزايد بالقوة المتعاظمة لحزب الله. حزب الله الذي بدأ ببضعة رجال وبضع بنادق، تلخصه اليوم عبارة السيد نصر الله الشهيرة: «لقد ترك لكم عماد مغنية خلفه عشرات الآلاف من المقاتلين المدربين المجهزين الحاضرين للشهادة». فكيف لإسرائيل أن تبدأه بقتال؟ ثم إنّ أي جولة جديدة لن تكون كبقية الجولات. فموازين القوة ما عادت كالسابق، ومستوى التحولات في الاتجاهات الرئيسية للسياسة الخارجية لدى عدد كبير من الدول العربية والأجنبية يعكس على الأقل في بعض جوانبه تمحورات ومواءمات مرتبطة مباشرة بالمصالح الخاصة لهذه الدول. ومعنى ذلك أنّ إسرائيل ليست هي القائد، التي بمجرد أن تعلن بدء أعمالها الحربية سيتحرك حلفاؤها العرب والأوروبيون وراءها سريعاً. هذه المرة لن تجد إسرائيل الكثير من الحلفاء المستعدين لانقاذها. أميركا تستدير وتنظم تراجعها.
أوروبا تعيد تعريف هويتها ومصالحها. القوى الأساسية في العالم تعيش حالة ضمور في نفوذها، في مقابل صعود قوى أخرى تعمل على فتح الطريق أمام عالم متعدد الأقطاب يكثر فيه الفاعلون والمستحوذون على القوة (انتشار القوة - القرن الحالي لن يكون قرن دولة ما - بحسب جوزف ناي Josef Nye)، التي لن تكون وقفاً على عدد محدد من الدول. والتشقق يصيب تقريباً كل شيء في النظام الدولي القائم مع وصول التناقضات إلى معظم طبقات هذا النظام. أمام هذه الصورة، هل سيكون بمقدور إسرائيل أن تخوض حرباً وحدها، أم بمعونة بعض الحلفاء وتحقق فيها نصراً حاسماً. هناك في الجانب الإسرائيلي من يشير إلى أثر الخيارات غير الصائبة أو القاتلة على وجود الكيان برمته. لقد مرّر السيد حسن في مقابلته الأخيرة جملة لم يلتفت إليها أحد، عندما نقل كلاماً عن قادة العدو قالوا فيه: «لو استمرت الحرب (حرب 2006) لانهارت إسرائيل».
بالنسبة إلى إسرائيل أية طلقة غير محسوبة قد تكون انتحاراً، وهذا ما قصده السيد نصر الله في مهرجان عيتا الشعب عندما قال: «لا يفترضنّ أحد أنّه إذا فتح معركة معنا هو الذي يحسم المعركة. نحن من نحسم المعركة. نحن من نوقّت ختام المعركة». وعبر عقود من حضور الإسرائيليين على أرض فلسطين، لم يكن أحد من العرب يتهددهم بالغزو، في وقت أعلن فيه السيد نصر الله صراحة أنّ جنوده سيدخلون الجليل. ثمة إرباك هائل داخل إسرائيل في تقدير الاستثناء التاريخي للحظة الحالية، إذ مثلما تريد إسرائيل إزالة حزب الله ومحوه من الوجود لما يسببه لها من مخاطر وجودية مستمرة، فإنّ حزب الله يريد إزالتها أيضاً من الوجود. مع فارق أساسي هذه المرة. ماذا لو بادر حزب الله إلى إطلاق الرصاصة الأولى ودخول فلسطين بتوقيته هو؟..