في الرابع عشر من ايلول من كل سنة، اي في عيد الصليب، يحجّ اللبنانيون المسيحيون الى بلدة سورية تبدو وكأنها معلقة بين السماء والأرض. بلدة تحولت الى مدينة اسمها معلولا
ضحى شمس
في الرابع عشر من ايلول من كل سنة، اي في عيد الصليب، يحجّ اللبنانيون المسيحيون الى بلدة سورية تبدو وكأنها معلقة بين السماء والأرض. بلدة تحولت الى مدينة اسمها معلولا. هناك، يستمتعون بالإصغاء الى سكان المكان العتيق، يتحدثون بلسان السيد المسيح عليه السلام، اي اللغة الآرامية، جدّة العربية والعبرية في آن واحد. منذ ايام، احتلت معلولا الشاشات في سياق الحدث السوري، مدينة مهددة بفناء سكانها العالقين بين نارين، القتل او الهجرة، ما يهدد بانقراض هذه اللغة المحفوظة هناك على لسان ابنائها المسيحيين والمسلمين. كيف يعيش اللبنانيون المسيحيون محنة معلولا؟ هنا بعض اجابة.
معلولا. اسم ظهر فجأة في المشهد السوري الإخباري، كمرادف لكارثة وشيكة الوقوع. فجأة، بدأ بعض من كان لا يتابع نشرات الاخبار بمتابعتها من مدخل هذه المدينة، وهذا حال الكثير من اللبنانيين، المسيحيين خصوصاً، الذين كانوا يواظبون على زيارتها في عيد الصليب. وبحسب الباحثة جوان فرشخ بجالي، ربما كانت هذه السنة الاولى منذ 1500 عام التي لا تشتعل فيها الجبال المحيطة بمعلولا.
فقد درج المسيحيون المشرقيون على إشعال «قبولة»، اي نار، اعلى الجبال، من لبنان وصولا الى اسطنبول (قسطنطينة) «لكي يعرف الامبراطور البيزنطي ان المسيحيين وجدوا خشب الصليب الذي صلب عليه السيد المسيح في فلسطين، فكانت الحرائق تشتعل في خط واحد على قمم الجبال، لايام عدة كما في ارسال خبر في تلك الايام».
وكما ان هناك من بدأ يتابع نشرات اخبار سوريا من بوابة معلولا، كذلك، توقف كثيرون عن متابعة تلك النشرات من الباب ذاته. فالخبر الذي ارتجفت القلوب تخوفا من وقوعه، بدا حتى سماعه لهؤلاء لا يطاق. انطووا في حزنهم على جزء هام من هويتهم التاريخية، جزء هو اصلا في سبيل الانقراض، وقد عجّلت الحرب في توقع حصوله قبل اوانه.
هكذا، ما ان تذكر اسم المدينة الواجفة تحت خطر جحافل العسكر من الجهتين المتقاتلتين، والواقعة تحت خطر الإفناء، قتلاً او تهجيراً، حتى تحظى بردة فعل من اثنتين: الانفعال الصارخ الذي يكاد يتأتئ وهو يفتش عما يعبر عن نفسه بالكلمات، فلا يجد الا الدموع والشتائم، او اللامبالاة الفاترة الحزينة، لمن بدأ يفهم منذ وهلة فقط اهمية المكان، بعد تداوله في نشرات الأخبار. هكذا، وجد البعض نفسه، ومن مدخل اخبار معلولا، في مواجهة مع نفسه: سياسياً وايديولوجياً ودينياً.
يتنهد سليم، الذي التقيته في عين الرمانة في محله للاكسسوارات، تنهيدة طويلة حين اسأله ان كان يتابع خبر معلولا «صدقيني ما عم اسمع...» يقول وهو ينظر الى شاشة التلفزيون المعلق في محله والتي ادارها على قناة الاغاني. «ما بدي اسمع الخبر السيئ. متل هالوقت من كل سنة كنا نجمع بعضنا ونطلع نزور معلولا وصيدنايا... السنة الماضية ما طلعنا كمان، بس انو توصل القصص انو يعني بدهن يدمروا هالمكان اللي ما في متلو بالعالم؟ بدن يهجروا آخر ناس بالعالم بتحكي لغة المسيح؟ ستنا مش بس المسيحية بيحكوا هونيك آرامي... كل الناس. اصلاً فيه إسلام ومسيحية. بس بتعرفي شو صار هلق الحديث؟ انو هودي ناس ما عم يقاتلوا وحدن. هودي عم يجربوا قد ما فيهن يدمروا». ثم يضيف: «ما بعرف مين المسؤول عن هالشي؟ في ناس بتقول النظام وفي ناس بتقول هودي جبهة النصرة.. بس انو ما عاد مهم هالشي. لانو مين ما كان الله ما رح يسامحو».
لكن امينة، من بلدة منيارة في عكار، التي كانت تواظب على زيارة المكان، ترد بانفعال «كيف حسيت لأخبار معلولا؟ كيف وقت الاسرائيليي اخذوا فلسطين؟ هيك معلولا». ثم تقول: «مدينة شو بدي قلك؟ لما بتفوتي بتحسيها معلقة بالجبل تعليق. بس وصلت عليها وصليت، حسيت كأني حجيت للقدس. كأني طلعت من حالي، بتعملك حالة تجلي كأنو هالضيعة مبنية بإيد الله مش بإيد البشر. وما بتفكري مسلم مسيحي، بتحسي شرق وعرب: لانو في جوامع كمان هونيك. تعايش حقيقي. مش متل عنا بيقولولك تعايش بس التزعبر الحقيقي عنا». ومن برأيها يفعل هذا بالمدينة الجميلة؟ تقول: «هودي لا اسلام ولا مسيحية، وأكيد ما بتعنيلهم شي. مين فات عليها؟ لهلق مش ثابت. كل واحد بيقول شي. بس اللي بيشيلو قلوب شو بدهم تفرق معهم معلولا؟».
وهل تظن ان خبر معلولا جعل البعض يعيد النظر في موقفه من الصراع في سوريا على خلفية ان النظام كان كافلاً للتعايش الحقيقي؟ تجيب: «ما بعتقد، اللي مع مع. واللي ضد ضد. بس يعني كمسيحيين كثير مزعوجين وصار في خوف رهيب. انا بالنسبة الي تروح كل كنايس لبنان بس ما حدا يدق بمعلولا وبأهل معلولا». ثم تضيف متخوفة: «يعني اذا الدولة هالقد قوية بسورية وهيك صار، شو رح يصير عنا لكن؟».
تعترف جوهرة الياس، وهي استاذة موسيقى، انها وأهلها «والله مخضوضين كتير. مش بس على معلولا. مخضوضين على كل سوريا». تسكت كأنها تفتش عن كلمات تعبر عن انفعالها: «شو هالموت كلو؟ الناس بسوريا عم تموت متل الصراصير والبرغش. ما بقى في معنى للانسانية! كل سوريا بتعنينا. شو يعني سوريا وشو يعني لبنان؟» تسأل المنشدة في كورس السيدة فيروز. اتصلت بجوهرة لاني كنت اعلم انها تواظب وكورس السيدة فيروز على زيارة الاماكن الاثرية المسيحية في العالم العربي خاصة خلال زياراتنا اليها حين تكون هناك حفلة للست. اتذكر كيف كانت جوهرة تختفي مع سيمونا وماري تيريز وباتريك وحبيب والعازفة الراحلة ايمان حمصي فجأة. «وين الشبيبة» تسأل قائد الفرقة، فيقول لك انهم ذهبوا لـ«الزيارة». تكاد جوهرة تتسابق مع الكلمات: «بعدين ناس مش حاملة سلاح والضيعة يعني نادرة. يعني الناس هونيك الوحيدين (تشدد على الكلمة) بالعالم اللي بعدهم بيحكوا آرامي، يعني لغة المسيح. على الاقل كان لازم يحيّدوها عن صراعاتهم! ومعلولا لما بتروحيها بتفهمي شو يعني: مش بس تراث مسيحية الشرق. يعني ما تاخديها انو انا عم قول شعر، لأ. بالمعنى الحقيقي للحكي... الناس هونيك والتقاليد اللي بعدهم بيعملوها هول اساس السريان، يعني بالقداس الماروني في كام جملة آرامي (الآرامي هو اسم اللغة الشفوية والسرياني هو الآرامي المكتوب.) بس هني بعدن بيحكوا اللغة كاملة». ثم تقول: «هلق زيحي المسيحية على جنب. لأنو بمعلولا الاسلام والمسيحية بيحكوا آرامي. شو بدكن فيها؟ سلاح؟ ما معها سلاح. شو قصدكن يعني؟ مين اللي الو قلب يدمر هيك محل ويهجر هيك عالم؟ انا بطّلت احضر اخبار عم تلعي نفسي. صارت بتمرض الاخبار. عم يحطوا مشاهد مؤذية لروحك ولقلبك ولعقلك. هلق طبعا اذا غمضت عيوني مش معناتو انو ما عم يصير شي، بس ما بقى فيني اتحمل. نحنا طلعنا من حرب وهلق عايشين حرب ناس بيخصونا. كل سوريا بتخصنا: واذا دقوا فيها يعني دقوا فينا؟».
سيمونا ضو، وهي الأخرى مرتلة ومنشدة في كورس فيروز، ما أن أذكر لها اسم معلولا حتى تبدأ بـ«الكرفتة»: «الله لا يسامحن. اذا بيصير شي للناس هونيك هيدي كارثة علينا كمسيحيين اولا وكمشرقيين ثانيا وكعرب. التعايش الموجود هونيك (وانا عم احكي كلبنانية) مش موجود بأي محل بالعالم. وعلى كل حال بيّن شو هدف هالقصة: انو ما يضل شي يميز هالمنطقة بالعالم». ثم «تشعط» سيمونا: «لما بتسمعي الناس هونيك عم يحكوا، بتحسي بانتماء لهالمكان، تسلسل حضاري، ارضي ولغتي. انو هيك كان يحكي السيد المسيح. هيدي حرب على حضارتنا قبل ما تكون حرب على ديانتنا. حرب من الصهيونية المسيحية والصهيونية الاسلامية. اصلا لما بيصيروا صهاينة بيبطلوا مسيحية وبيبطلوا اسلام. هيدي ايديولوجيا مش دين. لما بتمشي بمعلولا بتحسي بشي رهيب، بتحسي انو هالارض فيها قداسة. مهما زرتي بأوروبا كنايس كلها بتبقى مصطنعة: لا المسيح راح لهونيك ولا العدرة السلام لاسمها ولدت وعاشت
هونيك». ثم تختم بانفعال: «من عنا المسيحية ومهما عملوا المسيح بيبقى فلسطيني شرقي وعيونو مش زرق وما بدنا نفل».
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه