مع التطورات التي وصلت اليها الازمة السورية والتراجع الاميركي عن ضربها عسكريا، انفتح باب دولي للأخذ والعطاء مبني على تقديرات في واشنطن بأن ايران يمكن ان تكون لاعباً مهماً في مؤتمر جنيف
علي عبادي
المفاوضات في شأن الملف النووي الايراني لن تكون سهلة وسريعة في ظل الشروط والشروط المضادة بين واشنطن وطهران، في وقت يبدو ان استراتيجية الولايات المتحدة لا تزال تركز على تطويع الجمهورية الاسلامية معتمدة على سيف العقوبات الاقتصادية وعامل الوقت، بينما يعتبر المسؤولون الايرانيون ان الاسراع في انجاز المفاوضات والوصول الى اتفاق في غضون عام واحد على الأكثر هو معيار أساسي للحكم على جدية الطرف الآخر. وتنبئ الإشارات الاخيرة غير المسبوقة التي ظهرت اخيرا في نيويورك عن توجه لإطلاق المفاوضات بوتيرة مختلفة، لكن المنطلقات المتعارضة للطرفين الاميركي والإيراني سترخي بظلها على سير المحادثات، لا سيما في ظل تجارب تاريخية فاشلة وعدم توافر الثقة وتباعد المواقف في شأن السياسات الاقليمية على ساحة الشرق الاوسط.
تاريخ من المحاولات الفاشلة
عندما هبط مستشار الامن القومي الاميركي روبرت ماكفرلن في طهران عام 1986 في مغامرة سرية هدفت الى نسج علاقات مع الجمهورية الاسلامية مع "هدية" تتمثل بمجموعة من صواريخ "تاو" المضادة للدروع، تفجرت حينذاك ما اسمي لاحقا فضيحة "ايران غيت" لتفصح عن تهافت اميركي بحثاً عن علاقة ما مع طهران الثورة التي أسقطت النظام الموالي لأميركا و"شرطيها في الخليج" في العام 1979.
لم يتمكن الاميركيون من فهم دروس هذه التجربة التي قضت على مستقبل ماكفرلين السياسي وكادت ان تطيح بالرئيس رونالد ريغان الذي أنكر معرفته بالموضوع، مضحياً بالعقيد اوليفر نورث كبش فداء في هذه القضية. طال الامر سنوات قبل ان تحاول واشنطن مجددا مد خيوط علاقة مع ايران لإدراكها أهمية ترويض هذا اللاعب الاقليمي الهام الذي يتمتع بقدرات وخصائص جيوستراتيجية فريدة بنظامه الثوري الإسلامي.
وعندما احتلت القوات الاميركية افغانستان عام 2001 ثم العراق عام 2003، كان في ذهن واشنطن ان طهران ستهرع الى ترتيب أمورها مع هذا "الجار" الجديد الطارئ على حدودها الشرقية والغربية، لكن طهران كانت تراهن على غرق الاميركي في رمال المنطقة، ورأت في الامر فرصة لإضعاف موقعه الاستراتيجي المكتسب.
سرعان ما بدأ الاميركي يبحث عن "تعاون" طهران لحل المشكلة، وكان اجتماع السفيرين الاميركي والايراني ريان كراكر وحسن كاظمي قمي في بغداد عام 2007، جلسة واحدة واكتشف الاميركي ان الايراني ليس سهل المنال وان نفـَسه على الحوار طويل وشاق.
لاحقاً، عمل الجانب الاميركي على فحص استعدادات الجانب الايراني لمدّ علاقات ثنائية من خلال محاولة عقد لقاء ثنائي بين رئيسي الوفدين الى مفاوضات 5+1 مع ايران، ولم يتمكن نائب مساعد وزير الخارجية الاميركي وليام بيرنز من إقناع رئيس الوفد الايراني سعيد جليلي بعقد هكذا لقاء. تكررت المحاولة في جلسة اخرى من دون جدوى.
كسر حاجز الممانعة
مع التطورات التي وصلت اليها الازمة السورية والتراجع الاميركي عن ضربها عسكريا، انفتح باب دولي للأخذ والعطاء مبني على تقديرات في واشنطن بأن ايران يمكن ان تكون لاعباً مهماً في مؤتمر جنيف المزمع عقده حول سوريا، بعدما كانت الادارة الاميركية تمانع في ذلك معللة هذا الموقف بأن ايران "جزء من المشكلة وليست جزءاً من الحل".
الآن تغير المزاج الاميركي والغربي في هذا الشأن وبات الكلام الرائج- في ضوء توازن القوى القائم حاليا- ان التفاوض وسيلة رئيسية لحل نزاعات وقضايا شائكة قي هذه المنطقة. والتقطت الادارة الاميركية الإشارات الصادرة عن الرئيس الايراني الشيخ حسن روحاني بشأن الاستعداد لتسوية الملف النووي الايراني والتعاون في شأن حل قضايا إقليمية، فعملت على رسم استراتيجية جديدة للتعامل مع الوضع البالغ التعقيد في الشرق الاوسط، اعتماداً على ان المكاسب التكتيكية اذا تراكمت يمكن ان تكون بحجم انتصار استراتيجي.
وقد تصاعد اهتمام ادارة الرئيس الاميركي باراك اوباما بإحداث اختراق على المسار الإيراني، وتعمدت إرسال اشارات مسبقة في اتجاه طهران، من قبيل "عدم استبعاد" عقد لقاء مباشر بين الرئيس الاميركي ونظيره الإيراني على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي ذلك طريقة دبلوماسية علنية لاقتراح إجراء لقاء ثنائي. لكن الجانب الإيراني أدرك ان اجتماعاً كهذا سيكون إنجازاً أميركياً خالصاً قد يضر بموقعه التفاوضي ويفتح باباً للجدل في إيران حول الحكمة من خطوة تهدم "المناعة" حيال الولايات المتحدة وتـُظهر طهران كمن يركض وراء البحث عن حل، أي حل.
وجاء تكليف اوباما لوزير خارجيته بحضور اجتماع 5+1 مع ايران في نيويورك إشارة ثانية الى رغبة أميركية في رفع مستوى اللقاء المباشر مع طهران بسرعة. وحتى عندما اتضح أن لقاء الرئيسين تعذر بفعل "ضيق الوقت"، كما عبّر الرئيس روحاني، لم ييأس الرئيس الاميركي من محاولة فتح قناة اتصال عالية المستوى من خلال محادثة روحاني ولو على هاتف السفير الايراني لدى الامم المتحدة.
ليس مهماً ما يقال في هذه المحادثة، المهم بالنسبة للجانب الاميركي إحداث اختراق في الداخل الايراني وكسر حاجز الممانعة، وفي هذا مكسب له بحد ذاته. وقد يرى الاميركيون في اي جدال ايراني داخلي حول طريقة ادارة الملف النووي فرصة لإذكاء هذا الجدل عن طريق عرض مغريات وما شاكل وممارسة خطابات العلاقات العامة على طريقة خطاب اوباما للايرانيين في عيد النوروز قبل اربع سنوات.
ومن وجهة نظر طهران، تـُعدّ الوحدة الداخلية أبرز عوامل القوة في موقف النظام الاسلامي، لذلك فان أحد السيناريوهات المتصوَّرة حول المحاولات الاميركية المتكررة سابقا وحاليا لفتح ثغرة في الموقف الايراني هي شق الصف الداخلي الذي بُني وجُبل على مناهضة "الاستكبار العالمي" والاميركي خصوصا.
خناك نقطة أخرى تتعلق بالموقع القيادي للجمهورية الاسلامية الايرانية على مستوى المنطقة، وهو امر تعي تماماً انه لا يمكنها ان تفرط به، فالعيون شاخصة الى ايران وهي تفاوض بعزة واقتدار من دون ان تتخلى عن ثوابتها او حلفائها، وهي أثبتت على مدى سنوات طويلة أنها وفية لحلفائها وتحمل قضاياهم في المحافل الدولية من دون كلل.
مناخ تفاوضي جديد
لكن هل تعني اللقاءات المباشرة والمفاوضات ان جدار العداء العالي الارتفاع بين طهران وواشنطن قد ينخفض في مدى قريب؟
الجواب ليس بسيطاً، لكن يجدر بنا تذكر حقيقة ان الهدف الأميركي الذي لم يتغير هو احتواء ايران والقوى الصاعدة الاخرى، وتمثل العقوبات سلاحا رئيسيا في يد الولايات المتحدة الاميركية في الطريق الى تحقيق هذا الهدف.
ومن جهتها، لن ترضى ايران بالقليل في أية تسوية، فهي تتحدث بنبرة عالية ولكن مدروسة في السعي لتفكيك سلاسل العقوبات التي ضُربت من حولها على مدى السنين الفائتة، ولذلك نراها تؤكد على التمسك بحقوقها النووية وتكرر مواقفها المبدئية على صعيد السياسة الخارجية ولا سيما موقفها من القضية الفلسطينية.
اذن هو صراع بين طرفين لن يتمكنا من حل كل القضايا الخلافية طالما ان واشنطن لا تزال تتعامل مع ايران على انها دولة من دول العالم الثالث يمكن ان تتنازل عن كل شيء لقاء رفع العقوبات عنها.
صحيح ان في ايران بعض الاصوات التي تنادي بالانفتاح على الغرب انطلاقا من شعار"ايران اولاً"، لكن هذه الاصوات معزولة ولا تتمتع بالفاعلية التي تخولها تحويل اتجاه البلد، وقيادة الجمهورية الاسلامية تتصرف من منطلق أن الامور في الواقع الحالي تميل لمصلحتها في جوانب عدة وان الوضع الدولي يتغير في اتجاه يخالف الرؤية الاميركية.
ومع ذلك، فإن الموضوع النووي تحديدا لن يُحل في وقت قريب بغياب تفاهم مباشر بين واشنطن وطهران، وسبق ان عبّر محمد البرادعي عندما كان مديرا عاما للوكالة الدولية للطاقة الذرية عن هذه القناعة خلال احدى زياراته الى طهران. وثمة مناخ دولي جديد يوحي بأن بعض الظروف مهيأة الآن أمام الجانبين لمقاربة هذا الملف بدون إملاءات مسبقة على قاعدة الاعتراف بضرورة القيام بخطوات غير اعتيادية، وفي ذلك مصلحة دولية عامة خصوصا مع تزايد القناعة بضرورة اخلاء الشرق الاوسط من الاسلحة النووية (وهذا بالطبع يزعج خاطر اسرائيل) وصولا الى التعامل مع الطاقة النووية السلمية بكثير من الحرص واليقظة.
مرة ثانية، لن تكون المفاوضات سهلة في الشأن النووي، لأن الأميركيين سيدخلون في التفاصيل يدفعهم الاسرائيليون الى ذلك دفعاً. والايرانيون ليسوا أقل اهتماماً بالتفاصيل، وهم الذين أرهقوا مفاوضي ست دول كبرى على مدى جلسات طويلة وقال عنهم ذات مرة دبلوماسي غربي إنك عندما تتفق معهم على شراء طاولة منهم، فإنك تحتاج الى التفاوض معهم مرتين: مرة على صنع الطاولة، ومرة ثانية على صنع أرجلها!