الفتنة لن تُبقي لهم شيئاً؛ لا جماعات ولا مؤسّسات ولا حتى مبادئ تُحترَم. عليهم أن يعرفوا، وبوعي، أنّ عدم المبادرة اليوم إلى التواصل للتوحّد في مجابهة الفتنة بمصدرها ولغتها ونارها التي باتت تطّلع على الأفئدة
الشيخ شفيق جرادي/ جريدة الأخبار
تحتدم الخلافات اليوم بين الجماعات الدينيّة والسياسيّة في المنطقة العربيّة والإسلاميّة على مصالح تمسّ هويّة هذه الجماعات ودورها السياسي والأيديولوجي.
وفي غمرة الصراع العنيف على التفاصيل، كثيرة هي المبادئ والقيم التي ضاعت أو تكاد أن تضيع. ولعلّ من أخطر الأمور في هذا الجانب، أنّ الناس التي تكتوي بنار هذه الصراعات قد تصل إلى الدرجة التي لا تعود معها معنيّة بمن هو على حقّ، ومن هو على باطل.
الكلّ في حُكم الموجوع مذنب وخاطئ. فليس بالأمر المهمّ عند الناس أنّ المسلم أو المسيحيّ هو الذي اعتدى أوّلاً، وليس بالمهمّ أنّ السنّي أو الشيعي هو الذي أثار الاستفزاز، وليس بالمهمّ أنّ الديني أو العلماني أو القومي والوطني هو الذي افترى، إذ الهمّ الأساسيّ الذي يعني الناس أنّ خلافات هؤلاء هي ساحة الخوف والجوع ونقص العمر والأنفس والأمن.
الخلاف، هو المرض الداهم الذي هدم بيوتهم ومستقبلهم وبنيتهم الاجتماعيّة والنفسيّة.
الكلّ في نظر المكلومين والثكالى والمهجّرين من ديارهم بغير حقّ، مجرم يستحقّ العقاب ويجب أن يرتدع.
وليت الأمور تقف عند هذا الحدّ، فالإحباط الناشئ من الألم الأليم سيحكم على الأوطان والوطنيّة، وعلى الأقوام والقوميّة، وعلى الأديان والطوائف والمذاهب، بأنّها جميعاً قد سقطت. وإذا كنّا إلى الآن لم نسمع تصريحات واضحة بهذا الشأن، فإنّ سياقات الأمور تأخذنا إلى ما نهاب ونخشى رغم تمنياتنا ألا تقع هذه الواقعة المفجعة ويخسر الناس ثقتهم بأنفسهم وقيمهم وزعاماتهم وأديانهم.
وحتّى لا يبدو وكأنّي مفرطٌ في التشاؤم وأعيش رهبة الأحداث والعنف الذي يلفّ المنطقة، فسأقول، وقولي هذا يمثّل جزءاً حقيقيّاً من اقتناعاتي: إنّ الذي يعيق مثل هذا الانحدار إلى الآن، أمور نذكر منها:
الأمر الأوّل: خيار المقاومة للمحتلّ الإسرائيليّ، ولكلّ وجوه العدوان الاستكباريّ على المنطقة، والذي تمثّل أخيراً بالتماسك القويّ بين قوى الممانعة في المنطقة في مواجهة احتمالات العدوان الأميركيّ على سوريا. هذا التماسك الذي آثر اعتماد مبادئ الثبات وصدق الوفاء في تبنّي خيار المصير المشترك، على مصالح الحياد وتقاسم بعضٍ من المغانم ونيل قِسطٍ من الدعة.
الأمر الثاني: روح العفويّة الشعبيّة الصادقة التي ارتسمت بعض ملامحها في الشارع العربيّ أخيراً، والتي رفعت شعارات وصور قيادات دينيّة وقوميّة، يجمع بينها رغبة الاستقلال وحبّ فلسطين وتحرير الأرض.
الأمر الثالث: توجّه بعض القيادات الدينيّة المسيحيّة والإسلاميّة إلى الناس بدعوتهم للابتهال إلى الله والصلاة من أجل درء مخاطر العدوان والحروب العبثيّة.
الأمر الرابع: أنّه برغم «تسونامي» جنون العصبيات الذي يجتاح المذاهب والأيديولوجيات والجماعات، ما زال هناك أصوات من عقلاء وحكماء وشجعان تعلو هنا وهناك... والمفارقة، أنّ أغلب هؤلاء الشجعان العقلاء هم من شرائح إعلاميّة ونضاليّة لا تتّصل غالباً بمراكز القرار العليا، إلّا أنّهم الأكثر تمثيلاً لصوت المكلومين.
لكن، كلّ هذا لا يعفينا من القول: إنّ الأمر مقلقٌ للغاية، فالعدوّ المتربّص تجاوز خطوط الفصل بين الأمم، ودخل إلى عالمنا العربيّ والإسلاميّ ليُحدث الخراب في كلّ ما عندنا من داخل ما عندنا، حتّى بتنا نخشى أنّ الوطن يغتال الوطن، كما يغتال القومُ القوم، والدينُ الدين، والمذهبُ المذهب، والحزب الأحزاب...
في آتون هذه المخاوف، لا سبيل لنا إلّا الثبات والعمل على الانتقال من المأزق إلى الحلّ.
نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى وعي وإرادة... أمّا الوعي فأن يعرف المتصدّون من قيادات هذه الأمّة ومرجعياتها الدينيّة والسياسيّة أنّ الفتنة لن تُبقي لهم شيئاً؛ لا جماعات ولا مؤسّسات ولا حتى مبادئ تُحترَم. عليهم أن يعرفوا، وبوعي، أنّ عدم المبادرة اليوم إلى التواصل للتوحّد في مجابهة الفتنة بمصدرها ولغتها ونارها التي باتت تطّلع على الأفئدة، سوف تطيح كلّ شيء.
وليس مثل نور الحق إذا انجلى بأفضل وأقدر على إطفاء نار الباطل وتبديد ظلماته. إنّ الوعي المطلوب اليوم، وعيٌ حيٌّ مقتدر عملانيّ خَبُر الناس، وخَبُر الأديان في روحها السامي، وخَبُر الحقّ في مجاليه الإنسانيّة العزيزة والكريمة.
وعيٌ يحترم التعدّد كما يحترم الخصوصيّة، ويدافع عن الناس دفاعه عن كلمة الله وكتابه المقدّس، ويحفظ المجتمع كما يحفظ بيت الله. فأيّ خصوصيّة ستبقى إذا انعدمت التعدّدية؟ وأيّ بيت أو كتاب هو لله إذا خلا من الناس وألفة الناس، وحبّ الناس للناس تحت فيء لطف بارئهم وعين رحمته؟.
وهذا الوعي يحتاج إلى الشجاعة حاجة العقل إلى القلب، والنفس إلى الروح. شجاعة مُبادِرَة تعمل على أن تفقأ عين الفتنة كي لا تحرق الفتنة البلاد والعباد. وإذا كان ردّ الفعل على أيّ أمرٍ يقتضي التناسب مع الفعل، فإنّ الفتنة في معيار حكم الله سبحانه أشدّ من القتل وأكبر. لذا، على أهل الوعي والشجاعة أن يجابهوا الفتنة بقصاص هو أعلى وأشدّ من قصاص القتل.
كل الوأد حرام إلّا وأد الفتنة واجب، ومن لم يعمل على ذلك فهو شريك في صناعتها وتسعير نارها.
إلى متى ينتظر أهل الرأي حتى يخرجوا من مرحلة إعلان التصريحات المندّدة بالفتنة إلى مرحلة بناء التراحم بين الناس؟
إلى متى يبقى المجدّفون على الله يقتلون ويدمّرون باسم الله والدين؟..
ولماذا نحاكم من فعل حراماً على خطيئته، ونسكت عمن يرتكب كلّ يوم أفظع الموبقات وأشنعها؟ لماذا يسكتنا الخوف وتُطلق أخطاء الناس المستضعفة كلّ بياناتنا وفتاوينا وحُرُماتنا؟
ليست المشكلة في أنّنا لا نعرف، بل المشكلة في أنّنا نخاف.
وهل يعذرنا الله والتاريخ إذا قصّرنا في تبيان الحقّ، أو قصّرنا في حفظ حقوق الناس بالسلام والأمن والأمل؟
أيها المتصدّون... إلى الآن لم نكفر بكم، ولم يكفر بكم الناس. لكن صدِّقوا أنّ الأمر لن يطول إن لم تفقأوا عين الفتنة. ﴿إِلاَ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ (سورة التوبة، الآية 39).
الشيخ شفيق جرادي مدير معهد المعارف الحكميّة للدراسات الدينيّة والفلسفيّة في لبنان