سمعتُ أنّه ابتكر جمهورية وهمية اسماها «نويرستان»، نصب نفسه إمبراطوراً عليها، الأمر لا يخلو من الطرافة.. لكن أن يقوم أحدهم بتصميم هذه المركبة العملاقة والتنقل فيها، فقط للتأكيد على فكرة إمبراطوريته
بانة بيضون / جريدة السفير
أثناء تواجدي في أحد مقاهي شارع الحمراء قبل أيّام، شهدتُ على ظاهرة غريبة. فجأة، راح جميع الجالسين في المقهى حولي، ينظرون في الاتجاه نفسه، صوب شيء ما. حملوا هواتفهم وانهمكوا بالتصوير.
على الضفة المقابلة من الشارع، تسمّر المارّة في أماكنهم أيضاً، وراحوا ينظرون صوب المكان ذاته، مدخل «مسرح المدينة» الذي كان يشهد افتتاح مهرجان «مشكال» المسرحي. سيارة الإسعاف توقّفت في منتصف الطريق لتسترق النظر، وبعدها سيارة أخرى للدفاع المدني. ما الذي سبب كلّ تلك الدهشة؟ هل حصلت معجزة ما؟ هل ظهرت السيدة العذراء في شارع الحمراء؟ أم أنّه زائر من الفضاء الخارجي، تسبّب بكلّ تلك البلبلة؟.
جرعة من الأدرنالين سرت في عروقي، وأنا أتخيّل كل الاحتمالات الممكنة. أملتُ في أن يكون مسبّب الدهشة، أمراً من شأنه تخفيف ضجري المزمن في هذه المدينة. وقفت، واسترقت النظر كغيري، فإذ بي أجد فعلاً، مخلوقاً أسود عملاقا. الاسم المتعارف عليه لذلك «المخلوق» هو سيارة. والحق يقال، فإنّ السيارة التي استنفر من أجلها الشارع، خارجة بكلّ المقاييس عن المألوف. حجمها الضخم، لون حديدها المصفّح الداكن، تصميمها الغريب، يجعلها أقرب ما تكون إلى مركبة فضائية، أو إلى سيارة «الرجل الوطواط». ولعلّ أكثر ما يميّزها، العلمان الأزرقان المثبّتان على طرفي مقدّمتها، بجانب حرف N ذهبي يتوسّط غطاء المحرّك. من صاحب هذه السيارة الرهيبة؟ رجّحت صديقتي أن يكون سفيراً، لكننا لم ننجح في معرفة سفير أيّ بلد، خصوصاً أنّها المرّة الأولى التي نرى فيها علماً مماثلاً. أمّا أنا فتوقّعت أن يخرج منها «باتمان»، أو أرنباً يرتدي ربطة عنق حمراء ينحني للجماهير.
طوال نصف ساعة تقريباً، توقّفت الحركة في شارع الحمراء بسبب تلك السيّارة المجهولة. الجميع يحاول أن يتكهّن باسم الشخصية المهمّة التي تملك مركبة مماثلة.. وبعد طول ترقّب، ظهر الرجل. لحية سوداء، بذلة عسكريّة خضراء.. عبر أمامنا، ثمّ صعد في السيارة، وبجانبه حرّاسه الشخصيّون ورجال الأمن. سألنا أحد المارّة من يكون، فأجابنا: «إنّه ميشال ألفتريادس، إمبراطور نويرستان (اللامكان)».
كلّ ما كنت أعرفه عن ألفتريادس حتى ذلك الحين، أنّه فنان ومنتج، تذكرني بزاته العسكرية الغريبة وأثوابه الملكية، بمعمّر القذافي. البعض يقول إنّه يساري، والبعض الآخر يقول إنّه عوني، ولديه مواقف وطنية عظيمة ضدّ الطائفية والمذهبية والفساد وأمراء الحرب. سمعتُ أنّه ابتكر جمهورية وهمية اسماها «نويرستان»، نصب نفسه إمبراطوراً عليها، الأمر الذي لا يخلو من الطرافة.. لكن أن يقوم أحدهم بتصميم هذه المركبة العملاقة والتنقل فيها، فقط للتأكيد على فكرة إمبراطوريته الوهمية فذلك فعل لا يخلو من الهذيان، كما يتراىء لي. لكن بعد التفكير، كل شيء ممكن في هذا السيرك الكبير الذي نعيش فيه: لبنان.
لا يحقّ لنا بالطبع أن نملي على ألفتريادس تصرّفاته، أو كيفيّة إنفاقه أمواله، أو نوع السيارات التي يركبها.. لكن يحقّ لنا أن نستغرب، ممّن يمتلك سيارة ضخمة كفيلة بشلّ حركة المرور في أحد شوارع العاصمة، أن يكتب التغريدة التالية: «إنت لاجئ في وطني؟ خفّف لي تكزدر بسيارتك على الطرقات» (بتاريخ 19 أيلول الحالي).
فعلاً نعتذر منك يا إمبراطور اللامكان.. سنخلي لك الشوارع كي تمرّ بمركبتك العملاقة. أمّا أنتم، أيّها اللاجئون السوريون، فالتزموا منازلكم ــ إن وجدت ــ وامتنعوا عن التنزّه، وحتى عن التنفّس، قبل أن يأذن لكم ميشال ألفتريادس. ليس مستغرباً اهتمام ألفتريادس بحركة السير، فهو على ما يبدو لم ينزل يوماً من مركبته الإمبراطورية إلى الشارع، ليرى الأزمة الحقيقية لآلاف العائلات السورية التي هجّرت قصراً من منازلها، ولم تجد سقفاً يؤويها غير السماء.