الزيارة التي طال انتظارها، أقله منذ رمضان المبارك الفائت، حصلت أخيراً؛ ربما صحة الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز تحسنت بحيث أصبح بإمكانه استقبال نظيره الأردني، أو أن الأخير لم يعد يمكنه تأجيل البحث
ناهض حتر
الزيارة التي طال انتظارها، أقله منذ رمضان المبارك الفائت، حصلت أخيراً؛ ربما صحة الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز تحسنت بحيث أصبح بإمكانه استقبال نظيره الأردني، أو أن الأخير لم يعد يمكنه تأجيل البحث في المستجدات الدولية ــ الإقليمية ذات الطابع الدراماتيكي؛ فمن شفا الحرب التي حددت واشنطن توقيتها، بما يتلاءم تماماً مع الخطط السعودية، إلى مفاجأة التفاهم الاستراتيجي بين موسكو وواشنطن، تفاهم بدأ بحل سريع وجذري لملف الكيماوي السوري (يُقال في عمان أن الملك عبدالله الثاني كان أول من ناقشه مع الروس) ثم انتقل إلى ما بدا أنه شهر عسل أميركي ــ إيراني ليس الملف النووي سوى عنوانه العريض، وتحته هناك جنيف 2 والتوافق على حل متوازن للأزمة السورية، ومكافحة الإرهاب (في سوريا والعراق والشرق الأوسط)، وأُطر سالكة لحلول واقعية في البحرين والعراق ولبنان...
فإلى أين سيمضي القطار الروسي الإيراني الأميركي، المنطلق بقوة، غير آبه بالقوى الإقليمية المضادة من الرياض إلى أنقرة إلى تل أبيب؟ ما هي الملفات المطروحة، وما هو نطاقها، وما هي مجالاتها الأمنية والاقتصادية، وما هي مساراتها، وفي الخلاصة: ما هو شكل ومضمون إدارة المنطقة في المرحلة المقبلة؟ وما هو دور إيران فيها ــ بينما كل الدلائل تشير إلى طابعه القيادي ــ؟ ليس ثمة سوى الأسئلة التي تصدع رأس السعودية، وتملأها بمشاعر الهزيمة والخذلان والخسارة، ما يدفعها إلى اتخاذ مواقف سياسية متطرفة ليست معهودة عنها، مثل الامتناع عن مخاطبة اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة، وحتى رفض عضوية مجلس الأمن الدولي، والتحريض ضد جنيف 2، ومواصلة تزويد المتمردين بالسلاح والمسلحين والغطاء السياسي، وتكثيف التفجيرات في العراق، ومنع الحلول السياسية في لبنان والبحرين إلخ.
بالنسبة إلى عمّان، كان تلافي الحرب أشبه بيوم عيد لم يستطع المسؤولون الأردنيون التعبير عن فرحهم الغامر به؛ فالحرب باهظة الكلفة بالنسبة إلى الأردن على جميع الأصعدة الوطنية والانسانية والاقتصادية والأمنية، واقتناع الدولة الأردنية العميق بمخاطر إسقاط النظام السوري بالقوة على النظام والكيان الأردنيين لم يتغيّر. ليس للأردن مصلحة في الحرب ولا في التمرد المسلح ضد دمشق، ولا في تمركز الإرهاب على حدوده، ولا بالانقسام المذهبي، ولا بانهيار العراق، ولا بالتصعيد ضد إيران. على العكس، مصالح عمان الاستراتيجية ثلاث: استقرار سوري ظهير للاستقرار الأردني، ونجاح للعراق يستعيد الشراكة الاقتصادية والنفطية مع هذا البلد الحليف، وإطار من تفاهم عربي يعرقل حلاً إسرائيلياً للقضية الفلسطينية على حساب الكيان الأردني.
غير أن عمان تصمت حتى عن الإعلان عن هذه المروحة من المصالح الكبرى، متمسكة بتظهير مواقفها بالعلاقة مع السعودية التي تعدّ منذ 2003 الداعم الاقتصادي والسياسي الرئيس للبلاد. ولم تتوافر، بعد، الظروف، الخيال السياسي، والجرأة، بل وربما العروض التي توازن الثقل السعودي.
لم يكن الأمر مع السعودية هكذا دائماً؛ فمن دون الغوص في التاريخ البعيد، يكفي أن نستذكر الصراع الأردني ــ السعودي المرير والعلني في أعقاب دخول العراق إلى الكويت عام 1990، حينها اصطفت عمان مع الرئيس الراحل صدام حسين حتى النهاية، بينما كانت الرياض وواشنطن في خندق واحد. اليوم، السعوديون والأميركيون في حالة تعارض، وعمان أقرب في موقفها إلى واشنطن، ومع ذلك، فهي لا تزال مترددة في اتخاذ موقف ينسجم مع مصالحها الاستراتيجية، خصوصاً أنه ليس لدى الرياض سوى الانفعالات الحادة التي تقودها إلى التنسيق مع إسرائيل في مواجهة التقارب الأميركي ــ الإيراني. وهو سياق يمثّل خطراً شديداً على المصالح الأردنية في المفاوضات الإسرائيلية ــ الفلسطينية، من حيث إنه يقوّي موقع تل أبيب ومطالبها إزاء رام الله وعمان، في مقابل انتصارها للسعودية في صراعها مع إيران.
كل هذه الهواجس حملها الملك عبدالله الثاني معه إلى جدة ــ بصحبة مسؤولين أردنيين أبرزهم مدير المخابرات العامة الفريق أول فيصل الشوبكي ــ طامحاً إلى البحث عن سبل للتهدئة وإعادة التفكير والتذكير بصعوبة مواجهة التيار الدولي الإقليمي الجارف. فهل سيجد، لدى السعوديين، مناخاً لنقاش هادئ وعميق ومثمر، أم أنه سيعود إلى عمان للبدء بورشة سياسية محلية تنتهي بالتشبيك مع زمن التسويات، وخصوصاً لجهة إعادة تشكيل حكومة برئاسة سياسي قادر على التفاهم مع دمشق التي تظل، بالنسبة إلى الأردن، مفتاح التعاطي مع المحور المتشكل من موسكو إلى بيروت؟
عمان التي تدرك جيداً اتجاه الرياح في واشنطن، وأنه ليس بمقدور السعودية معاندتها طويلاً، لا تريد الانسحاب من المحور الثلاثي مع الرياض وأبوظبي، بل تسعى، من داخله، إلى محاولة ضبط إيقاعه بحيث لا تتحوّل فترة السماح بالعتب والمرارة لدى السعوديين إلى سياسة انتحارية.
اجتماع جدة الذي ضم ملكي السعودية والأردن حضره، وليس بالمصادفة، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في دولة الإمارات العربية المتحدة، الفريق أول محمد بن زايد آل نهيان. وفي ذلك، بحد ذاته، تأكيد على الالتزام بالتحالف الثلاثي و«بالمستوى المتقدم الذي وصلت إليه العلاقات بين بلدانهم، مؤكدين الحرص على تعزيزها في مختلف المجالات، وبما ينعكس إيجاباً على المصالح المشتركة». غير أن هذه المصالح قد تتعارض إذا ما استمرت سياسة الانفعالات السعودية في مواجهة تغييرات كبرى على المستويين الإقليمي والدولي، تؤمن عمان بأنه لا مناص لها من الاندراج فيها، عاجلاً أو آجلاً.