في انتظار هجوم الحصن، يعيش أهالي وادي النصارى يوماً بيوم. القرى الجميلة التي اعتادت مظاهر الفرح واستقبال السياح، لم تعتد معارك الكرّ والفرّ. بعض شبانها حملوا السلاح
مرح ماشي
في انتظار هجوم الحصن، يعيش أهالي وادي النصارى يوماً بيوم. القرى الجميلة التي اعتادت مظاهر الفرح واستقبال السياح، لم تعتد معارك الكرّ والفرّ. بعض شبانها حملوا السلاح، فيما أهلها يصلّون للجيش كي ينقذهم من «الوحش».
موكب سيارات يقلّ عروسين وجمعاً من عائلتيهما على مدخل وادي النصارى. رغم الظروف الصعبة، الفرح واضح على وجوه الناس في السيارات التي تمرّ تباعاً وراء السيارة البيضاء المزينة بالزهر الأبيض، وسط السواد المخيّم على المنطقة بعد الهجمات التي تعرضت لها قرى وبلدات على تخوم الوادي. يهلّل عناصر حاجز «الدفاع الوطني» للركاب. هم أصلاً من أهالي المنطقة. معظمهم حمل السلاح للدفاع عن منزله ومنطقته من دون مقابل، قبل أن تنتظم أوضاعهم مؤخراً بعدما خصصت لهم الدولة رواتب في مقابل المهمات التي يقومون بها.
43 قرية تشكّل «الوادي» المحاذي لشريط جغرافي مشتعل في أقصى غرب حمص، والذي تجاور آخر قراه، مشتى عازار، قرية المتراس الطرطوسية التي عادت إلى سيطرة الجيش قبل أيام.
الغطاء الأخضر الذي لطالما تميزت به الجبال في هذه المنطقة يكاد يختفي. حرق المزروعات على جانبي الطرق لمنع عمليات التسلل التي تتخذ من كثافة الأشجار غطاء لها بات تكتيكاً عسكرياً معتمداً في معظم المناطق السورية. لا تملك إلا أن تبتسم عندما ترى اللافتة التي كُتِبت عليها عبارة «معاً لمنع الحرائق ــ وزارة البيئة»، لا تزال صامدة وسط كل هذا السواد.
في انتظار المعركة
صور الشهداء إلى جانب صور الرئيس بشار الأسد، تملأ شوارع القرى والبلدات. معظم هؤلاء قضوا في قصف لبلداتهم أو دفاعاً عن قراهم في هجمات شنتها «جبهة النصرة» و«جند الشام» بدءاً من منتصف آب الماضي على حواجز «جيش الدفاع الوطني» في قرى الوادي ومحيطه.
يعيش وادي النصارى وسكانه في انتظار المعركة الكبرى. الشائعات على كل لسان عن مئات من المقاتلين يتحضرون في قرية الحصن المجاورة للهجوم على الوادي. المعلومات المتداولة أنّ غالبية هؤلاء لبنانيون، وبعضهم الآخر تركمان، بالإضافة إلى الجنسيات الأخرى التي تعرف إليها السوريون منذ بدء الأزمة.
بين قريتي المزينة والحواش القلق مبرّرٌ. تلوح قلعة الحصن الأثرية المدرجة على قائمة «الأونيسكو» للتراث العالمي إلى اليسار، وتكشف طريق الوادي كاملاً. تبعد القلعة عن الحدود اللبنانية حوالى 13 كيلومتراً، وفيها أعداد كبيرة من المسلحين والكثير من الأنفاق تحتها. وتعتبر منطقة وادي خالد اللبنانية خط الإمداد الرئيس للحصن وبقية ريف تلكلخ بالمسلحين الذين يتبع معظمهم لتنظيم «جند الشام» و«الكتائب التركمانية».
درّة الوادي
الإعلانات عن شقق مفروشة للايجار تملأ طرق الحواش، ما يذكّر بمواسم الصيف العامرة بالسياح والمصطافين. عند التوجه إلى مرمريتا، يجب الانعطاف يميناً. لتصير القلعة إلى جهة اليمين.
مرمريتا، درة الوادي، كانت قبل المأساة السورية منتجعاً صيفياً يضجّ بالحياة. يبلغ عدد سكانها 5600 نسمة، وهي تتميّز بالعدد الكبير من أبنائها المغتربين الذين يزورونها صيفاً مع عائلاتهم لإحياء مهرجاناتها. عدد النازحين إلى البلدة خلال فترة أحداث حمص الأولى بلغ 4000 شخص، لدى معظمهم مساكن صيفية في الوادي. الشارع الرئيسي في البلدة يتعرض لنيران المسلحين المتحصّنين في الحصن، والذين هاجموا في آب الماضي فندق البلدة الذي يؤوي عدداً من المهجرين من المناطق الساخنة في حمص، وارتكبوا مجزرة راح ضحيتها نحو 20 مدنياً، بينهم نساء وأطفال.
يقول «العم سالم»، الرجل الستيني وأحد شخصيات الوادي، أن المحظور الذي لطالما كان أهالي المنطقة يخشونه قد وقع. يتحدث عن «مظاهر تقطيع لم نسمع بها من قبل. قطع رؤوس وسحل جثث وتمثيل بأجساد المخطوفين وتعذيبهم».
معدل الزيادة السكانية السنوية في البلدة 10 أشخاص! تبدو النسبة غريبة مقارنة مع الزيادات السكانية المخيفة في مناطق الجوار، ما يدفع زياد، وهو مدرّس من إحدى قرى الوادي، الى مطالبة الكنيسة بـ«تشجيع الناس على الإنجاب، والمساهمة في تكاليف الولد الثالث والرابع على سبيل المثال، بهدف زيادة عدد الرعية في المشرق والتعويض عن الأعداد الكبيرة للمغتربين والمهاجرين». وهي دعوة تلقى على أية حال رواجاً بين البعض، وينسبها هؤلاء الى رجال دين. لكن الأب «طوني» (اسم مستعار)، نفى لـ «الأخبار» أن تكون أي من العظات قد تضمّنت دعوة كهذه.
«لا ميليشيات مسيحية»
أحد رجال الدين المسيحيين في المنطقة، طلب عدم ذكر اسمه، يعتبر أن «المؤامرة تهدف إلى إفراغ الشرق من مسيحييه، وإنشاء دويلات طائفية»، لذلك يحضّ في عظاته الأسبوعية المسيحيين على عدم الهجرة «باعتبارهم مكوناً أساسياً من مكوّنات المجتمع»، ويدعوهم إلى «التشبث بالوطن والدفاع عنه». يرفض «الأبونا» مطالبات بعض مسيحيي الاغتراب بحماية المسيحيين، مؤكداً أن «الإنسان السوري ليس ضعيفاً ليستنجد بالآخرين». ويضيف: «لا نتكلم من مبدأ أقلّوي، وإنما كمواطنين سوريين».
لا مشكلة للخوري مع الجيران، إنما «مع من يقيمون لديهم من غرباء»، داعياً أبناء الحصن إلى «حل مشكلتهم مع الغرباء الذين استضافوهم وأصبحوا يقيمون بينهم ويقتلون جيرانهم. عندها يمكن الحوار مع شركاء الوطن لحل مشكلات الجيرة العالقة»، مؤكّداً ثقته بأن إعادة الثقة بين أبناء الحصن والوادي أمر ليس مستحيلاً. ويشدّد على أنّ «لا ميليشيات مسيحية في الوادي»، بعدما صوّر برنامج تلفزيوني عبر إحدى الفضائيات اللبنانية أبناء المنطقة وكأنهم مجموعة مسلّحة مسيحية تابعة للدولة، موضحاً أنّ «هؤلاء الشباب حملوا السلاح للدفاع عن أرضهم وبقائهم بعد استهدافهم من قبل المسلحين».
المصالحة مع... الشيشان!
يتبع شريط القرى المسيحية في المنطقة لمطران وادي النصارى إيليا طعمة. يأخذ البعض على المطران ما يسمّونه «حياديته الطاغية على ضرورة وضوح موقفه الوطني، والذي يجب أن يعبّر عن موقف غالبية الرعية المسيحية في المنطقة». يتحفظ أحد أبناء البلدة عن مواقف رجال الدين، ويقول: «كانت مواقف بعضهم أفضل حالاً في بداية الأزمة». ويوضح: «في حفل تأبين ثلاثة شهداء سقطوا في وقت واحد... لا يمكنك أن تجاهر بطلب المصالحة. المصالحة التي تطلبها الآن ليست مع ابن الحصن الجار، بل مع الشيشانيين المقيمين هُناك... وباعتراف أبناء الحصن أنفسهم». ويبرر مدير مدرسة سابق من مرمريتا تأخر الجيش في حسم المعارك العسكرية في الحصن وتخليص أبناء الوادي من معاناتهم، بالقول إن «لحماية دمشق أولويتها بالنسبة للدولة. وهذا الأمر يجب تقديره»، رافضاً بعض الدعوات عبر شبكات التواصل الاجتماعي إلى حماية دولية للمسيحيين... وهي دعوات يجد أصحابها مبرراً لها كلما شخصوا بأنظارهم صوب القلعة التي تبدو أشبه ما تكون بوحش متأهب للانقضاض على فريسته الجميلة.
غابت السياحة وحضر القناص
تجارة العقارات من الأعمال التي ازدهرت في الوادي بعد الأزمة، إذ استغل البعض موجة الغلاء الحاصلة لرفع الإيجارات. فيما تأذت السياحة، وتستمر في التراجع بعد كل حادث يحصل في المنطقة. يقول أحد السكان: «كان من الممكن رؤية 2000 شخص في منطقة الكافتيريات قرب حاجز الفاروق مساء، إلا أن العدد تناقص بعد حصول مجزرة 16 آب». المجزرة المذكورة تحفر عميقاً في نفوس أهل الوادي عند الحديث عنها. يذكّر الرجل بأول شخص خطف في الوادي، وكان خورياً من حارة السرايا، قبل أن يحمل أبناء الوادي السلاح، مبرراً للشباب المسيحي انضمامهم إلى «الدفاع الوطني».
الخروج من الوادي يشابه الدخول بذات الحذر والترقب. برودة الجو الخريفي تشي بسكينة وهدوء يخفيان وراءهما الكثير. تزداد سرعة السيارة عند الشوارع المكشوفة للقنّاص. يمكن أن تركّز النظر على القلعة القريبة متسائلاً: «ما الذي يشغل القنّاص عن التصويب الآن؟»، أو لعلّك تشكر استراحة غداء تشغل مسلحي القلعة عن أداء مهماتهم، فتطيل أعمار المارين على الطريق في هذا التوقيت.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه