الانتصار الممكن في سوريا ليس سورياً فحسب. إنّه مرشح لأن يكون مفصلاً تاريخياً على الصعيدين القومي والعالمي، إذا ما توافرت الإرادة لكسر الموجة النيوليبرالية العالمية وإقامة بديل اجتماعي
لا يزال التفاهم الروسي ــ الأميركي حول سوريا في لحظة التأسيس لمرحلة جديدة. وبرغم كل الأجواء التفاؤلية، يبقى من السابق لأوانه الحكم على حتمية نجاح المسار الجديد الذي فتح كوة في الاستعصاء الممتد على ما يقرب السنوات الثلاث من الحرب المدمرة في سوريا.
فريق الحرب الذي يمتد من واشنطن إلى تل أبيب وأنقرة والرياض والدوحة، لا يزال يمتلك القدرة على تخريب المسار السلمي. ولذلك فإن الجهود الجارية حالياً تنصب على تطويع «إرادته» نفسها. ولكن عن أي مسار نتحدث بالضبط، وما هي ممكناته القصوى، سوريا؟.
علاء المولى / قيادي يساري ـ لبنان
حقّقت الديبلوماسية الروسية، انجازين شديدي الأهمية: كسر الأحادية في النظام العالمي وإعادة الاعتبار إلى القانون الدولي في العلاقات الدولية. وحصل ذلك عقب عقدين سيطر خلالهما قانون القوة والبلطجة في علاقات الإمبريالية الأميركية مع بقية دول المعمورة. أما الدولة السورية التي شهدت أراضيها «نماذج» عديدة من حرب عالمية مصغرة، فنجحت، حتى الآن، في الصمود وتلافي تدميرها وتفتيت نسيجها الوطني والاجتماعي والحفاظ على وحدتها، وإنْ في حالة تهشيم وتخريب طاولت البلاد والعباد، جراء حرب العصابات التكفيرية الإرهابية.
وإذا كان «اليوم التالي»، بالنسبة إلى روسيا، لن يكون بأقل من التربع، المعترف به دولياً، على مقعد رئيسي في قيادة النظام العالمي الجديد، فإن سوريا ما بعد الحرب، أمامها معركة تاريخية تتمثل في إعادة بناء الدولة وتوحيد المجتمع وإعمار ما هدّمته الحرب. تلك المعركة هي التي ستحدد النتائج النهائية، سورياً، للحرب الدائرة منذ أكثر من عامين ونصف عام في البلاد؛ فالانتصار الحقيقي ليس في الصمود ومنع كامل المشروع المعادي من التحقق، فقط، بل، أيضاً، في قيام نموذج سوري بديل يلهم الشعوب للقيام بثوراتها التحررية الاجتماعية المنتظرة.
يقود مسار التسويات السياسية المتوقعة إلى النتائج الكلاسيكية التي تلي، عادة الحرب، وتعكس موازين القوى الناجمة عنها. ومن المفهوم أن أي اتفاق روسي ـــ أميركي سيشهد تفاهماً على احترام متبادل للمصالح في المنطقة، لكن الفائدة السورية من ذلك التفاهم الدولي ستكون «سلبية» إذا ظلت محصورة في دائرتي الحماية (الروسية) من جهة والإصلاحات السياسية من جهة أخرى. وهو ما سيفضي، تباعاً، إلى تحديد دور سوريا الإقليمي وخلق صعوبات جدية أمام خيارها الاستراتيجي في دعم المقاومة.
هل هذا هو أعلى ما يمكن سوريا أن تحققه فعلاً؟ أي أن تتحدد سيادتها، عملياً، في إدارتها «المستقلة» للبرنامج الإصلاحي، السياسي والاقتصادي، المطلوب إمبريالياً؟ وبعبارة أخرى، القيام، ذاتياً، بتنفيذ السياسات التي خاضت الإمبريالية والرجعية العربية والتركية، الحرب لفرضها بالقوة على سوريا؟ إذ ذاك، سيكون الحفاظ على النظام السوري، مجرد انتصار شكلي، يفتح الباب أمام هزيمة جوهرية، بل أكثر من ذلك، يكون النظام السوري قد قاتل وانتصر، لكي يقوم هو بمهمة لبرلة سوريا، والحيلولة، تالياً، دون استمرار نهج المقاومة. هذا المآل ممكن، وهو يشكل ضربة لمستقبل سوريا، الدولة والمجتمع، لكنه ليس مآلاً حتمياً، لا بل نكاد نجزم بأنه، في الظروف الإقليمية والدولية الراهنة، يمكن سوريا أن تتبنى خيارات وطنية اجتماعية مستقلة، من شأنها إطلاق شرارة تغيير وجه المنطقة والعالم. والمسألة برمتها مرهونة بقرار استراتيجي وديناميكي معاً، يعطي للإرادة مكانتها، مقابل الحساب الستاتيكي لموازين القوى الدولية.
تتجمع في المعركة الكبرى، معركة البناء ما بعد الحرب، جملة من الفرص النادرة لتشكيل سوريا كدرّة للتاج المشرقي ورافعة لدوله وقوة ملهمة على الصعيد العالمي. ومدخل ذلك يتمثل في قراءة متأنية للواقع الدولي في حقيقته العارية، قراءة تلحظ بشكل خاص دخول الأنظمة السياسية الغربية مرحلة الأفول «التاريخي»، ما يعني اقتراب أفولها «الواقعي»؛ فالأزمة البنيوية للرأسمالية، في مركزها الإمبريالي خصوصاً، ونتائجها التدميرية في عدد متزايد من الاقتصاديات الأوروبية، وسّعتْ، بشكل غير مسبوق، قاعدة المتضررين حول العالم، وعمّقت الشعور بعدم القدرة على التحمل لدى فئات متزايدة من المواطنين.
وحصل ذلك جرّاء جملة من السياسات النيوليبرالية المتوحشة، المفقرة للأفراد والمجتمعات والدول معاً. وهي سياسات كان يؤمل أن تعمر أطول لو قيض لمشروع الهيمنة على المنطقة أن ينتصر. غير أن هذا الاحتقان الاجتماعي الذي عُبِّر عنه بأشكال ووتائر مختلفة، وفي أكثر من بلد، لم يصل إلى حدود الانفجار الملازم للأوضاع الثورية؛ فقد تمكنت مؤسسات اللعبة الديموقراطية الليبرالية، حتى الآن، من احتوائه. وتفيد دراسات عديدة نظرت في هذا التفارق بين الاحتقان الاجتماعي وتعبيراته السياسية في الغرب، واستنتجت أن الحياة السياسية والحزبية التي أصيبت، هي أيضاً، بالتصحر في المجتمعات الغربية، تؤدي دوراً محبطاً للفئات الشعبية والنخب على السواء؛ ففي الوقت الذي تظهر فيه حركات راديكالية مناهضة للعولمة والسياسات النيوليبرالية، وتخوض نضالاتها في الشوارع وبين الجماهير، تتصرف الأحزاب السياسية بشكل عام كما لو أنه لا يوجد أمل جدي في الأفق القريب لإحداث تغيير في السياسات المسيطرة.
ويمكن المراقب العادي أن يلاحظ أنه في أوروبا، كما هي الحال في الدول العربية مثلاً، يكاد رجال الدولة الرفيعو المستوى ـ حتى بالمعنى البورجوازي التقليدي ـ أن يكونوا غائبين، وتبدو البدائل المطروحة، غالباً، أسيرة بنية التفكير والممارسة السياسية التي كُرِّست خلال عقدي الهيمنة النيوليبرالية. وهي، في المجال الفكري والثقافي، تعبير عن هيمنة الثقافة الإمبريالية الأميركية على نظيرتها الأوروبية. ومؤدى ذلك، كما تبين من لقاءات عدة جرت مع سياسيين ومناضلين من دول أوروبية، هو تنامي الشعور بالعجز مصحوباً بالشعور بانعدام القدرة على التحمّل!.
لكن الجديد الذي طرأ على هذا المشهد، ويهدد بتفجيره، هو علامات القدرة على مواجهة الهجمة الإمبريالية كما تبدّت في الصلابة السورية وصعود القوة الروسية والإيرانية؛ ففي الواقع، كان العالم كله يحتاج إلى من يوقف آلة القتل ومنظومة النهب، وإلى من يعيد للسياسة معناها، وإلى القانون موقعه، وإلى من يضع حداً لهذا الانحدار غير المسبوق للقيم والمبادئ في العلاقات الدولية والإنسانية. ولقد حصل ذلك في صمود سوريا، قبل أن ترفده مصر بما يشبه الثورة المستمرة التي تحمل أهدافاً وطنية واجتماعية بالدرجة الأولى. غير أن الصمود، مرة جديدة، لا يكفي للحديث عن انتصار؛ علماً بأن نتائج ذلك هي دون شك مهمة على الصعيد العالمي، ذلك أنها، في الحد الأدنى تعيد إنتاج الأمل وزرع الثقة بالقدرة، وخصوصاً لدى الجمهور الواسع من الأوروبيين المحبطين. مع ذلك ثمة ما هو أبعد من ذلك وأعمق، في المطلوب والممكن في آن واحد: إقامة النموذج البديل وإثبات إمكان تحقيقه. وهو ما سينعكس، باعتقادنا، على دول المشرق ابتداءً، وصولاً إلى الدول العربية والقارة الأوروبية. في هذا السياق، تحديداً، تكمن أهمية صوغ الاستراتيجية المناسبة لخوض المعركة الكبرى في سوريا. معركة إعادة بناء الدولة السورية وفق نموذج وطني اجتماعي مستقل، يعتمد خياراً تنموياً شاملاً يقوم بالدرجة الأولى على القدرات المحلية ويوظف الرساميل الخارجية، وخصوصاً من دول «بريكس»، وفق مخطط توجيهي وطني لإعادة البناء.
ليس هذا خيار استعادة نموذج القطاع العام القديم، بل هو خيار اجتماعي تقدمي يقوم على نهج اقتصادي يتجاوز النيوليبرالية ويتمركز حول التصنيع والتطوير الزراعي وتوليد فرص العمل في القطاعات الإنتاجية. ويجري تدعيم هذا النموذج بتجربة وطنية خاصة في ديموقراطية تتوافق مع خصائص المجتمع السوري ومتطلبات المشروع التنموي.
إن عملية إعادة الإعمار نفسها تبدو قادرة على تحويل الصمود إلى انتصار، وذلك بشرط تنفيذها بعقول وسواعد السوريين، بعيداً عن نماذج شركات التطوير العقاري وشروط شركات المقاولات العالمية والإغراءات المسمومة لمجمع النيوليبراليين.
الانتصار الممكن في سوريا ليس سورياً فحسب. إنّه مرشح لأن يكون مفصلاً تاريخياً على الصعيدين القومي والعالمي، إذا ما توافرت الإرادة لكسر الموجة النيوليبرالية العالمية وإقامة بديل اجتماعي يضغط بوهجه على بقية أنحاء المنطقة والمعمورة. وعناصر هذه الإمكانية، متوافرة، أولاً، في قاعدة التصنيع السورية وآفاق تطورها، محمية بجيش وطني صلب تدعمه قاعدة التصنيع الحربي، وثانياً في إيجابيات تراث وتجربة التحالف الاجتماعي الوطني السوري خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وثالثاً في استحضار كل موارد المدى المشرقي، الطبيعية والبشرية والاقتصادية والتجارية. وبقدر ما يعني ذلك، من فرصة تنموية وحدوية بالنسبة إلى السوريين وأبناء المشرق العربي، فإن انعكاسه على شعوب الخليج ومصر والسودان والمغرب العربي، سيكون كبيراً.
غير أن ما هو أهم، يتمثل في قدرة سوريا، الناهضة من قلب الحرب والدمار، على إعادة تصدير قيم النهضة والتنوير والمدنية، إلى الغرب الغارق اليوم في ظلام القرون الوسطى. نعم، من سوريا بات ممكناً، تغيير العالم.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه