واشنطن تحاول تعويض تراجعها عن العمل العسكري بإبراز أهمية استثنائية لاتفاقية الكيماوي السوري، فقد أثبتت التطورات الاخيرة ان اميركا ليست اللاعب الرئيسي الوحيد في الشرق الاوسط.
علي عبادي
واشنطن تحاول تعويض تراجعها عن العمل العسكري بإبراز أهمية استثنائية لاتفاقية الكيماوي السوري، فقد أثبتت التطورات الاخيرة وجود "توازن رعب" اقليمي ودولي وان اميركا ليست اللاعب الرئيسي الوحيد في الشرق الاوسط، ولأميركا مصلحة استراتيجية في اسقاط النظام السياسي في سوريا وستسعى لتحين الظروف التي تسمح بتحقيق هدفها.
فهل انقضت فرص التدخل العسكري الأميركي في سوريا؟ وكيف يمكن توصيف ما جرى خلال الأسبوعين الأخيرين من تطورات دراماتيكية؟
يميل بعض المتفائلين الى ان شبح التدخل الاميركي قد ابتعد عن سوريا في المدى المنظور على الأقل، انطلاقاً من ان المعطيات المتوافرة أقنعت الاميركيين بأن لا ضمان لعدم توسع الحرب او امتدادها زمانياً او الإضطرار الى نشر مزيد من القوات الاميركية والانغماس في خطوات عسكرية اضافية.
ظروف اقتراب الحرب وابتعادها:
يستدل هؤلاء المتفائلون بعدد من القرائن:
- عندما وضع الرئيس الاميركي قبل عام تقريبا خطاً أحمر أمام استخدام الكيماوي في سوريا كان ذلك بمثابة رسالة الى الداخل الاميركي والى الحلفاء معاً بأنه لا يرغب بتوريط بلاده في مغامرات عسكرية في الخارج، اذا انطوت على احتمالات التدحرج الى حرب مفتوحة.
- عندما أشيع بأن سلاحاً كيميائيا استخدم في الغوطة الشرقية في 21 آب/ أغسطس الماضي، كانت تلك فرصة أمام واشنطن لإثبات حضورها بقوة ووضع "خطها الأحمر" موضع التنفيذ وتقديم دعم مباشر للجماعات التي تقاتل الحكومة السورية، وكان ذلك ملحّاً من وجهة نظر بعض مسؤوليها بسبب ان مجموعات مسلحة دربتها وكالة المخابرات المركزية الاميركية في الاردن قد اصيبت بخسائر جسيمة في قصف مركز على مواقعها في الغوطة الشرقية في ذلك التاريخ، وفق معلومات مصادر متقاطعة. يضاف الى ذلك ان الوثبة الجديدة للجيش السوري في حمص واللاذقية وادلب وريف دمشق والاستعداد لمعركة في حلب أحدثت حالة من الذعر بين الجماعات المسلحة والدول الاقليمية التي توجهها، وهذه بدأت تشعر بشيء من اليأس من تغيير الوضع على الارض وبحثت عن وسائل لدفع الاميركي الى التدخل مباشرة.
- عندما لجأ اوباما فجأة الى طلب دعم الكونغرس للتشارك في قرار الحرب، كان واضحاً انه يبحث عن طوق نجاة وانه لم يقصد بداية ًالذهاب بعيداً في العمل العسكري الذي أراده عملا "محدوداً" و"موضعياً"، لكن جس نبض سوريا وحلفائها دفعه لمراجعة الموقف ووضع الاميركيين أمام خطورة الموقف.
- عندما طلب اوباما من الكونغرس بشكل مفاجئ أيضا تجميد النظر في طلبه التصويت على العمل العسكري، كان واضحاً انه التقط طوق النجاة الذي أراده من الجانب الروسي. جاءت موافقة سوريا على وضع أسلحتها الكيميائية تحت إشراف دولي لتساعد في تهدئة الامور وحفظ ماء وجه الاميركي، بينما وقف حلفاؤه الفرنسيون والاتراك وبعض العرب والسوريين مشدوهين مرة اخرى: كيف لم يفطنوا لحساب خط الرجعة بعدما أكدوا وتيقنوا ان "الضربة الاميركية واقعة لا محالة" ووفروا لها كل التسويغات والتبريرات والتأييد.
- الآن حصل الجانب الاميركي، من خلال موافقة دمشق على وضع سلاحها الكيماوي تحت اشراف دولي، على ما يعتبره "جائزة ترضية" عوضاً عن الضربة التي لم تقع، وهو يحاول إقناع من يقودهم من الحلفاء ان ذلك أفضل له ولهم وان عليهم البحث عن وسائل بديلة لتقويض أسس النظام في سوريا مثل تعزيز الدعم العسكري للمعارضة السورية، وقد بدأت التقارير الاميركية تشير الى ارسال "اسلحة فتاكة" الى المعارضة السورية المسلحة، بينما تبحث فرنسا ودول عربية زيادة مساهماتها في الحرب الدائرة.
أما سوريا فترى ان سلاحها الكيماوي الذي كان - بالغموض الذي يحيط به - واحداً من عناصر الردع في وجه امكانات "اسرائيل" العسكرية غير التقليدية، لم يعد كذلك ربما في الوضع الحالي بسبب ازدياد الأخطار الداخلية والخارجية حوله، وربما يكون ذريعة لعدوان يعرّضها لأضرار لا يمكن التغاضي عنها، كما ان تكلفة "خدمته" في ظروف الحرب الداخلية والخارجية المحتملة كبيرة. وفي كل الأحوال، تبدو مقايضة الكيماوي بوقف العدوان على سوريا أمراً مقبولاً على نطاق واسع وقد تفتح المطالبة َمن جديد بنزع أسلحة الدمار الشامل من المنطقة.
تراجع بفعل "توازن الرعب":
من دون شك، فإن ما حدث هو تراجع اميركي بكل المقاييس، وقد أساء بصورةٍ ما الى هيبة الولايات المتحدة، حتى ولو انها لا تزال تروج لمنطق الحرب تحت الفصل السابع او خلافه. لقد اتضح ان الولايات المتحدة لم تعد تلك القوة التي تقول وتفعل ما تريد، وانها ليست اللاعب الرئيسي الوحيد في الشرق الاوسط، وانها تضطر احيانا الى اتخاذ قرارات غير مريحة لها، وذلك عائد الى "توازن رعب اقليمي ودولي" يتكون حالياً على ساحة المنطقة. بموجب هذا التوازن يمكن للفريق المعارض للتوجه الاميركي ان يفرض نفسه في الحرب، كما يفرض الفيتو في مجلس الامن الدولي ضد مشاريع القرارات الغربية بحق سوريا.
وقد تآلفت روسيا بدبلوماسيتها النشطة والقوية ورسائلها العسكرية غير المباشرة، وايران بحضورها الفعال في ميادين عدة، وحزب الله بتصميمه على إفشال أهداف الحرب العدوانية، الى جانب قوى اقليمية ودولية اخرى هامة، لصدّ كرة النار عن سوريا قبل انطلاقها، وهو تطور غير مسبوق في هذه المنطقة الاستراتيجية. صحيح ان لروسيا حساباتها الامنية والاستراتيجية في سوريا وتطمح الى زيادة نفوذها وتأثيرها على الساحة الدولية، والشرق اوسطية بخاصة، لكنها ما كانت لتذهب بعيدا في تحدي التوجه الاميركي للحرب لو لم تكن متيقنة من وفاء بقية حلفاء سوريا لها ومضيهم في الدفاع عنها ومنع اسقاطها.
كيف ستعوض واشنطن عن هذا التراجع؟
تعمل اميركا على محاور عدة لاحتواء التطورات الاخيرة:
التلويح بإمكان لجوئها الى العمل العسكري مستقبلا بذريعة او بأخرى حتى بدون الحاجة الى قرار من مجلس الامن او بدون دعم الكونغرس الاميركي، على الأقل للحفاظ على هيبتها او للاحتفاظ بالمبادرة العسكرية متى ما رأت الفرصة سانحة. وفي هذه النقطة بالذات، تدرك الادارة الاميركية ان يدها مغلولة الآن، وقد صرح مسؤولون اميركيون بأن واشنطن "لا تصر" على ان يتضمن قرار مجلس الامن المتوقع صدوره بشأن الاشراف على السلاح الكيماوي السوري احتمال استخدام القوة، وذلك تجنباً لمواجهة فيتو روسي. وقد توصل الاميركي الى هذه القناعة بعدما تبلغ من روسيا بوضوح ان المفاوضات بشأن الكيماوي السوري لا يمكن اجراؤها تحت تهديد قرار يسمح بعمل عسكري.
- العمل بكل جهد ممكن لقلب التوازن الميداني لمصلحة الجماعات المعارضة بهدف استثمار ذلك في اية مفاوضات مقبلة. وقد أشرنا الى اجتماعات مكثفة بين اطراف معسكر الحرب المؤجلة لزيادة منسوب الدعم لهذه الجماعات.
- تمهيد الارضية لإحداث تغيير في ترتيب بنود جدول الأعمال، وذلك عبر الحديث عن تهيئة الظروف لعقد مفاوضات جنيف 2، بحضور ممثلين عن الاطراف المعنية بالأزمة السورية. كما عادت الادارة الاميركية الى إحياء الاتصالات الفلسطينية – الاسرائيلية والتي جُمدت بفعل التفرغ الاميركي لسوريا على مدى اسابيع عدة ماضية.
بمقابل هذه المعطيات المتفائلة بابتعاد سيناريو الحرب، ثمة من لا يزال يؤمن ان لأميركا مصلحة استراتيجية في اسقاط النظام السياسي الحالي في سوريا بأسرع ما يمكنها، ليس حباً بالمعارضة السورية بالطبع، ولكن لشلّ قوة عربية مؤثرة ولعزل ايران وحزب الله وكذلك العمل لاستعادة نفوذ واشنطن المتآكل في المنطقة. لهذا لا ينبغي التغاضي عن نوايا الادارة الاميركية التي تسعى لتوفير الأسباب والظروف التي تسمح باستفراد خصومها وتوجيه ضربات مؤلمة لهم على غير صعيد. فـ"النمر الجريح" الخارج من حربين قاسيتين في افغانستان والعراق لا يزال يتحين الفرص لإضعاف القوى التي تلعب دوراً حيوياً معاكساً للمصالح الاميركية.