لم تحدد السعودية موعداً بعد للأخضر الإبراهيمي. وزير خارجيتها سعود الفيصل موجود في باريس للعلاج، وهو المسؤول عن الملف. ولا شغل بين الإبراهيمي وبندر بن سلطان
ابراهيم الأمين
لم تحدد السعودية موعداً بعد للأخضر الإبراهيمي. وزير خارجيتها سعود الفيصل موجود في باريس للعلاج، وهو المسؤول عن الملف. ولا شغل بين الإبراهيمي وبندر بن سلطان. وفي الانتظار، ينتقل الإبراهيمي من القاهرة إلى العراق، ثم إلى عمان والكويت وقطر وتركيا، قبل محطته الرئيسية إيران التي يغادرها قادماً إلى بيروت، قبل أن ينتقل مطلع الأسبوع المقبل إلى سوريا، حيث ترتّب له موعد عمل مع الرئيس بشار الأسد.
زيارة السعودية أساسية في جولة الإبراهيمي، من دونها سوف يكون مجدداً أمام عقبة بارزة قبل انعقاد مؤتمر جنيف ــ 2. الرجل يهتم بكل الدول التي يزورها، لكن ينطلق من حسابات واقعية. بحسب تقديره، فإنّ الولايات المتحدة وروسيا تتحملان المسؤولية عن تنفيذ قرار عقد جنيف ــ 2، وتحديد التاريخ في 23 تشرين الثاني. كانت هذه إشارة تفاؤل بالنسبة إليه، عززت أمله بإطلاق آلية سياسية بعد تعطّل العدوان الأميركي على سوريا. لكن الإبراهيمي، الخبير في ملفات معقدة من هذا النوع، يعرف ويقول إن مهمة روسيا وأميركا لا تقف عند حدود الدعوة وتحديد تاريخ المؤتمر والدعوة إليه، بل هي أساساً تتركز في ممارسة النفوذ، كلاً على حدة، وكلاً لدى حلفائه في سوريا والمنطقة، من أجل تسهيل انعقاد المؤتمر.
في وقت سابق، كان على الإبراهيمي أن يأخذ في الاعتبار مواقف دول عدة إلى جانب إيران والسعودية، لكن تطورات الأشهر الثلاثة الماضية جعلته أكثر راحة إزاء مواقف دول مثل مصر وتركيا وقطر، وهو ليس في وارد النقاش والشماتة، لكنه في وارد استغلال الوضع الذي يحصر التعقيدات في ثلاثة طوابق للأزمة:
ـــ طابق دولي، فيه الولايات المتحدة وروسيا، قد حصل بعد مفاوضات معمّقة مع المسؤولين فيها على نتائج جيدة وواعدة.
ـــ طابق إقليمي، فيه إيران والسعودية، وهو حصل على مؤشرات إيرانية إيجابية، لكنه شديد القلق إزاء الموقف السعودي.
ـــ طابق سوري، فيه النظام الذي يريد مساعدة الإبراهيمي، لكن ليس وفق قاعدة الشروط المسبقة. ويبدو أن تبادلاً للرسائل سهّل إعادة التواصل المثمر بين الجانبين. وفي هذا الطابق توجد قوى المعارضة على اختلافها. والإبراهيمي يواجه هنا أحجية لم يساعده أحد على حلها، بل يشعر بأن المعارك القائمة الآن بهدف السيطرة على الميدان أو الإطار السياسي، قد تعقّد المسألة أكثر. لكن مساعده في دمشق الدبلوماسي المحترف مختار لاماني يقدر على تقديم لوحة عن القوى الحقيقية الموجودة في الداخل. أما في الخارج، فالإبراهيمي مستعد لمقابلة الجميع، لكنه يحتاج إلى دعم خاص من الولايات المتحدة والسعودية لإنجاز تركيبة من وفد معارض إلى مباحثات جنيف ـــ 2.
الموفد العربي يتصرف إزاء الأزمة السورية انطلاقاً من حسابات تقوده إلى استنتاج بأن الحل يتطلّب صياغة جديدة للإطار السياسي الحاكم، لكن تجربة الشهور الماضية لن تجعل الإبراهيمي يتقدم بمقترحات محددة. وفي المرحلة الأولى، سيطلب من طرفي النزاع في سوريا وفي الإقليم وفي العالم، التقدم كلٌّ برؤيته للحل. وهو لذلك مهتم بأن يقول لإيران كما للحكم في سوريا وحتى لحزب الله في لبنان، أن يعدّوا تصوّرهم للمفاوضات المقبلة، وسيفعل الأمر نفسه مع الولايات المتحدة والسعودية وأطراف سورية معارضة.
لكن واقعية الإبراهيمي تجعله يعود إلى الرهان أولاً على الضغط الخارجي. يستعيد هنا تجربة اتفاق الطائف في لبنان. صحيح أن الحل كان لبنانياً، لكن إطار الاتفاق والوصول إليه تطلّب تفاهمات إقليمية دولية، سهّلت أو ضغطت على اللبنانيين للوصول إلى اتفاق يوقف الحرب.
الأوراق والميدان
يعرف الإبراهيمي أن أطراف النزاع تعمل على ترتيب أوراقها كافة. في هذا السياق، انتقلت الولايات المتحدة وأوروبا والسعودية ودول داعمة للمجموعات المسلحة إلى خطة جديدة لمحاصرة النظام. الاتفاق الكيميائي أسقط من أيدي هؤلاء حيلة. اليوم يسعون إلى وقف التقدم العسكري لقوى النظام في أمكنة عدة من سوريا، لا سيما في محيط دمشق، وعلى الحدود مع لبنان. ولهذه الغاية رفع لواء الملف الإنساني في أكثر من منطقة، والهدف وقف العمليات العسكرية لقوى النظام، بينما تسعى السعودية في هذه الأثناء إلى تعزيز وجود المجموعات الموالية لها في مناطق الغوطة الغربية والجبال المطلّة على لبنان. وهي لا تزال تمدّ هؤلاء بالدعم، سواء من الجنوب عبر محافظة درعا والحدود مع الأردن، أو من الغرب عبر شمال لبنان ومنطقة عرسال وسفوح جبال لبنان الشرقية. وتسعى السعودية إلى جعل المجموعات الموالية لها تحسم الأمرة لمصلحتها على الأرض، ولو اقتضى الأمر الإجهاز على ما تبقّى من «جيش حر»، كما هي الحال في مناطق حلب وإدلب، حيث تجري تصفية التركة القطرية ـــ التركية.
لكن ذلك لن يلغي استعدادات الطرفين لمعركة ميدانية كبيرة خلال الأسابيع القليلة المقبلة. صحيح أن الغرب والسعودية يضغطان لمنع النظام من التقدم بعد فشل مشروع العدوان، لكن الجميع يعرف أن النظام لن يدخل قاعة جنيف ـــ 2 وهو متجهّم بسبب خسارة ميدانية ما. وفي هذه النقطة بالتحديد تكمن «المشكلة».
أثمان للسعودية
يقول الأميركيون إنهم يمارسون كل أنواع الضغط على الدول العربية والإقليمية الداعمة للمعارضة السورية. لا يحتاج أحد منهم إلى شرح حول واقع الأزمة داخل تركيا، أو حول الانسحاب القطري المتسارع، ولا حول موقف مصر الجديد بعد إطاحة حكم الإخوان المسلمين. لكن الأميركيين يتصرفون كأنهم في حالة إحراج إزاء موقف السعودية، وثمّة مناورات جارية يميناً وشمالاً لأجل إرضاء السعودية بورقة مقابل موافقتها على ذهاب أنصارها إلى جنيف ـــ 2. السعودية تعمل على ابتزاز واضح لكل من واشنطن وباريس باعتبار أنهما من يعارض الإقدام على «دعسة ناقصة» في الملف الحكومي اللبناني.
في فرنسا تيار قوي له موقف مطابق لموقف السعودية، يضم رجال «الدبلوماسية الاستخبارية» الفرنسية الناشطين في المنطقة، ولا سيما في لبنان (صارت السفارة الفرنسية في بيروت مقراً لإدارة الملف بكل تفاصيله بما في ذلك رعاية أعمال إرهابية). وهذا التيار لا يزال يراهن على عامل الوقت. لكن باريس تدرك كما الآخرون أن الإطار السياسي الجامع لقوى المعارضة بات ضعيفاً للغاية، وأن القوى النافذة على الأرض لا تستمع إلى هؤلاء السياسيين. وحتى اللحظة، تعاني باريس من مشكلة مع مجموعات مسلحة تحتجز رهائن فرنسيين في مناطق الشمال، ولا تجد مَن يساعدها على الحل. وتقرّ باريس كما الولايات المتحدة بأن السعودية باتت صاحبة اليد العليا على صعيد المجموعات المسلحة على الأرض.
الدفع في لبنان والقبض على سوريا
تشير المعلومات المتداولة إلى أن «الرشوة» التي يمكن أن تقدم للسعودية مقابل دعمها مؤتمر جنيف قد تكون في لبنان. بالنسبة إلى الرياض، فإن لبنان اليوم أسير حزب الله وإيران. والسعودية تظهر حساسية مفرطة إزاء أي دور إيراني في سوريا، وهي ترى أن مهمتها المركزية الآن محصورة في إجبار حزب الله على الخروج من سوريا في أسرع وقت، وأنها مستعدة لكل شيء من أجل تحقيق هذا الهدف.
في لبنان، هناك ملف عالق اسمه تأليف الحكومة. حاول وليد جنبلاط استغلال التراجع الأميركي ـــ الإقليمي في سوريا من أجل الدفع نحو حكومة مقنعة (أغلبيتان وأقلية)، لكنه شعر بأن اقتراحه مرفوض بقوة من جانب فريق 14 آذار. كان جنبلاط ينتظر عودة بعض المقرّبين من الرئيس سعد الحريري إلى بيروت، حتى يعرف أن السعودية ترفض المقترح بكل قوة، وهي مستعدة لأي شيء يمنع تحقيقه. ولذلك تقرر بعد انتهاء عطلة عيد الأضحى المباشرة بحملة شديدة ومركّزة عنوانها: ضرورة تأليف حكومة قبل عيد الاستقلال المقبل!
الله وحده يعلم ما إذا كان أحمد فتفت يعرف لماذا قيل له أن يطالب بحكومة قبل عيد الاستقلال. لكن الرسالة تتصل بأن السعودية تريد حكومة موالية لها قبل موعد جنيف ــ 2، وهي تحثّ الرئيسين ميشال سليمان وتمام سلام على السير بحكومة (8 + 8 + 8)... لكن كيف؟
ـــ ترى السعودية أن بمقدور تمام سلام الاستمرار في مهمته وتعرف أنه يصعب العثور على بديل منه اليوم. ولذلك سوف يكون مطلوباً منه إعداد تشكيلة لا تستثني أحداً (بما في ذلك حزب الله)، على أن تكون الحصص موزعة على أساس ثلاث فئات متساوية. وفي حال رفض حزب الله أو حلفاؤه وحتى التيار الوطني الحر المشاركة، يجري اختيار شخصيات قريبة منهم. كذلك الحال مع وليد جنبلاط.
ـــ تعمل السعودية على إقناع جنبلاط بالموقف الحيادي، أي إنه ليس ملزماً بالمشاركة في الحكومة، لكن ليس صاحب مهمة إفشال التأليف. والحياد هنا يعني أن على جنبلاط عدم التدخل أو التأثير في موقف الرئيس سليمان أو في الرئيس نجيب ميقاتي، لأن للأخير دوراً يلعبه.
ـــ تفترض السعودية أن الرئيس ميقاتي سوف يعلن ـــ هي تراهن على مساعدة غربية لها ـــ أنه غير مستعد للاستمرار في رئاسة حكومة تصريف أعمال، وأنه لن يقبل أن يبقى في السرايا في حال شغر موقع رئاسة الجمهورية.
ـــ تعمل السعودية على إقناع الرئيس سليمان بأنه في مواجهة الفراغ الرئاسي المنتظر، فإنه لا يحق له تسليم السلطة إلى حكومة تصريف أعمال، بل إلى حكومة مؤلفة حديثاً وفيها تمثيل لكل القوى، ويمكن وصفها بحكومة اتحاد وطني.
ـــ تجري دغدغة الرئيس سليمان بأن احتمال التمديد له سوف يكون أقوى إذا سار في هذه العملية، وأن فرصته في ابتزاز فريق 8 آذار سوف تكون أكبر لضمان تغطية قرار التمديد.
ـ تفترض السعودية أن يتم تأليف حكومة تصدر بمراسيم عن الرئيسين سليمان وسلام، وهي لا تريد أن تمثل هذه الحكومة أمام المجلس، لكنها تريد انتقال الرئيس المكلف إلى السرايا الكبيرة وتريد عملية التسلّم والتسليم في وزارات أساسية، وبعدها لكل حادث حديث.
مواجهة جديدة
يبدو أن السعودية مدعومة من الولايات المتحدة والغرب في وارد أن حكومة كهذه من شأنها إطلاق يد السعودية في لبنان بصورة أكبر، وأن هذه الحكومة ستقوم على قاعدة أنه لا يوجد فيها ثلث معطّل، وأنها غير ملتزمة بثالوث المقاومة والجيش والشعب، بل إن هذه الحكومة سوف ترفع لواء عدم التدخل في الأزمة السورية، وسوف تطلق برنامجاً سياسياً داخلياً وإجرائياً إذا اقتضى الأمر، ودبلوماسياً وإعلامياً، هدفه الضغط على حزب الله للانسحاب من سوريا. خصوم الحزب في لبنان كما في الخارج يرون أن «الشلل السياسي» في لبنان أمر يستفيد منه حزب الله، وحكومة تصريف الاعمال الحالية ليست عنصراً مساعداً ولكنها ليست عنصر إعاقة أمام مشاركة حزب الله في القتال في سوريا. وبالتالي، تقدر السعودية أن تركيبة حكومية جديدة سوف تعزز مكانة القوى الأمنية الحليفة لها في الدولة (قوى الأمن الداخلي) وتحاصر دور الجيش أو تخضع قيادته الحالية لابتزاز مرتبط بالرئاسة: إمّا الحياد أو لا رئاسة لجان قهوجي.
... والعودة إلى سوريا
لا يقدّر السعوديون حجم المغامرة الجديدة التي يعملون عليها. هم يثقون بأن التسوية صارت حاجة لكل الأطراف، لكنهم يلمسون أن التنازلات المطلوبة من السعودية أكبر من أي تنازلات مطلوبة من أي طرف آخر. لكن الخطير هو أن فريق 14 آذار في لبنان قد تورّط في مغامرة تحتاج إلى غطاء ناري كثيف، قد يكون ناجماً عن فتنة داخلية جديدة، وعندها لا يكون لأحد القدرة على فرض وقائع مختلفة، بينما تعود السعودية إلى السهر طوال الليل بانتظار ديك صباحي يخبرها بأن بشار الأسد سقط أو رحل!
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه