لم يأتِ «سوبرمان» إلى المرفأ. بقي الجميع، أمس، عالقاً في زحمة «الرئيس». كان الأول هو الوحيد القادر على إنقاذهم من الزحمة التي سبّبها الثاني. ولكن، جاء الرئيس وغاب «سوبرمان»
أحمد محسن
لم يأتِ «سوبرمان» إلى المرفأ. بقي الجميع، أمس، عالقاً في زحمة «الرئيس». كان الأول هو الوحيد القادر على إنقاذهم من الزحمة التي سبّبها الثاني. ولكن، جاء الرئيس وغاب «سوبرمان». هكذا حلّت زحمة عظيمة. تبين لاحقاً للعابرين العاديين، المساكين الذين لا يفهمون في «التنمية المستدامة» والذين راحوا يشتمون البلاد في سياراتهم، أن سبب الازدحام حضور رئيس الجمهوريّة إلى مرفأ بيروت. وهذا واحد من سلسلة «نشاطات» الرئيس «الكبرى»، سيتوّجها غداً في احتفال بتدشين «قصر بلدي» في الحازميّة، وبإطلاق اسمه على طريق الشام.
عرف اللبنانيون، من نشرات الأخبار الباهتة، أن رئيس الجمهورية ميشال سليمان يفتتح «أعمال تأهيل المرفأ». المرفأ الميمون. مرفأ «علي بابا». المرفأ الفاسد في اعتقاد معظم اللبنانيين، ويندر أن تجد شفافية على المستوى ذاته من الانتشار في العالم: الأمر لا يحتاج إلى إحصاء. ونعني هنا رأي اللبنانيين بالفساد العظيم في مرفأ بيروت، الذي ذهب رئيس الجمهورية لتأهيله أمس. خطوة عملاقة بلا شك من رئيس استثنائي.
وغداً، سيُعطى له «طريق الشام». سيصبح حكراً عليه، حتى لو لم يتلق الاتصال الذي ينتظره من الرئيس بشار الأسد. ليس في الأمر غمزاً من تاريخ فخامته، بل إشارة إلى مستقبله. فبعد ظهر يوم غد، ستفتتح جادة باسم الرئيس ميشال سليمان، على غرار جادة الرئيس إميل لحود، وجادة الرئيس رفيق الحريري، إلخ. طريق الشام لن يُعرَف بعد اليوم سوى باسم «جادة فخامة الرئيس ميشال سليمان». تكريم متواضع لرجل كبير آخر. تخطّاه الرئيس المتواضع سريعاً، واتجه، أمس، إلى المرفأ الذي يخضع للتأهيل. والتأهيل، تعني الإصلاح. «توسعة الحاويات».
وهم في سياراتهم، في انتظار «سوبرمان» لن يأتي، استمع المواطنون (علينا الاعتراف بأن هذه كلمة جميلة أخرى وموسيقية) إلى كلمة الرئيس، التي لم يرد فيها ذكر مصطلح «فساد» إطلاقاً. الرئيس لا يحب الـ«ماينستريم». «فساد» كلمة غير نضرة، استهلكت كثيراً. اللبنانيّون في حاجة إلى «تجديد». اللبنانيّون في حاجة إلى تأهيل. وقد بدأنا بالمرفأ، من الحاويات. وأن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي أبداً. «سوبرمان» لم يأت مثلاً. وبالنسبة إلى المعنى، والفحوى العميق من «تأهيل المرفأ»، فهذا يعني أن «سياسة تحييد لبنان عن الصراعات التي تمثلت في إعلان بعبدا هي محطّ اعتزاز ولا يقررها الا اللبنانيون، وليس لأحد أن ينتقد سياسة لبنان في النأي بالنفس». حسناً، لا علاقة لتأهيل المرفأ بهذا كله، ولا للجالسين في الزحمة حوله، من أول البحر إلى آخر الدورة، ولكنه أبرز ما جاء في كلام «الرئيس». تابع الرجل مزهواً بإنجازاته: «الفائدة من اجتماع نيويورك ستنسحب على الوطن». كل هذا أثناء «افتتاح أعمال تأهيل المرفأ». ويجيز هذا، للجالس في سيارته تحت الشمس، أن يبتسم بفخر، لكونه يحصد أولى ثمار «اجتماع نيويورك»، وهي «تأهيل أعمال المرفأ»، على أن يسكتمل الحصاد لاحقاً. فالرئيس سليمان أشار إلى أن «الأمر يحتاج إلى وقت ما بعد انتهاء ولايتي الرئاسية، إذا ما حظي باهتمام الرئيس المقبل والحكومات المتعاقبة».
قبل أن يكون الرئيس ميشال سليمان رئيساً، كان جنرالاً وقائداً للجيش، حاله حال الرئيس السابق فؤاد شهاب. ساعدت الظروف شهاب، فلم يحتج المرفأ إلى تأهيل في عهده، ولم يسبب زحمة سير خانقة لإطلاق المواقف. ويمكن القول إن المرفأ لم يكن فاسداً على هذا النحو المهول في أيام شهاب. في النهاية، الرئيس سليمان ليس «سوبرمان»، ولا فؤاد شهاب كان كذلك. إنه رئيس يقوم بواجباته كما يراها. وقد أكد أمس، من على رصيف في المرفأ المؤهل، أو قيد التأهيل، أن أهميّة دعم لبنان ليست في «تأمين الدعم للنازحين بل باعتراف المجموعة الدولية بحقه في التعويض عليه بسبب الازمة السورية». ويبدو لافتاً أن الرئيس سليمان يستعمل مصطلح «الأزمة السوريّة»، وهو المصطلح الذي يشدد عليه أنصار النظام السوري الذين يرفضون الاعتراف بوجود «ثورة». والواقع أن لبنان يحتاج إلى عشر «أزمات»، وربما ما يفيض على ذلك، لتحقيق ما يشتهيه سليمان من «ضرورة اعتماد اللامركزية الإدارية القادرة على استثمار الموارد المحلية وتحقيق العدالة في توزيع الثروات»، و«الإسراع في إنجاز قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص والعمل على وضع نظام ضرائبي جديد». خلال تأهيل المرفأ، أكد سليمان أنه يجب علينا «الوفاء لديموقراطيتنا». وللمناسبة، هذا ليس النشاط الأول للرئيس سليمان، في سياق حملة «التنمية المستدامة» التي أطلقها، بعد «تخفيفه» من أسفاره البعيدة. والآن، بعد «تأهيل المرفأ»، لا يمكننا القول إن السفر لم يثمر.
قبل فترة، وفي نشاط آخر، احتفالاً بقيام «دولة لبنان الكبير»، ومَن يسمع هذا الاسم يظن أن مساحة لبنان كمساحة كندا، أو قيمته السياسيّة في هذا العالم كقيمة أميركا، ذكّر سليمان بإنجاز فريد آخر. وهو إنجاز متوارث، يتشاركه الرئيس وأمثاله، وأهميته تكمن في «بقاء لبنان الكبير، رغم كل ما حصل من أصوليّات وموجات، دولةً تحترم حريّة الاعتقاد المطلقة، وتؤدّي فروض الإجلال للّه تعالى». يا له من إنجاز آخر، لا يقل أهميّة عن حاويات المرفأ. لبنان دولة «تؤدي فروض الإجلال لله تعالى». يعجز القلب عن التفسير، عن شرح هذا الطقس اللبناني، الذي يمكن الجزم بأنه لا مثيل له في العالم. بالفعل، هل هناك «دولة»، بالمعنى الجماعي للكلمة، بما تمثله «الدولة» ما بعد الحداثة، تؤدي بنفسها «فروض الإجلال لله تعالى» سوى لبنان؟ هذا إنجاز إلى الأبد على ذمة سليمان، فهو يستطيع الجزم، لأسباب لا يعرفها أحد غيره، بأن لبنان «لن يصير دولةً دينية أو أوتوقراطيّة أو ديكتاتوريّة ماديّة أو طائفيّة، بل دولة مدنيّة مؤمنة، تصون الحريّات الشخصيّة والعامة في حمى القانون، دولة تؤمن بالقيم الإنسانية». والمفارقة أن لبنان، كما يعرف الجميع، هو كل ذلك. لبنان لن يصير دولة طائفيّة، قال الرئيس سليمان ذلك، محتفلاً بالذكرى الثالثة والتسعين لنشوء «دولة لبنان الكبير». وما لم يقله الرئيس، في نشاطاته «المكوكيّة»، بين «تأهيل المرفأ» و«دولة لبنان الكبير»، قاله خلال «حفل تدشين واجهات السوق التجاري في جبيل».
ولا يؤخذ على الرئيس مشاركته في حفلات من هذا النوع، على العكس تماماً. لطيف فعلاً أن يكون الرئيس متواضعاً ويشارك الناس أفراحهم وأحزانهم، مهما بدا الأمر ساذجاً بالنسبة إلى البعض. من شأن هذا أن يرفع من شأن الرئيس لا العكس. ولكن المشكلة تكمن في المتاهات التي يُدخل فيها الرئيس الحاضرين دائماً. فبعد الحديث عن «اجتماع نيويورك»، أثناء «تأهيل المرفأ»، والذي تمثل بأعمال «توسعة محطة الحاويات» على وجه التحديد، أكد سليمان خلال افتتاح «واجهات السوق التجاري» في جبيل، إدانته لما وصفه بـ«القصف الكيميائي»، أشد الإدانة، ملاحظاً أن «على الأمم المتحدة ومجلس الامن أن يتخذا القرار المناسب في هذا الشأن»، قبل أن يقفز، على مقربة من الواجهات، إلى موضوع آخر، وهو أن «الطائف كرس أيضاً الديمقراطية الميثاقية التي عاشها لبنان عشرات السنين واعين مشاركة الطوائف في إدارة الشأن العام، ليس بالنظر الى عدد هذه الطوائف ولكن بالنظر الى الحضارة التي تحملها هذه الطوائف وإرسائها شبكة أمان سياسية.
لذلك لا مبرر للاقتتال وللفتنة، وليست هناك مطالب عند أي فئة أو طائفة في لبنان في إسقاط نظام أو تغيير دستور، لذلك افتعال المشاكل ليس حقيقة شأناً لبنانياً». والحال أن مواقف الرئيس تبدو «الألطف» والأقل حدة بين السياسيين اللبنانيين، إذ إن الرجل يبدو محايداً فعلاً، وصاحب حرص يلامس الطوباويّة، على بلاد أوغلت في أزمات الجيران. والمشكلة، دائماً، في أن الخطابات العملاقة التي يطلقها، ليست على مقاس النشاطات الزهيدة والمتواضعة التي يقوم بها، هذا إذا استثنينا طبعاً، اللقاء «التاريخي» مع الرئيس باراك أوباما، وما يحلو للرئيس سليمان أن يصفه في كلماته بـ«اجتماع نيويورك». لا يفاجئ سليمان أحداً، ولكن، ربما، وبسبب الحدث الكبير، في القصر البلدي، في الحازميّة، قد يفعلها الرئيس، ويتحدث عن «القصر البلدي» نفسه، ولا يقارب الموضوع من «زاوية استراتيجيّة»، كما درجت العادة.
للإنصاف، جميع الرؤساء والسياسيّين يستغلون المنابر لإطلاق المواقف الضخمة، حتى ولو كانوا يفتتحون حديقة في الديمان، أو يقيمون إفطاراً رمضانياً في بعبدا، فسيحلو لهم أن يتحدثوا عن أزمات المنطقة والحلول الاستراتيجيّة، من دون أن يفوتهم ترداد كلمات كثيرة عن «العيش المشترك» و«الديموقراطيّة» العجيبة في لبنان، وأشياء من هذا النوع. وأمس، خلال احتفاله بمشروع «توسعة الحاويات»، المهم جداً على ما يبدو، وبعدما فهم الجميع سبب الزحمة، لم يفهم أحد لماذا لم يشاهد الرئيس جميع التحقيقات الصحافية التي عرضت عن مرفأ بيروت، وذهب بنفسه إلى هناك، من دون أن يلفظ كلمة «فساد» ولو لمرة واحدة. تحدث في المواضيع نفسها، تقريباً، التي تحدث فيها مع ماكي سال، الرئيس السنغالي الذي أولم على شرفه، أو خلال المؤتمر الصحافي مع الرئيس النيجيري جوناثان غودلاك (goodluck)، خلال الزيارة الأفريقيّة عينها. وفي ما يخص الفساد، «غود لاك» أيها اللبنانيون. هذا الرئيس لم يستطع أن يحارب الفساد. «غود لاك» في المرة المقبلة!
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه