إنها أمريكا التي لا تؤمن سوى بربوبية المال وعبودية الدولار، وتلك إحدى أهم جوانب مكونات الثقافة (التوراتية –اليهودية )المنظرة للإقتصاد الرأسمالي الغربي (النفعي) الأنغلوساكسون المؤسس للرأسمالية الغربية.
"يتوقف حل مشاكل العالم -سواء تعلق الأمر بالمجاعة في الجنوب المعسر، أو بالبطالة والإقصاء اللذان يطالان الشمال الموسر، على قدرة العاقلين من السياسيين والنخب المثقفة، على جمع وتوحيد كل ضحايا هيمنة الولايات المتحدة لعزل قادتها ،بالإتحاد ضمن"باندونج" Bandoengجديد،يضم شعوب الجنوب الذين لم يعودوا يتقبلون الهيمنة الأميركية وإذلالاتها، وّإلا فلينظروا إلى أوروبا التي طالما إستغلت هيمنتها على المستضعفين ،تجد نفسها اليوم مستعمرة بدورها، وفاقدة لروحها وثقافاتها" ..
الراحل"روجيه غارودي من كتابه: "الولايات المتحدة: طليعة الإنحطاط"
مرت أواخر أيام سيبتمبر حبلى بالأحداث الساخنة التي تأخذ بالأنفاس، بدءا بإجتماع العشرين الكبار الذي لطّف من تعالي نبرات دعاة الحرب التي سرعان ما خفت حدتها، بعد الدوش البارد السلافي الذي أعاد دوران الدم الصافي في أجساد وعقول تجار الحروب في إجتماع"بتيرسبورغ"، وأزال الحجب عن طلاسم "سلام الرعب" الذي إستطاع فيه "بوتين" بالحركات المحسوبة على رقعة الشطرنج أن يفك أحجياته.. ثم جاء الإجتماع السنوي في الأمم المتحدة الذي تفاجأ العالم بتلك المكالمة الخاطفة القصيرة التي لم تدم سوى 15 دقيقة ما بين الرئيس الإيراني الشيخ "حسن روحاني" والأميركي"حسين باراك أوباما"، تعقبها بثلاثة أيام تلك الزيارة الخاطفة للإسرائيلي"بنيامين نتانياهو" الذي إستغل الظرف الصعب المتوتر بين الجمهوريين والديمقراطيين بسبب التصويت على"برنامج أوباما الصحي" وإنشغال الكونجرس بالبحث في شؤون الميزانية، لكي يحاسب أوباما في موضوع التقارب( الإيراني- الأمريكي) مهددا بعزمه على الهجوم الفردي على المفاعل النويية الإيرانية.
وكأن الرجل سيلعب"لعبة فيديو"في حارة من حارات تل أبيب، حيث أن أوباما أضطر لكي يجيبه بتلك الإجابة الأوبامية الثعلبية المعروفة "إن كل الخيارات مع إيران واردة بما فيها التدخل العسكري المباغت". ورحل نتانياهو ولا أحد يعرف لم تلك الزيارة الخاطفة في هذا الظرف الأمريكي الحرج بالضبط؟!..
ولرب ضارة نافعة... ولعل الله سبحانه وتعالى قد أشغل الظالمين بظلمهم، إذ صمت الغرب كله عن الحديث عن "الكيماويات السورية" و"التباكي على الشعب السوري من قمع نظامه " إذا سقطت الحكومة الأمريكية- وسقطت معها أوروبا بكاملها - بعد ثلاثة أيام في حال فوضى وقلق ورعب لم تعرفها الولايات المتحدة منذ أعوام 1913 و 1917 وفي عهدة بيل كلينتون العام ،1995حيث إنه منذ يوم الثلاثاء 1-10-2013 بعد الدقيقة الواحدة من منتصف الليل لا تملك الدولة الأمريكية"شروى نقير" أي لا توجد ميزانية لتصريف شؤون الشعب الأمريكي. وأطلق على تلك الحالة ما يسمى بالإنجليزية بـ"«shutdown التي تعني باللغة العربية " الوقف او الوقوف او الإيقاف الى حين ...".
كما إستيقظت أوروبا أيضا، صبيحة يوم الثلاثاء 1 أكتوبر2013 عند الساعة السادسة والدقيقة الواحدة، على الكلمة المرعبة التي يرددها الإعلام الأمريكي "الوقوف" فترجمتها الصحف الفرنسية بـ'النهاية"،"الإنحدار"،"الصعقة"،"الصدمة"،إلى غير ذلك من المترادفات اللغوية وإشتقاقاتها التي تحمل معاني "البوكالبيس" أو"الإنحطاط". ولم يفهم رجل الشارع العادي الفرنسي والأوروبي ،كيف أن أعظم دولة في تاريخ العالم جبروتا- ما لا وولدا وجندا،- و"احب" بلاد الله إلى خلقه ديموقراطية و"إنسانية" وعدالة إجتماعية، لم يعد لها ميزانية مالية لتصريف شؤون شعبها ،إبتداء من منتصف الليل ليوم الثلاثاء 1 أكتوبر2013- نعم هكذا - بدعوى ان الميزانية لم يصوّت عليها "الكونغرس"مما يعني بلغة الواقع العملاتي أن الولايات المتحدة ستتعرض الى حين تصويت الكونغرس على الميزانية 17 من أكتوبر، إلى الشلل التام والى ضربات قاتلة في الجسم الأمريكي.
وللتذكير، فإن "الوقف" او"الإيقاف" او( تعليق الأمور الى حين ) هو إجراء قانوني إحترازي أمريكي، يتمّ فرضه في حال عدم موافقة الكونغرس على التصويت على الميزانية، وهو ما حدث يوم الثلاثاء بسبب رفض الجمهوريين- الذين يكونون الأغلبية في مجلس الشيوخ منذ إنتخابات نوفمبر 2010- الموافقة على برنامج" اوباما الصحي " obamacare الذي هو بدوره قانون تحايلي لمصلحة البنوك التي ستسفيد منه بقرضها للدولة –وتلك من أحاييل أوباما بصفته محاميا سابقا للبنوك والشركات المتعددة الجنسيات وليس من أجل سواد عيون الفقراء.…إنها أمريكا التي لا تؤمن سوى بربوبية المال وعبودية الدولار، وتلك أحدى أهم جوانب مكونات الثقافة (التوراتية –اليهودية )المنظرة للإقتصاد الرأسمالي الغربي (النفعي) الأنغلوساكسون المؤسس للرأسمالية الغربية.
إنعكاسات "الوقف" العملية على المجتمع الأمريكي:
1-على الرئيس أوباما: سيحرم الرئيس الأمريكي أوباما نفسه من ثلاثة أرباع الموظفين والعاملين بالبيت الابيض من تعداد1701 موظف ستطال كل من له علاقة بتسيير شؤونه الخاصة، إبتداء من الكناس والطباخ والمكوجي،الى الحرس والإداريين، وصولا الى مستشاريه في الإقتصاد والأمن.
ثانيا: العاصمة واشنطن: ستشل أعمال النظافة العمومية في شوارع العاصمة وفي المدن الكبرى، وسيحال نحو مليون من موظفي الدول إلى" البطالة التقنية chômage technique "-كما تسمى باللغة الفرنسية ، إلى 17 من أكتوبر الجاري- شريطة أن يستجيب الكونجرس لمطلب أوباما- ويمنع منعا باتا ممارسة أي عمل "إضافي خفي" خلال هذه "الإجازة المجبرة"، مخافة الزيارات المفاجئة لمراقبي الضرائب التي ستعرّض كل من حاول" الإستعانة" على كسب العيش "بالطرق الغير الشرعية " – ويتعرض كل من مارس عملا خفيا في هذه الفترة الى عقوبات قانونية او الحرمان من العمل ومن مساعدات الدولة.
ثالثا: ستتعرض معظم اعمال الدولة في كل البقاع الأمريكية. إلى الشلل النصفي ،إذ سيحال نحو400.000 خبيرفي البينتاغون على البطالة او ما يسمى تلطيفا" بالإجازة الإحبارية" إلى حين ...،بينما يكون الجيش الوحيد في كل قطاعات الدولة الذي سيلزم بالإستمرار في أداء واجباته مع تأخير توصل الجنود بمرتباتهم –كما تفتقت عن ذلك عبقرية أوباما في تصريحه مساء يوم الإثنين الماضي.
أرقام المتوقفين عن العمل :
90000 من موظفي الضرائب ،:.18000 من موظفي العدالة،115000....من موظفي كبار الدولة .وموظفي وزارة العدل والمحاكم الجنائية والمدنية، مما سيترتب عنه تأخير البث في آلاف القضايا.
في مجالات الخدمات الصحية: تقليص خدمات المستشفيات في اميركا إذ أن أكبر مستشفى بضاحية واشنطن "سيرفض قبول أي مريض جديد وكذا في معظم سائر مستشفيات كبرى المدن الأمريكية بسبب تقليص عدد الأطباء والممرضين وسيارات الإسعاف الحكومية الى الحد الأقصى.
إغلاق المتاحف الفدرالية والحدائق الوطنية وسيتم إيقاف موظفي وزارة البيئة .
إغلاق قاعدة "الناسا" الفضائية –وطمأن أوباما رجلي الفضاء بأنه سيتم الإبقاء على مركز المراقبة.
وفي الحصيلة : توقيف 800000 ،من كبارموظفي الدولة: من المخابرات المركزية ، والامن الداخلي والبوليس، مما ستكون له عواقب وخيمة على المصالح الإدارية في كل ربوع الولايات المتحدة الأمريكية .
وتم تتويج هذا المشهد القاتم بتراشقات الجمهوريين والديموقراطيين بتبادل كيل التهم، وذهب الأمر ببعض الجمهوريين بعيدا إلى وصف أوباما بـ"الشيوعي"والعميل الروسي، الى غير ذلك من الهذاءات السياسية ..
ومنذ صبيحة اليوم التالي للازمة الأمريكية، أرعبت البنوك الاوربية، وتزلزلت الأوساط المالية ، وكثرت التحليلات، ما بين متطرف في التشاؤم او مغرق في التفاؤل ،وارتفع –كما العادة- الجدل البيزنطي بين المدافعين عن"السوق الحرة" والعولمة الإقتصادية، مقابل المعارضين والمنتقدين للنظام الإقتصادي الرأسمالي الغربي برمته.
فإختلط الحابل بالنابل والكل يتساءل عن سر السماح للبنك المركزي الأمريكي طبع مليون تريليون من الدولارات بدور رصيد الذهب ،مما يعني ببساطة تراكم "أوراق مراحيض"على شكل دولارات وصبها في الأسواق المالية والتجارية والمعاملات المصرفية اليومية في الداخل الامريكي وخارجه، مما دفع خبراء من العيار الثقيل امثال "شودوفسكي" استاذ الإقتصاد السياسي الكندي او الدكتور Dr. Paul Craig Roberts بأن امريكا هي طامة العالم الكبرى ،وان السياسيين الأمريكيين من الديمقراطيين او الجمهوريين ليس في حوزتهم أية حلول لبلدهم سوى إشغال الأمريكيين بحروب خارجية لا ناقة ولا جمل لهم فيها، ومن تم فلا مفر من قبول نهاية الأمركة ، وما بعد الولايات المتحدة، ونهاية الغرب برمته والإستعداد للدخول في دورة زمنية وحضارية جديدة تقودها الدول الصاعدة من خارج المحيط (الانغلو-فرانكو-إسرائيلي) وهكذا يرى عقلاء الفكر الأمريكيين- من خارج السياج الصهيوني المتحكم ببلدهم وحضارتهم..
وبغض النظر عن الشلل الفدرالي فإن أنظار العالم كله موجهة بالتركيز على تاريخ 17 من أكتوبر تفسره لنا مديرة صندوق النقد الدولي Christine Lagarde في محاضرة لها عن الأزمة المالية الدولية الخانقة بواشنطن في قولها، ":" إن شلل الميزانية الـأمريكية هو في حد ذاته طامة كبرى-في الداخل والخارج- ولكن عدم القدرة على رفع سقف الدين ستكون عاقبه وخيمة –غير مسبوقة- على الولايات المتحدة وعلى العالم بأسره".
ويردف كبير النقاد الإقتصاديين الأمريكيين Max Keiser "ما كس كيزر" على هذه النظرة التشاؤمية لمديرة صندوق النقد الدولي بقوله الساخر: "إن البنوك الأمريكية والأوروبية تحتضر، ولن يفلح خبراؤنا الماليين في إعادة الحياة لإقتصادنا الذي تعفن ،مهما إستخدموا من أنواع المطهرات، ومزيلات الروائح النتنة للأزمة، وهذا ما تحاوله "-عبثا- كريستين لاغاط"-ورفاقها من "عباقرة" متخصصي المال والإقتصاد في منظمتي"صندوق النقد الدولي" والبنك الدولي" والبنوك المركزية في أوروبا "ماستريخت"او بالمنظمة العالمية للتجارة-(الجاط سابقا).
فإن الولايات المتحدة –يقول ماكس- ستظل تفبرك للعالم "الأصوليات" الإسلامية و اليهودية والمسيحية من أجل تفجير العالم، وستسعي الولايات المتحدة وحلفائها المتميزين : إنجلترا وفرنسا في تعميق مشاكل البطالة والإقصاء والهجرة والعنف والمخدرات " ... ويبقى دائما ذات التساؤل الذي أطرحه في كل مقالتي : لصالح من ؟ ومن المستفيد؟..
المقال للدكتور الطيب بيتي العلوي (مع بعض التصرف - موقع المنار)
baiti@hotmail.fr