قد لا تنتهي لائحة التعليقات والتوصيفات المعطاة لواقعة تجسس واشنطن على 35 سياسياً من قادة دول العالم: خرق صارخ للقوانين الدولية، انتهاك فاضح لحقوق الإنسان، اغتصاب لخصوصيات الأفراد
جان عزيز
قد لا تنتهي لائحة التعليقات والتوصيفات المعطاة لواقعة تجسس واشنطن على 35 سياسياً من قادة دول العالم: خرق صارخ للقوانين الدولية، انتهاك فاضح لحقوق الإنسان، اغتصاب لخصوصيات الأفراد، استباحة للمواثيق الدولية، إفلاس أخلاقي في التعامل بين الدول والزعماء ... كل الكلام العالي اللهجة يبدو صالحاً، مع أنه كله يظل بالتأكيد عاجزاً عن وصف الأمر أو عن التعبير عن رد فعل الغضب والاستنكار والثورة التي يمكن أن يعيشها الشخص المعني بالتجسس. وفي هذه الحالة المعنيون هم شعوب دول وأوطان بكاملها.
ففي التجسس على خصوصية الفرد، أي فرد، شيء من الاغتصاب، بالمعنى الفعلي للكلمة. فحميمية العلاقات البشرية، وسرية تواصلها واتصالاتها، مطابقتان في تقويم الإنسان المعني بها، لمفهوم العذرية. وحين يجري انتزاع أي من الاثنتين بالقوة، يكون هناك شيء من جريمة قتل لشيء لا يدرك قيمته إلا صاحبه. ولا تفهم قيمة فقدانه إلا على ضوء كون الجريمة منذ، لحظة حصولها، تصير غير قابلة للعودة عنها، غير قابلة لأي تصحيح أو تعويض. لا بل تصير في الذاكرة متمادية، متكررة، يومية، لا تعود تتوقف ولا ينفع معها أي تقادم زمني، لا في القانون ولا في الذاكرة خصوصاً. في كل لحظة، في كل صباح، عند كل رؤية للمجرم، أو عند تكرار فعل الخصوصية، عند القيام بأي اتصال هاتفي أو إلكتروني، في حالة التجسس، أو عند تكرار فعل الحب في حالة الاغتصاب، تعود الجريمة السابقة، وتتحول حالية، آنية، كاملة الحضور والحلول...
صحيح أنّ هذا ليس الانتهاك الأول الذي ترتكبه واشنطن ضد حقوق الإنسان جماعياً. فسجل السياسة الأميركية الأسود في هذا المجال عمره من عمر تأسس تلك السياسة ربما. من الهنود الحمر إلى كنوز ويكيليكس وما بينهما من حروب معروفة وسرية. وصحيح أن آثار السياسات الأميركية في منطقتنا لم تكن تنتظر واقعة التجسس هذه، لتظهير سلبياتها. غير أن سبباً آخر يستدعي الحديث عن الموضوع لبنانياً. إنه موضوع الاتصالات وعالمه وقطاعه. فلسبب ما، لا يمكنك وأنت تقرأ ردود الفعل الغربية والأوروبية حيال «الوقاحة الأميركية» الأخيرة، إلا أن تتذكر 5 أيار 2008 في بيروت. يوم دعا فؤاد السنيورة وزراء تركيبته الحكومية، وقرر إزالة شبكة الاتصالات السلكية الخاصة بمقاومة حزب الله. المقاومة نفسها التي كانت قد خرجت حية من حرب تموز 2006، أي قبل أقل من سنتين فقط على قرار السنيورة، بفضل تلك الشبكة السلكية بالذات. والمقاومة نفسها التي، عادت فجرّمتها أوروبا في 22 تموز الماضي، قبل أن تعود فتقبل على التلاقي معها مراراً وتكراراً، فيما كانت واشنطن تتجسس على الاثنتين. أي مصادفات أو علاقات سببية سرية مكتومة، هي ما يحدد العلاقات بين أطراف السياسة الدولية، وإن لم تفهما إلا بعد فترة، أو بمجرد التحليل لا التأكيد!
لا يمكنك وأنت تستعيد شريط الأحداث إلا أن تتساءل وتسأل وتسائل: هل كانت خطوة 5 ايار 2008 ضد المقاومة، جزءاً من أمر عمليات أميركي؟ وهل رضي أصحابه بفشلهم يومها وطي محاولة تنفيذه، أم استعاضوا عنه بوسائل أخرى أكثر سرية وتخفياً؟ ثم هل كانت تلك الخطوة معزولة أم ضمن مخطط أكبر؟ وهل كانت تسهيلاً أمنياً بخلفية جمع المعلومات فقط، كما هي الحالة الأوروبية الراهنة؟ أم كانت تمهيداً جنائياً جرمياً، كما حصل ويحصل مع الكثير من عمليات التصفية التي تستهدف مناوئي السياسات الأميركية في أنحاء العالم؟
وفي سياق الوسائل البديلة الممكنة بعد فشل 5 ايار، لا بد إلا أن تتذكر قصة داتا الاتصالات. تلك اللازمة التي يردح بها فريق سياسي ـــ أمني كامل يومياً. منذ ما قبل 5 أيار وما بعده. تتذكر قطبة شيفرة «إيمزي»، التي بدا البعض مستعداً لتدمير البلد من أجل ضمان استمرار وصولها إلى حيث تصل. وهي الشيفرة التي ثبت علمياً على نحو قاطع، أن لا حاجة إليها في أي عمل أمني لبناني قانوني. وكل كلام مخالف كذب فاقع. وكل مدع عكس ذلك كذاب مزور ملفق ومدلس. غرض شيفرة إيمزي الوحيد، هو تمكين من يملك القدرات الغربية اللازمة، من التجسس على مضمون المكالمات الهاتفية، فيما كل الأنشطة الأمنية والجنائية القانونية المضبوطة بسقف حقوق الإنسان، لا تحتاج إلى أكثر من حركة الاتصالات العامة، من دون شيفرة إيمزي...
وأنت تتذكر كل تلك الوقائع، يأتيك خبر من جمهورية موزية افتراضية، بعيدة جداً عن لبنان، بقدر تشابهها معه في بعض التفاصيل. في تلك الجمهورية الافتراضية، اتفق وزير اتصالات مع مسؤول دولته على إصلاح هذا القطاع، ثم اتفقا مع مسؤول قضائي لتنظيم هذا الإصلاح بحسب القانون. عند خروج الوزير من مكتب رئيسه، بادر الأخير للاتصال بموظف مشتبه في تخريبه للقطاع نفسه، قائلاً له: استمر في تخريبك. أما المسؤول القضائي، فانقلب على نفسه أكثر من عشر مرات، حتى بدا راقصاً محترفاً في وصلة... وما زالت الاتصالات الأميركية عامرة.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه