يكاد المتتبعون للمشهد الليبي يجمعون على أن انعدام الاستقرار يشكل السمة الأبرز للوضع في هذا البلد، إذ إنه وبعد مرور أكثر من عامين على السقوط المدوي لنظام حكم القذافي وللجانه الثورية التي حولت البلد
الحسين الزاوي\صحيفة الخليج "الاماراتية"
يكاد المتتبعون للمشهد الليبي يجمعون على أن انعدام الاستقرار يشكل السمة الأبرز للوضع في هذا البلد، إذ إنه وبعد مرور أكثر من عامين على السقوط المدوي لنظام حكم القذافي وللجانه الثورية التي حولت البلد إلى مزرعة خاصة، وأفرغت الدولة من محتواها الحقيقي، ما تزال المجموعات المسلحة تسيطر على مناطق شاسعة من التراب الليبي وتتحدى السلطة المركزية في طرابلس، وقد لجأ بعضها إلى المطالبة باعتماد حكم فدرالي، يمكنه أن يتحول - وفقاً للمعطيات الحالية المتردية - إلى استقلال تام لأقاليم بأكملها . ويبدو أن الانتقال من نظام الجماهيرية إلى نظام الجمهورية ليس بالأمر السهل لاسيما في ظل هيمنة ظروف محلية وإقليمية وحتى دولية غير ملائمة، فقد جرى اختطاف الثورات العربية في مجملها من قبل مجموعات سياسية أكدت غير مرة، أنها غير معنية بأجندات الدولة الوطنية، وأنها تطمح إلى تحقيق أهداف إقليمية أوسع بكثير من طموحات الكيانات المحلية، وبالتالي فهي غير معنية بالحفاظ على استقرار الحكم المركزي للدولة في صورته الراهنة .
بالنسبة للتداعيات المتعلقة بتدهور الأوضاع في ليبيا رد أحد المحللين الغربيين على تصريحات علي زيدان رئيس الحكومة التي وصف فيها عملية اختطافه بأنها محاولة للقيام بانقلاب عسكري بقوله: لكي يكون هناك انقلاب يتوجب بداية أن تكون هناك دولة، والوقائع الميدانية تشير بكل وضوح إلى أن ليبيا لم تعد تملك دولة مركزية قوية . والمقاربة نفسها سبق أن عبّر عنها رئيس الحكومة الإيطالية الذي أوضح أن ليبيا في طريقها إلى “الانفجار”، فهناك أكثر من 200 ألف مسلح موزعين على مختلف الميليشيات الجهوية والقبلية، وهو ما ساهم في خلق مناخ من انعدام الأمن، ومن أكثر المؤشرات التي تدل على مدى هشاشة الوضع الأمني هو أن ليبيا التي تمتلك أحد أكبر الاحتياطات النفطية في إفريقيا وجدت نفسها مؤخراً مضطرة إلى استيراد كميات معتبرة من المحروقات وفق ما أشارت إليه تقارير غربية عديدة .
ويمكن القول بناءً على استقراء شامل للوضع العام أنه كان بإمكان السلطة الجديدة في ليبيا أن تحقق قدراً أكبر من الاستقرار لو أنها اعتمدت خطاباً قائماً على المصالحة والوئام الوطني، لكن أطرافاً عديدة منها أدمنت على ترديد معجمية تعتمد على الحديث عما تصفه “أزلام” النظام السابق، وأهدرت بالتالي قسماً مهماً من طاقتها من أجل تعقب بقايا الحكم البائد، في لحظة تاريخية مفصلية كانت الدولة الليبية في حاجة إلى جهود كل أبنائها، لأن حكم الفرد أو الطاغية يزول حتما بزواله . وفي هذا الجو الذي اعتمد بالأساس على محاربة شياطين الماضي بدأ خفافيش الراهن في بسط نفوذهم عبر الميليشيات المسلحة، وعِوض عن مواصلة العمل على جمع السلاح بدأ توزيعه يتم على نطاق أوسع، وأضحى الحكم المركزي رهينة بين يدي تنظيمين عسكريين رئيسين يدافع أحدهما عن أجندات ترتبط بمشروع تنظيم الإخوان المسلمين الدولي، ويسعى الآخر إلى بلورة كيان قائم على أسس عرقية ومناطقية؛ وبالتالي فإن خطة إعادة بعث الدولة المركزية بالاعتماد على الميليشيات المسلحة أخطأت أهدافها وبدأت الميليشيات تحارب سلطة الدولة الوليدة .
وفي السياق نفسه علق أحد الجنرالات الفرنسيين على ما يحدث في ليبيا بعد أشهر عديدة من نهاية الحملة العسكرية الجوية التي قادتها القوات الفرنسية والبريطانية بالتنسيق مع القوات الأمريكية- الأطلسية، بقوله: “لقد تحقق الانتصار في المعركة، لكنه تم في المقابل خسارة الحرب، فحصيلة ما حدث في ليبيا هو بمنزلة نصر تكتيكي أعقبه إخفاق استراتيجي” . من الواضح وفقاً لكل ما تقدم أنه إذا كان الهدف العسكري قد تم تحقيقه، فإن السلم الذي كان يُفترض أن يكون تتويجاً للحرب ما يزال - حتى الآن- بعيد المنال .
وعليه فإن إدمان الغرب على خوض حروب سريعة ذات تكلفة مادية متدنية، يعبّر في نظر بعض المحللين عن فقدان واضح “للهدف” الاستراتيجي، لأن حرب إعادة الاستقرار في المناطق التي شهدت نزاعات مسلحة وتدخلاً أجنبياً هي أهم من المعارك التي تم حسمها عسكريا، كما أن انتقال السلطة لا يجب أن يمثل في كل الأحوال هدفاً في حد ذاته، لأن السؤال الأهم يتمثل في معرفة هوية من ستنقل إليهم السلطة الجديدة، وإلا ستكون العمليات العسكرية مقدمة لجلب الفوضى وليست وسيلة لتحقيق الاستقرار، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن عمليات انتقال السلطة بشكل سلمي سواء في زمن النازية الألمانية أو سياق الدولة المصرية الحالية، فقد كاد نقل السلطة في مصر- على سبيل المثال لا الحصر- أن يؤدي إلى زوال الدولة على المدى المتوسط لولا إنجازات ثورة 30 يونيو المجيدة .
إن الشياطين في اعتقادنا لا تحتاج إلى من يشيطنها، والذين يتسببون في إحداث الفوضى والخراب لا يمكن أن يكونوا أدوات صالحة للبناء وإعادة الاستقرار، وفضلاً عن ذلك فإن الميليشيات التي تدافع عن مصالحها الضيقة لا يمكن أن تُسهم في الدفاع عن المصالح العليا للوطن . وعلينا الاعتراف هنا أن الفعل الثوري الحقيقي ينتهي بانتهاء الثورة، لأنه فعل لا يمكن أن يتقادم، ومن أراد أن يحافظ على روح الثورة وعلى كل مثلها العليا، عليه أن يقبل بداية أن يكون جندياً بسيطاً قادراً على المساهمة في تحقيق استقرار وأمن وطنه، ذلك أن ليبيا لا تعاني الآن غياباً للمؤسسات -على أهميتها- بقدر ما تعاني غياباً مخيفاً لمركزية الدولة، لأن النظام المركزي هو الذي يستطيع أن يحقق توازناً فاعلاً بين مكونات المناطق المحلية والجهوية من جهة والدولة الوطنية من جهة أخرى، وبالتالي فالفراغ الذي تتركه الدولة المركزية من شأنه أن يوقظ كل أشكال الصراع العرقي والديني، ويؤجج كل أنواع الحروب القائمة على الهويات الجزئية .
ونعتقد في الأخير أنه من مصلحة الجميع في ليبيا، أن يتم الانتقال بأقصى سرعة ممكنة من الحديث عن انتصارات معركة التحرير، إلى العمل الجاد والجماعي بين كل الليبيين المخلصين لدولتهم ووطنهم، من أجل تحقيق الانتصار الحاسم في حرب إعادة الاستقرار، وبسط السيادة الوطنية على كل ربوع ليبيا من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب .
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه