لم يستقم مناخ الغزل الأميركي لإيران طويلا، فما بعد الخطاب التمهيدي الودي عودة ٌالى خندق الشروط والشروط المضادة قبل جولة المفاوضات المقبلة بين ايران والدول الست المتابعة لبرنامجها النووي.
علي عبادي
لم يستقم مناخ الغزل الأميركي لإيران طويلا، فما بعد الخطاب التمهيدي الودي عودة ٌالى خندق الشروط والشروط المضادة قبل جولة المفاوضات المقبلة بين ايران والدول الست المتابعة لبرنامجها النووي. عودة ٌمحكومة بتفاهم ما او الانتكاس مجددا، لكنها بالتأكيد ستخلف بصمة مختلفة في تاريخ العلاقات المقطوعة بين الطرفين.
سريعاً، اعرب الطرفان عن المشكلة الحقيقية التي تعترض اقامة حوار ايراني- اميركي جدي؛ ترددت عبارة "الثقة" والحاجة الى "أفعال وخطوات ملموسة" على ألسنة مسؤولي البلدين بصورة لافتة للإنتباه خلال الايام التالية لزيارة الرئيس الايراني الشيخ حسن روحاني الى نيويورك. إستشعر الجانبان، كل من جانبه، أهمية تحقيق تقدم فعلي مبني على تنازلات من الطرف المقابل، مما يشير الى ان المفاوضات لن تكون سهلة.
أين تكمن صعوبات التفاوض؟
مأزق المفاوضات يمكن اختصاره بالنقاط التالية:
أولاً: النوايا. يحاول كل من الطرفين الاميركي والايران سبر نوايا الآخر عبر طرح الحاجة الى مبادرات تتجاوز اطار العلاقات العامة والتصريحات المعسولة. الجانبان محكومان بسقف عال من التوقعات وينتظر كلٌ منهما تحقق قدر جزئي منها ليبني على الشيء مقتضاه ويأخذ المبادرة التالية. وهذه الوضعية قد تـُحوج واشنطن وطهران الى خوض مفاوضات ثنائية بعيدة عن الاضواء للخروج بصيغة تحظى بموافقة الطرفين. وقد طرح الايرانيون فيما مضى مبدأ التزامن بين تنفيذ التزاماتهم ورفع العقوبات عن بلادهم.
ثانياً : المهل. يطرح الجانبان مهلاً مختلفة للوصول الى نتيجة. فالإيرانيون لا يريدون للمفاوضات ان تطول وهم يُبدون تصميماً على الوصول الى حل بشأن برنامجهم النووي خلال مدة زمنية قد تصل الى 6 أشهر ولا تتجاوز السنة في أي حال. والادارة الاميركية التي تتجاوب كلامياً مع هذا التوجه الايراني تتجنب تحديد سقف زمني للمفاوضات، وهي قد ترى أن من الممكن الافادة من تلهف الايراني الى حل ٍواستعجاله رفع العقوبات خلال وقت قصير لتحويل ذلك عاملاً ضاغطاً عليه، لا سيما انها بدأت تقول صراحة ان العقوبات القاسية وغير المسبوقة هي من جلب الايرانيين الى المفاوضات وان لا سبيل الى تخفيفها الا بخطوات من جانب طهران "يمكن التحقق منها"، على ما بدأت الأدبيات الاميركية تردد.
ثالثا: الشكل. يبدو شكل المفاوضات مهماً جداً في الحوار الاميركي- الايراني، فالمكان ومستوى الوفد التفاوضي وطريقة التحادث، أمور تعطى أهمية خاصة قد تسهم في انجاح الحوار او إفشاله. وتندرج التصريحات الاعلامية ضمن هذا الاطار، فقد يكون لبعضها أثر استفزازي مُضر بمناخ التفاوض، وعلى العكس قد يفيد بعضها الآخر في تحفيز الأمور الى الأمام.
رابعا: الشروط. وهنا جوهر القضية. الجانب الايراني يريد اعترافاً باستقلالية برنامجه النووي وحقه في امتلاكه دورة الوقود النووي بما فيها الحق في تخصيب اليورانيوم داخل ايران، حتى لا يكون عرضة للإبتزاز. وتجربة الايراني الطويلة مع مفاعل بوشهر لا تشجعه على وضع بيضه في سلة أي من القوى الخارجية. ويبدي الايرانيون استعداداً ضمنياً لتحديد مستوى التخصيب وتقديم كل الضمانات لمراقبة برنامجهم وفق البروتوكول الاضافي لمعاهدة الانتشار النووي الذي تم توقيعه طوعاً. أما أميركا فهي تطرح رؤية غير نهائية لبرنامج ايران النووي، وهي إذ تعترف بحقها في امتلاك برنامج نووي لغاية سلمية، فإنها تطلب أن تسمح إيران للمراقبين بحرية الوصول إلى كل المنشآت النووية (وهذا يفتح باباً عريضاً للتفتيش يشمل منشآت عسكرية، كما حصل سابقاً مع المطالبة بدخول مجمع بارشين العسكري جنوب طهران)، كما ترفض مبدئياً استمرار ايران في تخصيب اليورانيوم بنفسها (ولو ان الاجواء السابقة أوحت بإمكان قبول قيام ايران بتخصيب اليورانيوم ضمن هامش لا يتعدى 5 %)، وتبدي استعداداً لأن توفر القوى العظمى لإيران وقوداً نووياً لأغراض مدنية، كما تطلب أن تنقل إيران اليورانيوم المخصب إلى دولة أخرى. كذلك تريد واشنطن ان توقف ايران تطوير منشأة فوردو قرب قم ومفاعل آراك للمياه الثقيلة، وصولا الى تحجيم البرنامج النووي الى أقل حد ممكن.
"اسرائيل" عقدة اضافية
ولا ريب ان هذا التباعد في مواقف الطرفين يزداد حدة مع دخول "اسرائيل" على خط محاولات التقارب الايرانية – الاميركية. وليس غريباً ان يعود اوباما القهقرى بقوله أمام نتنياهو في واشنطن الاسبوع الماضي انه لا يستبعد الخيار العسكري في التعامل مع ايران، وإن أكد انه يعطي الدبلوماسية فرصة. فلقد حرص الرئيس الاميركي على طمأنة حليفته الاستراتيجية في المنطقة الى سياسته الجديدة حيال طهران، مؤكدا على التزامه "الحذر" في المفاوضات المزمعة، واتفاقه مع نتنياهو على ضرورة ألا تمتلك ايران سلاحا نوويا. غير ان هذا "الاتفاق" لا يمنع الاختلاف حول طريقة مقاربة هذا الملف، خاصة ان رئيس الوزراء الصهيوني دعا صراحة الى اتباع طريق العقوبات المشدَّدة ضد ايران، ولجأ الى القنوات الخلفية في الكونغرس ولوبي الضغط الصهيوني "أيباك" لمحاولة حشد الجهود ضد تقارب اميركي- ايراني، بل إنه ذهب بعيدا في التهديد بالتحرك على نحو منفرد ضد ايران. وهذا السلوك المعتاد لنتنياهو في "المشاغبة" على الرئيس الاميركي لقي انتقادات حتى من بعض الاوساط المؤيدة لـ"إسرائيل" التي اعتبرت انه يقوم بجهد تخريبي للمساعي الاميركية السياسية ووصفوا خطابه بالمتعجرف.
صحيح ان نتنياهو تقصّدَ أن يذكـّر واشنطن بحضور طيف "اسرائيل" الدائم في السياسة الاميركية، لكن سلوكه تخطى المقبول اميركياً وأظهره معزولاً حتى بين حلفائه، في وقت يبدو ان واشنطن تحتاج الى تحقيق اختراق أساسي في التعامل مع ملفي ايران وسوريا. ولهذا جاءت توصية الادارة الاميركية للكونغرس بتأجيل البحث في فرض اجراءات أحادية الجانب ضد ايران الى حين اتضاح صورة المفاوضات المقبلة. ولهذا قد نرى في المستقبل القريب مزيدا من التحركات الهادفة الى تحريك هذه المفاوضات وإخراجها من الطريق المسدود الذي ترزح فيه منذ سنوات.
ايران تردّ الكرة
ومن ناحية طهران، عاد السقف السياسي ليرتفع من جديد مع التوجيهات التي أدلى بها الإمام السيد علي الخامنئي، وخاصة لجهة تأكيده على ان "الحكومة الأميركية غير جديرة بالثقة وغير عقلانية ولا تفي بوعودها" وإشادته في الوقت نفسه بالمبادرة الدبلوماسية للحكومة الايرانية برغم ان بعض جوانب زيارة الوفد الايراني الرسمي الى نيويورك "لم تكن في محلها"، في اشارة كما يبدو الى الاتصال الهاتفي بين الرئيسين الاميركي والايراني. وهذا التصريح بأبعاده الايرانية الداخلية يهدف الى تصليب الموقف الايراني وتوحيد الرؤى حيال مستقبل الحوار مع اميركا، في ضوء جدل استجدّ هنا وهناك حول هذا الموضوع الأساسي بالنسبة للإيرانيين. وهي كذلك اشارة الى الحكومة بوجوب تحقيق تناغم داخلي خلف الحركة السياسية الخارجية، منعاً لأي استغلال اميركي لتداعيات محتملة لهذه السياسة. وفي البعد التفاوضي، يحاول الإمام الخامنئي إعطاء انطباع بأن ايران منفتحة على الحوار، لكنها لا تخفي تشاؤمها بشأن نتائجه بسبب فقدان الثقة بالحكومة الاميركية ومنطلقاتها، وهو هنا يردّ الكرة الى الملعب الاميركي حيث أُطلقت تصريحات تقول ان الفضل في مجيء ايران الى الحوار هو للعقوبات التي ستستمر سلاحاً رئيسياً في المفاوضات وان المطلوب من طهران تقديم تنازلات غير محدودة. والتموضع الجديد للموقف الايراني من شأنه أن يعيد التوازن الى الموقف العام ويدفع الاميركي الى طرح تصور عملي بعيدا عن الكليشيهات الجاهزة التي تستند الى فكرة ان ايران تتهافت لفتح علاقات مع اميركا ومستعدة لأن تفعل اي شيء مقابل رفع العقوبات.
المعطيات الحالية لا توحي بأن الأرضية جاهزة لبناء نتائج قريبة في المفاوضات المقبلة بين ايران والدول الست، ذلك أن "أزمة النوايا" لم تـُذلل بعد، وأن الشروط المسبقة أضحت عائقاً أمام حدوث تطور جوهري، في حين تضغط المهل من هنا وهناك على المفاوضين. وأصبح ضرورياً تحويل الدبلوماسية الى ناتج ٍملموس بعيدا عن الشكليات والتصريحات غير البناءة. غير ان الطرفين يعطيان الانطباع بأن المفاوضات بدأت تواً على الهواء مباشرة او في الغرف الدبلوماسية، ويبقى نجاحها من عدمه رهناً بوجود إرادة سياسية وتفاهم داخلي في كلا البلدين.