هذا وغيره الكثير مما يمكن الوقوف عليه، عند التعرّض لشخص الشيخ الأعظم، الذي مدحه كبار المؤرخين السنّة قبل الشيعة أمثال ابن كثير الذي قال فيه: «وهو الذي كان قد بنى الرصد في مراغة، ورتّب فيه الحكماء من الفلاس
(تعليقاً على مقالة نشرت بتاريخ 13/9/2013،
تحت عنوان: «عزمي بشارة ومرصد مراغة»،
لكاتبها علاء المولى)
الشيخ بلال ناصر الدين/ جريدة الأخبار
أن تقارن شخصاً بآخر لإبداء رأي ما، ينبغي عليك أولاً المعرفة التامة بتاريخهما أو حاضرهما، وأن لا تعتمد على ما حكاه المؤرخون المرتزقة الذين امتهنوا الفتنة بين الشيعة والسنة على مرّ التاريخ الإسلامي. وقد تعرّض الكثير من العلماء من الطرفين، ولا أقول من طرف واحد فحسب، للافتراءات المغرضة التي تنال من مقامهم وشأنهم، بغية تفريق الأمة وإضعاف الثقة بعلمائها. وكذلك أيضاً، عليك أن تحدد هويتك الفكرية أو الأيديولوجية، وأن لا تخلط بين القومية والإسلامية، فإمّا أن تكون قومياً وإمّا أن تكون إسلامياً.
والخطير هنا أن يُقارن شخص لا يمثل نفسه حتى، بشخص يمثل الأمة بكاملها، بل وفكراً بكامله، وهذا أشد الافتراءات. هذا ما وجدته في مقالة نشرت تحت عنوان: «عزمي بشارة ومرصد مراغة»، فقد قرأتُ فيها ما يستفزّ عقل القارئ وقلبه، حينما بدأ بمقارنة الشيخ الجليل نصير الدين الطوسي بالمحلل السياسي عزمي بشارة، فكانت تلك الصدمة الأولى، وتبعتها صدمات أخرى. فكيف للكاتب أن يقارن بين هاتين الشخصيتين المختلفتين تماماً، بل لا وجود لأيّ وجه شبه بينهما، كما ادّعى كاتب المقالة، ولو بشيء واحد؟! هل يمكن مقارنة الشيخ نصير الدين الطوسي (1201 _ 1274م)، الذي يعتبر رائداً من رواد الفكر الإسلامي، ومؤثّراً كبيراً في حركة الفكر الشيعي، والذي لعب دوراً سياسياً وعلمياً عظيماً، وخصوصاً في التأثير على المؤسسة الدينية الشيعية، وبناء مناهجها الفكرية والعقائدية، والذي كان المؤسس الأول لعلم الكلام عند الشيعة من خلال كتابه الشهير «تجريد الاعتقاد»، بعزمي بشارة؟! إن أصل هذه المقارنة باطل، ولا يمكن القبول به، فكيف بقبول ما ساقه الكاتب من كتابات بعض المؤرخين المرتزقة.
ذكر كاتب المقالة الآتي: طلب هولاكو المشورة التجسسيّة من الطوسي عن أحوال بغداد ودمشق! فمن أين جاء بهذا الأمر؟! لا أدري، وهل يمكن القبول بأن شخصية كالشيخ الطوسي ينزّل نفسه هذه المنزلة المتدنية؟! أن يكون جاسوساً!، وإن كان كذلك، فلماذا إذاً حاول المغول قتله، وأودعوه في السجن؟! وذكر الكاتب أيضاً أن الطوسي لم يتردد في مد يد العون للغزوة الخارجية لتدمير ما بقي من الخلافة الإسلامية، حكماً ومدناً وحواضر! عجباً، فقد أصابتني الحيرة من أمره! تارةً يقول عن الطوسيّ إنه أحد علماء الفرس، وأخرى يقول «الخلافة الإسلامية»! وهل ينبغي أصلاً الدفاع عن خلافة المستعصم الذي عاث في الأرض فساداً وتنكيلاً، وأن تلصق خلافته باسم الإسلام ليقال «الخلافة الإسلامية»؟! وهل كان هذا الخليفة يمثل الأمة الإسلامية؟! ما هي الأمور التي قام بها الشيخ ليُتّهم بمدّ يد العون للمغول لاجتياح بغداد؟ وماذا يقال عن إنقاذ الطوسي لأحد أولاد الخليفة المستعصم الذي عُرف بلقب «مرك شاه» من القتل على أيدي المغول، وأبقاه تحت رعايته في مراغة (جامع التواريخ، ج 1، ص 194)؟!.
وممّا اتّهم به الكاتب الشيخ الطوسي أنه نصح هولاكو بأقسى وسائل التعذيب ضد العباسيين، بأن يضعهم في أكياس من الخيش لتدوسهم الخيول بحوافرها، وهذا أيضاً من الافتراءات التي حيكت على الشيخ الجليل. والجدير ذكره هنا هو أن القارئ يشعر وكأن كاتب المقالة كان هناك في مراغة وجبل آلموت، بل ربما كان في بغداد ورأى تلك الخيول وغبار حوافرها حين دوسها أجساد العباسيين، بل ووصل به الأمر أن استطاع التأمّل بجفون الطوسي، وبأنها لم ترفّ حين إعلان سقوط بغداد! إن كان الكاتب الكريم يحكي كشاهد عيان، فعلينا إذاً أن نتثبّت ما يقول بامتحان وثاقته، بل ومدى قدرته على الرجوع إلى الزمان الغابر بروحه وجسده، فإنْ صحّ هذا، فيكون قد فاق سوبرمان بقدرته على التنقّل، ولكن إنْ كان يحكي ما قرأه في الكتب الملفّقة، فهي لا تعدو كونها أساطير بعض فرق المسلمين الذي وقع الطوسي بينهم وبين العباسيين وكالوا له الاتهامات، وكلّ ما يذكر عن الطوسي في هذا الشأن إنما هو كذلك، مأْتيٌّ به من بعض الإسماعيليين الذين أرادوا إظهار عداوة الطوسي للعباسيين، ما يرفع من مكانتهم بين الناس بادّعائهم تأييد رجل عظيم لهم كالطوسي ووقوفه في وجه أعدائهم.
كذلك لا يعدو كونه من الحياكات الطائفية والمذهبية التي برع بها الكثيرون في العالم الإسلامي، حتى أصبحت فنّاً يختصّ به مَن رام عن الإسلام مالاً وذهباً. ومما يؤكد هذا الأمر أن الشيخ الطوسي استطاع استمالة هولاكو وأتباعه حتى أعلنوا إسلامهم وتشيّعهم، وهذا ما أثار ضغينة بعض أئمّة الفرق الإسلامية كابن تيميّة ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهما، ليختلقوا ما حُكي عنه من أباطيل.
هذا وغيره الكثير مما يمكن الوقوف عليه، عند التعرّض لشخص الشيخ الأعظم، الذي مدحه كبار المؤرخين السنّة قبل الشيعة أمثال ابن كثير الذي قال فيه: «وهو الذي كان قد بنى الرصد في مراغة، ورتّب فيه الحكماء من الفلاسفة ومن المتكلمين والفقهاء والمحدّثين والأطباء، وغيرهم من الفضلاء، وبنى له فيه قبّة عظيمة وجعل فيه كتباً عظيمة جداً»، ولا يقلّ عنه ما حكاه الذهبي وأبو الفداء والصفدي وغيرهم، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على مكانته الرفيعة بين العلماء من الطرفين، وأنه لا ينبغي إقحامه بما لم ينزل الله به من سلطان. وكان الأجدر بالكاتب أن يتحرّى الحق والواقع، قبل أن يتعرض لعالِم كبير تتلمذ على يديه كبار علماء الشيعة، وهم حتى هذا الزمن ينهلون من معين أفكاره ويحتفون بطهارته، ويتغنّون بشخصيته.
أن تقارن بين شخصين ينبغي معرفة حجم كليهما، لكي يكون هناك تكافؤ وإنصاف، وإنْ كان بحسن نيّة، وهدف نبيل.