يمكنك، يا عزيزي المواطن الصغير، أن تحصل على بعض العزاء؛ فالهاتف الخلوي للزعيمة الألمانية، أنجيلا ميركل، هو، أيضاً، مراقب 24 على 24، مثل هاتفك الخلوي بالضبط!
ناهض حتر
يمكنك، يا عزيزي المواطن الصغير، أن تحصل على بعض العزاء؛ فالهاتف الخلوي للزعيمة الألمانية، أنجيلا ميركل، هو، أيضاً، مراقب 24 على 24، مثل هاتفك الخلوي بالضبط! واطمئن؛ فلا يوجد مخلوق في هذا العالم ليس تحت المراقبة الحيوية: بفضل هاتفك الذكي وحاسوبك وإيميلاتك وحسابك على الفايسبوك والتويتر، يتعرّف «الأخ الأميركي الأكبر» على اهتماماتك وأفكارك ونزعاتك ومزاجك وأمراضك وأطبائك وأصدقائك وصديقاتك ومشاعرك ومغازلاتك وهفواتك وحركة تنقلك اليومية، منذ لحظة استيقاظك حتى لحظة منامك، كلا؛ ففي أثناء نومك العميق، هناك مَن يسهر على ما يردك من رسائل خلوية وحاسوبية.
في أي وقت، وبمجرّد كبسة زرّ، ستعمل القوائم الخوارزمية المحوسبة على تكوين رواية كاملة شخصية، شديدة الخصوصية، كاملة الأوصاف، عن جنابك! وسواء أكنت إنساناً مغموراً أم نجماً أم زعيماً أم رئيساً أم ملكاً؛ فـ «الأخ الأكبر» يمكنه أن يحدثك عمّا نسيته من حياتك، وعمّا فعلته، وعما ستفعله!
«شكرا سنودن». هكذا هتف المتظاهرون من معارضي التجسس الالكتروني في واشنطن، لكن، هل كان يحتاج الأمر إلى إدوارد سنودن لكشف الفضيحة؟ ربما. على الأقل بالنسبة لـ 35 رئيساً حول العالم، معظمهم حلفاء استراتيجيون للأخ الأكبر، النهم، بلا حدود، لجمع المعلومات عن كل الأحياء على وجه البسيطة؛ أفلا ينبع ذلك من الحس العميق بالمسؤولية إزاء العالم والبشريّة جمعاء؟ لا تقلق، إذاً، بأخطائك، ولا حول حياتك وقراراتك، وليس مهماً، بالطبع، أن تتذكّر؛ فهناك مَن يحتفظ لك بذاكرتك الحيّة، بالتفصيل وبالتحليل!
بل عليك أن تكون سعيداً كمواطن في بلدك العربي؛ فبالإضافة إلى الأجهزة المعنية التابعة لحكومتك، هناك، أيضاً، سجلان لحياتك وذاكرتك على الأقل، واحد لدى الموساد الإسرائيلي، وآخر لدى السي آي إيه... فماذا تريد أكثر من ذلك؟
المضحك أنك تشعر، كأنجيلا ميركل، بأنك حرٌ، وبأنك تحتفظ بأسرار، وبحياة خاصة، وخصوصية ذاتية الخ. والأدهى أنك قد تكون ليبرالياً ومؤمناً بالحرية الفردية، وبأن النظام «الديموقراطي» الليبرالي هو ضمانة هذه الحرية، وأن حصنها العظيم هو الولايات المتحدة الأميركية بالذات، بل وربما أنك أيّدتَ، من كل قلبك، الضربات الجوية والصاروخية، لإسقاط «النظام الشمولي» في سوريا، وحزنتَ وحرنتَ لأن الرئيس باراك أوباما تراجع في اللحظة الأخيرة، مبدداً أحلامك بالحصول على حرية عاجلة، حرية كاملة، بلا جنيف ولا مفاوضات، ولا همّ التعاطي مع «الشموليين» الذين تبيّن أنهم هواة إلى جانب الشمولية الأصلية للنظام الليبرالي الأميركي!
حين كتب الروائي اليساري المرتدّ، جورج أورويل، روايته الشهيرة «1984»، كان يهجو الشيوعية التي بدت، العام 1948، منتصرةً، وستسيطر على العالم في غضون نصف قرن، لتنشئ جمهوريات «الأخ الأكبر» العالمية التي تحصي على البشر، في الكرة الأرضية، أنفاسهم، وتدمر القيم الإنسانية وتمنع التفكير والحب والفردانية.
وما أن جاءت سنة الـ 84، حتى كانت منظومة الدول الشيوعية تلملم شعثها، وتبدأ بمغادرة التاريخ، لتظهر الحقيقة: أن «مزرعة الحيوان» (رواية أور ويل الهجائية الأخرى ضد الاتحاد السوفياتي) ليست سوى العالم المعولَم تحت سيطرة الإمبريالية الأميركية.
لدينا، في «مزرعة الحيوان» الأميركية المعولمة، بالطبع، إدارة ذكية للعبودية: هواتف ذكية ومساحات حرة للتعبير وبريد خاص الخ، كلها تحوّلت أدوات تجسسية، وهي تصوغ، إلى ذلك، عالمك الافتراضي «الطليق»، بينما يمنحك الإعلام المتلفز والألكتروني، الوهم بأنك تعرف «الحقيقة»، وتتابع الأحداث أولاً بأول، وأنك في صلب العملية التاريخية، ولست مجرد وقود لها.
المفارقة أن الضخ الإعلامي هو الذي يصنع آراءك ويحدّد أجندتك، غالباً بنجاح شبه كامل، ثم تأتي الرقابة الألكترونية الشاملة لتمتحنك: هل خضعتَ جيدا؟
لدى الولايات المتحدة ثلاث عقائد أساسية: أنها تمثّل «الاستثناء»، فيحق لها ما لا يحق لغيرها، وأنها الأقوى، وأنها تتحمل المسؤولية عن العالم ــــ بحيث يظل مكاناً كريهاً للتمييز والقهر والاستغلال، مثقلاً بنفايات وجرائم الرأسمالية. وبما أنها تملك التفوّق في المجالات الاقتصادية والعسكرية والتقنية معا، فهي تؤمن بكينونتها الإلهية، بل بأنها تمثل الله، وتتمثّل الله التاريخي في آن: كليّة القوة وكليّة المعرفة، ولكنها، كما يعرف مليارات البشر المعذبين حول العالم الرأسمالي، كليّة الشرّ أيضا.
بقيتْ خاتمة: المعرفة ــــ بالطبع ــــ قوة، لكن القوة نفسها تخضع لحركة التاريخ: أميركا ــــ والرأسمالية ــــ إلى زوال يتكشّف، كل يوم، بآثار الأزمة الاقتصادية المالية المتجددة، وتراجع القدرات العسكرية، وانحطاط السياسة والثقافة، والتحوّل الصريح إلى همجية سوداء، لم يعد البشر قادرين على التعايش معها؛ اسألوا سنودن!
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه