نشأت شبكة قوية تتكون من مجموعة من الأشخاص، باحثين وكتابا وصحافيين وأدباء، يعملون بالتوازي مع المخابرات الأميركية للترويج لفكرة مفادها أن العالم بحاجة إلى سلام أميركي، سوف يسمى «القرن الأميركي».
منذ قرأت كتابيْ المفكر الأميركي الفلسطيني إدوراد سعيد "صور المثقف" و"الثقافة والإمبريالية"، انفتحت أمامي قدرة عميقة على استقراء الثقافة الغربية، وفي ما خص عالم المثقفين والأدباء والروائيين وغيرهم. وبتّ أدرك بوعي مميز أين يكمن السم في العسل الذي يقدمونه للأمم الأخرى. وذلك، لإن سعيد قدّم عملين من أهم وأروع الوثائق المعرفية التي تركها للأجيال القادمة يكشف فيها زيف الإدعاء الحضاري والديموقراطي وهما الأساسان التي تقوم عليهما تفوق الثقافة الغربية.
إذ ثبّت بالوقائع والمشاهدات الحية كيف تواطئ معظم الكتّاب والروائيين الغربيين مع عملية الاستعمار التاريخي وثقافة الاستعلاء الإمبريالي في الترويج لهذه الثقافة "المهدمة" للقيم الإنسانية. من هنا شنّت عليه حملة شعواء من أكبر الأسماء التي يفخر بها الغرب وسعت لإسكاته. وعندما أطلعت على كتاب "الحرب الباردة الثقافية: المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب" للباحثة والصحافية الأميركية فرانسيس ستنر سوندرز لم أستغرب ما تقدمه من وقائع هي الأخرى في الحقيقة من أفظع ما يمكن أن يخطط له دماغ بشري شرير..!!.
صراع ثقافي لاستغلال عقول البشر :
إذ إن هذا المؤلَف يبرز الدور الأساس والمستقل للثقافة في الصراع السياسي والاجتماعي. يوضح الكتاب وجود ثقافتين تتصارعان على الوعي الاجتماعي، وتنشطان باستمرار في الميدان الروحي : ثقافة الوعي وثقافة الوعي الزائف. وبما أن الصراع الثقافي يدور من أجل اكتساب عقول البشر وإراداتهم، في سبيل تحررهم أو استعبادهم، فقد ركزت الحرب الباردة الثقافية هجومها لتدمير التحصينات الأمامية للوعي الاجتماعي، عبر طريق "استخدام الدعاية لإضعاف المواقف المعادية"، وذلك كي تبقي الجمهور قطيعاً حائراً مذهولاً، حسب تعبير ليبمان، أحد أفراد النخبة المكلفة بطرح "عقيدة" ثقافة الحرب الباردة. والغاية النهائية، ما دعا أحد التوجيهات السرية، هو صناعة "أناس يرون أن كل ما تقوم به الحكومة الأميركية صحيح، ويعتقدون أن ذلك هو اقتناعهم الشخصي، وأنه جاء بعد تفكير وليس إيحاءً من أحد "، أي أن يقبلوا طواعية الاستعباد الروحي للمصالح الأميركية.
كتاب "من الذي دفع للزمار؟" أو "الحرب الباردة الثقافية: المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب»، أهم كتاب صدر عن موضوع الحرب الثقافية بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي خلال مرحلة الحرب الباردة. صدرت ترجمته العربية في القاهرة عن المشروع القومي للثقافة في 480 صفحة من القطع الكبير، وقد أثار حين صدوره بالإنجليزية جدلا ثقافيا وسياسيا ساخنا في أمريكا وأوروبا، وترجم إلى العديد من اللغات، بالنظر إلى الحقائق التي كشفها والمعطيات الجديدة التي رفع عنها النقاب، بالاعتماد على الوثائق والشهادات الحية والأرشيفات التي أتيحت للكاتبة.
لدى بدء الحرب الباردة وتزايد وتيرة الصراع بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على غزو العالم وارتياد مناطق جديدة لجعلها تحت مظلة أحد النظامين المتصارعين، أنشأ الرئيس الأميركي هاري ترومان وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سيا) في العام 1947، ورأت الولايات المتحدة ضرورة وضع استراتيجية ثقافية بإمكانها أن تقف في وجه الثقافة الشيوعية التي كانت تغزو العالم، فاعتمدت على شبكة واسعة وشديدة التأثير من رجال المخابرات وخبراء الاستراتيجيا السياسية والمؤسسات الرسمية والجامعات، فشرعت المخابرات المركزية الأمريكية في إنشاء اتحاد(كونسورتيوم) يكون له هدف مزدوج: تحصين العالم ضد وباء الشيوعية، وتمهيد الطريق أمام مصالح السياسة الخارجية الأمريكية في الخارج، ونتيجة لهذا العمل المتضافر نشأت شبكة قوية تتكون من مجموعة من الأشخاص، باحثين وكتابا وصحافيين وأدباء، يعملون بالتوازي مع المخابرات الأميركية للترويج لفكرة مفادها أن العالم بحاجة إلى سلام أميركي، سوف يسمى «القرن الأميركي».
كان هذا الكونسورتيوم يتشكل، وفق تعبير هنري كيسنجر، أشهر وزير خارجية أميركي خلال مرحلة الحرب الباردة، من «أرستوقراطية مكرسة لخدمة هذه الأمة بشكل أكثر من مجرد المناصرة»، وكان هذا الاتحاد هو السلاح السري الذي اعتمدت عليه الولايات المتحدة لقهر خصمها وتكريس ثقافة مهيمنة على العالم، وقل أن تجد أديبا أو كاتبا في تلك الفترة لم يك مرتبطا بهذا التحالف، سواء بعلم منه أم من دون علم، بحسب قول المؤلفة. فقد كان يضم مجموعة من الراديكاليين واليساريين السابقين والماركسيين التائبين والشيوعيين الذين تراجعوا عن الشيوعية بعدما ظهر ستالين على حقيقته حاكما مستبدا ومتفردا بالسلطة في موسكو.
ويستعرض الكتاب على صفحاته، عبر ستة وعشرين فصلاً وخاتمة، تطور ثقافة الحرب الباردة للولايات المتحدة عبر عقدين من الزمن وفق استراتيجية ملتفة بعباءة "الحرية الثقافية" و"الدفاع عن الإيمان" إلى أن تمزقت العباءة عن "ضباب عفن" حسب تعبير السيناتور فولبرايت و "ورطة أخلاقية ومعنوية الخروج منها ليس سهلا". وصاغ سيسيل دي ميل، وكان مستشارا للحكومة الأميركية لشؤون السينما، رسالة الثقافة من خلال رؤيته لوظيفة السينما، حيث أسندت إليها مهمة "صياغة الأهداف الني تسعى الولايات المتحدة لتحقيقها، والتي ستصل الجمهور المقصود الذي علينا كوسيط إعلامي علينا أن نكيفه".
والرسالة لم تزل قائمة في تكييف الجمهور وفق أهداف السياسة الأميركية. وهذا ما يكسب الكتاب أهميته الراهنة. الاتكاء على الدين سهل توجيه دفة القيادة بنفس الحمولة من مناهضة الشيوعية إلى مناهضة الإسلام والإرهاب. وتعمق التوجه الديني في ثقافة الحرب الباردة ليتحول في منتصف عقد السبعينات إلى سلفية متزمتة تحشد تياراً من التطرف اليميني قاد العملية السياسية في إدارات الجمهوريين منذ العام 1980. ويسترعي الانتباه في هذا الصدد أن أحد أيديولوجيي الرأسمالية قد ركز على موضوعة صراع الحضارات قبل سنوات من تفجيرات الحادي عشر من أيلول، والتي اتخذت غطاءً لحرب بوش "الصليبية" . الشيوعية محددة بفكر وتنظيم ومع ذلك جرى إلباسها ثوباً فضفاضاً كي تشمل مناهضة الشيوعية كل من تتعارض مواقفه مع أهداف السياسة الأميركية. وبنفس منحى المراوغة والتزوير يجري توسيع إطار الإرهاب.
ملاحظة أخرى أن الكاتبة لا تتصدى للحرب الباردة الثقافية من موقف دفاعي أو من منطلق هجوم مضاد، إنما لتعرية وفضح المناورات الدعائية المراوغة المتشحة بوشاح الثقافة. فهي لا تخفي موقفاً نقدياً من شمولية الستالينية التي باسم مقارعتها بررت الحرب الباردة حملاتها الثقافية. الكتاب موقف ثقافي يتسلح بالاستقامة المبدئية ومحاربة الغش والخداع باعتبارهما دخيلين على الثقافة. يصعب اختصار كتاب كهذا ، زاخم بالمعلومات الموثقة . ولكن العرض يبرز معالم أساس في نشاطات الحرب الباردة الثقافية :
الفاحشة في هيكل الرب
يكشف الكتاب القناع عن نشاط مجموعات من المفكرين تحت ستار من السرية المطلقة يتولون وضع المبادئ الأيديولوجية الأساس الموجهة لنشاط العاملين في صناعة الرأي العام. فالقرارات التوجيهية الأساس لم تنطلق من الهيئات التمثيلية المنتخبة، بل من قبل لجان تعمل وراء الكواليس، الأمر الذي يبرر شبهة التآمر لنشاطات السياسة الأميركية. من المجموعات الأيديولوجية فيلق النخبة التابع لمكتب الخدمات الاستراتيجية. أقرت للنخبة مهمة "غير شرعية وغير قويمة"، واستطاع أفرادها فيما بعد أن "يفردوا نفوذهم على قاعات مجالس الإدارات والمؤسسات الأكاديمية والصحف الرئيسة والإعلام والشركات القانونية ومؤسسات الدولة. وأمدتهم معتقداتهم المسيحية بقناعة لا تتزعزع بأنهم الصفوة وليسوا الفئة المختارة" .
وتحت إدارة ألن دالاس تشكل في وكالة المخابرات المركزية قسم العلاقات الدولية بهدف "تشجيع المفكرين على تقديم أفكار ونظريات لا تستهدف الجماهير العريضة، وإنما موجهة بالدرجة الأولى لمجموعات نخبوية صغيرة من الجماعات الضاغطة ورجال الصناعة ممن يقرون السياسات الحكومية". ولدى الانتقال إلى المقر الجديد في لانغلي العام 1961 أمر ألن دالاس بحفر عبارة على الواجهة كان يرددها من الإنجيل "ولسوف تعرف الحقيقة ولسوف يجعلك الرب حرا". تواطأ الكهنوت مع المخابرات المركزية على إخفاء شيطان الثروة وتهريبه داخل ملكوت الرب، إذ قدم أحدهم، Reinhold N iebour مادة لاهوتية في مجلة التايم وطرح الخطيئة الأولى كأداة سياسية". "وما كان للمكارثية أن تظهر بالقوة التي دفعت نشاطاتها بدون مفهوم الخطيئة الأولى المروج له عمداً من قبل علماء اللاهوت المقربين من الوكالة" . "ومن طقوس المطاردة المكارثية أن يقوم المعترف علناً بلعن شركائه إلى جانب الشيطان. كانت طقوس الاعتراف أمام المحققين تتم بمظهر ديني". ودخلت الطقوس [المقدسة] إلى عالم هوليوود "انتشرت حملة تطهير الثقافة الأميركية من شرور الكفر والإلحاد".
مشاريع "ثقافية" الغطاء للإستعباد :
وحاولت الولايات المتحدة الترويج لمشروعها في بلدان أوروبا الغربية، بعد مشروع مارشال الذي قدمت فيه المساعدات المالية للقارة الجديدة من أجل تجاوز المخلفات الكارثية للحرب العالمية الثانية، وهكذا أنشأت شعبة أوروبا الحرة، التي كان المسؤول عنها هو الممثل الشاب في الخمسينات رونالد ريغان، الذي سيصبح في نهاية السبعينيات من القرن الماضي رئيسا للولايات المتحدة، والذي عرفت مرحلته تزايدا في وتيرة السباق نحو الفضاء مع الاتحاد السوفياتي. ولكي تتستر أميركا على الأموال التي كانت تتدفق على منظمة الحرب الثقافية ومشروعاتها وعلى شعبة أوروبا الحرة، دفعت المؤسسات الخيرية إلى الواجهة حتى لا تظهر وكالة المخابرات المركزية في الصورة وحتى تتحايل على المثقفين والأدباء الذين كانوا يؤمنون بالمشروع ويستفيدون منه، ومن أشهر هذه المؤسسات الخيرية فورد فاونديشن التي وضعت نفسها ضمن برنامج المخابرات المركزية منذ العام 1952.
عندما جاء ايزنهاور العام 1953 رئيسا لأميركا أنشأ في البيت الأبيض دائرة شؤون الحرب النفسية ، وكانت خطة هذه الدائرة هي أن تكسب أميركا الحرب العالمية الثالثة، إذا حصلت، دون أن تخوضها. وفي العام 1952 اتفقت المخابرات البريطانية ونظيرتها الأميركية على إصدار مجلة ثقافية جديدة رفيعة المستوى بتعاون بينهما وبدعم سري منهما، اختير لها اسم «إكس» لكي توحي بالحيادية، وتم الاتفاق مع المخرج السينمائي الكساندر كوردا ليتم التحويل المالي للمجلة عن طريق حسابه الشخصي كداعم للمجلة، وكذلك عن طريق صديق المجلة الآخر وهو اللورد فيكتور روتشيلد. وكانت المجلة، إلى جانب مجلة «انكاونتر» ذات الملامح اليسارية، تقود المعركة الثقافية الأميركية ثقافيا بينما يقودها عمليا جوزيف مكارثي، العضو الجمهوري بالكونغرس الأميركي الذي ارتبط اسمه بالحرب على الشيوعية. وكما كان هنالك حلف الناتو العسكري كان هنالك أيضا حلف الناتو الثقافي، فقد قال كريستول الذي كان ليبراليا في شبابه وصار من المحافظين الجدد: «إنه شيء مثير أن تكون المجلة البريطانية (انكاونتر)، الوحيدة التي كانت جديرة بالقراءة مدعومة، من «السيا»، ولا بد أن يكون البريطانيون ممتنين لذلك».
وانطلاقا من أن الكتب هي أهم سلاح في استراتيجية الدعاية بعيدة المدى، فقد بقيت وكالة المخابرات المركزية الأميركية ملتزمة بحفز منظمة الحرية الثقافية على تأليف الكتب السياسية بواسطة مؤلفين أجانب غير معروفين، إما عن طريق دعم الكاتب مباشرة أو بشكل غير مباشر عن طريق الوكلاء أو الناشرين. وقد نشرت جريدة «نيويورك تايمز» الأميركية أن الوكالة العام 1977 كانت متورطة في نشر ما لا يقل عن ألف كتاب.
وتذكر الكاتبة بأن ظاهرة الكاتب الجاسوس لم تكن جديدة آنذاك، حيث إن سومرست موم(1874-1965) استخدم مكانته الأدبية كغطاء لمهام المخابرات البريطانية في الحرب العالمية الأولى، وكانت مجموعته من قصص السيرة الذاتية بمثابة إنجيل لضباط المخابرات البريطانيين. وقد أنيط بآل روكفلر تبني الفنانين اليساريين، ومنهم الفنان الثوري المكسيكي دييجو ريفيرا، تحت شعار أن الحمر سوف يكفون عن أن يكونوا حمرا إذا نحن منحناهم بعض الاعتراف الفني. كما تؤكد الكاتبة أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية كانت جزءا أساسيا من آلة تكريس التعبيرية التجريدية في مقابل التمثيلية الواقعية في مجال الفن التشكيلي، وتشير إلى تمويل المخابرات الأميركية لفيلمين عن روايتي الشيوعي البريطاني السابق جورج أورويل، وهما «مزرعة الحيوان» و«1984»، وذلك العام 1959. وأكثر من ذلك تشير الكاتبة إلى أن أورويل نفسه كان يتعامل مباشرة مع المخابرات البريطانية، وسلمهم قائمة تضم أسماء 35 شخصا باعتبارهم متعاطفين مع الشيوعية، كان من بينهم الكاتب الواقعي جون شتاينبك.
ولاحظت الكاتبة أن الكتاب اليساريين، الذين لم تستطع المخابرات شراءهم، استغلت مواقفهم عندما كانوا ضد الشيوعية، فقد طبعت منظمة الحرية الثقافية آلاف النسخ من بياني جان بول سارتر وألبير كامو بخصوص الاجتياح السوفييتي للمجر يوم 4/11/1956. كما كانت المخابرات الأميركية مهتمة بالكاتب الروسي ليون تولوستوي، مؤلف «الحرب والسلام»، كرمز لمفهوم الحرية الفردية، وأقامت احتفالا باذخا في أواخر يونيو من العام 1960 في البندقية للرد على احتفال السوفييت بالذكرى الخمسين لوفاة الكاتب الروسي الشهير، حضره عشرات الكتاب البارزين منهم البيرتو مورافيا، الروائي الإيطالي المعروف.
حينما ساند الماركسيون القدامى أميركا ضد ستالين وكان أول نشاط هام للمخابرات المركزية الأميركية هو افتتاح المراكز الثقافية الأميركية، وإنشاء منظمة أطلق عليها اسم منظمة الحرية الثقافية، وما بين عامي 1950 و1967 أصبح لهذه المنظمة مكاتب في 35 دولة، وتصدر أكثر من 20 مجلة ذات نفوذ واسع في مختلف أنحاء أوربا، وتنظم المعارض الفنية بهدف تمهيد الطريق أمام المصالح الأمريكية والترويج للسلام الأميركي. وكانت المخابرات المركزية تضخ عشرات الملايين من الدولارات لهذه المنظمة والمشروعات المتصلة بها. وبمثل هذا النوع من الالتزام كانت هذه المنظمة بالفعل بمثابة وزارة ثقافة غير رسمية لأميركا.
".. على مدى أكثر من عشرين عاماً، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت وكالة المخابرات الأمريكية تنظم وتدير جبهة ثقافية عريضة (من المنظمات غير الحكومية NGO,s ) في معركة ضارية بدعوى حرية التعبير ، وتكونت شبكة محكمة من البشر الذين يعملون بالتوازي مع الـ "CIA" بهدف زرع فكرة جديدة مؤداها أن العالم في حاجة إلى سلام أمريكي وإلى عصر تنوير جديد." هذا تحديدا ما تؤكده الكاتبة بالوثائق.
مؤسسات وهمية ومثقفون باعوا كلمتهم :
مؤسسات وهمية وتمويل سري ضخم وحملة إقناع هائلة في حرب دعاية ضارية تخطط لها وتديرها "منظمة الحرية الثقافية – Congress for Cultural Freedom" الاميركية ضد اليساريين والشيوعيين في انحاء العالم، هذه المنظمة كانت بمثابة وزارة غير رسمية للثقافة الأميركية، أو لتكون " الزمار" الذي تدفع له الـ "CIA" ثمن ما تطلبه منه من "ألحان".
وفي قمة ازدهارها، كان لـ"منظمة الحرية الثقافية" مكاتب في 35 دولة (من بينها عدد من الدول العربية، خاصة لبنان والسعودية والأردن والمغرب وليبيا ومصر، حيث تم انشاء مكاتب فرعية لمؤسسات "روكفلر" و "كارنيجي" و "فرانكلين للطباعة والنشر" و "نادي القلم" و "مجلة المختار Readers Digest " ... إلخ ) ، ويعمل بها عشرات الموظفين، وتصدر أكثر من 20 مجلة ذات نفوذ ، وتعقد مؤتمرات دولية تحضرها شخصيات بارزة، وتكافئ الفنانين والموسيقيين بالجوائز، وترعى معارضهم وحفلاتهم، معتمدة على شبكة واسعة وشديدة التأثير من رجال المخابرات وخبراء الإستراتيجية السياسية.
أولئك "المثقفون" - بعد ان قبضوا الثمن - كان لابد من تجميعهم ودمجهم معاً في هذه المؤسسة نفسها مع وكالة المخابرات المركزية – CIA ، وهو أمر قد يبدو غير قابل للتصديق، كانت هناك مصلحة مشتركة حقيقية، وكان هناك اقتناع بين الوكالة وأولئك المثقفين الذين استؤجروا لكي يخوضوا الحرب الثقافية .. حتى وإن لم يعرفوا ذلك.
إن كتاب "الحرب الباردة الثقافية " عن دور المخابرات الأميركية في عالم الفنون والآداب لمؤلفته "فرانسيس ستونر سوندرز" جدير بالقراءة، لأنه يكشف ستر مواقف وتحولات في عالم الثقافة كان مثقف الستينيات الملتزم في مصر وبلدان العالم العربي، يرقبها فاغرا فاه دون أن يدري أسبابها. إنها القصة كاملة للدور الذي قامت به الـ CIA في الحرب الباردة الثقافية، الأمر الذي يجعل من هذا الكتاب " عملاً مهماً من أعمال البحث التاريخي " ..
وتورد الكاتبة فصلا تؤكد فيها كيف تمّ التخلص من كتب العديد من المؤلفين من أمثال: داشيل هاميت، ومكسيم جوركي، وهيرمان ميلفيل، وغيرهم. لقد كانت عملية التطهير الثقافي التي تقوم بها "حملة مكارثي" والتي بدت وكأنها لن تتوقف، تقضي على مزاعم أمريكا بأنها حاملة لواء حرية التعبير. وكان معظم الكتَّاب الأحياء الذين كانت أعمالهم محظورة بتوجيهات من وزارة الخارجية الأمريكية، لهم ملفات ضخمة وغريبة. كان الجو يشبه ذاك الذي كان سائدا أثناء الثورة الفرنسية عندما كانت الاتهامات والمحاكمات تؤدي إلى المقصلة، وبينما لم تكن هناك مقصلة في واشنطن، إلا أن المصير كان أكثر سوءا بتدمير عمل الفرد وتدمير حياته كلها. وهذا بلا شك يَكشف زيف فكرة أن أميركا مجتمع ديمقراطي متقدم يمكن أن يستوعبَ جدلا سياسيا عقلانيا. وبذا يتضح أن السياسة ـ في أميركا ـ بدأت تقرر مصير الثقافة، وأن أميركا ذات ماض متقلب، ولاشك في أنه سيكون لها مستقبل متقلب أيضا. وعلى حد تعبير الكاتب البريطاني بيرجرين وورسثورن: "الخرافة صنعت إلها أمريكيا، والإله قد فشل".
عزيزي القارئ :
بعد هذا الاستعراض، نفهم سوياً، نحن وأنت، أن هذه الحرب السرية من الثقافة "المخابراتية"، انتقلت في العقود الأخيرة إلى محاربة الإسلام بعد صعود نجمه مجددا في العالم. ولا نقصد هنا ما يسمى الحركات الاسلامية التي تسعى لإقامة الإمارات بالدم والقتل وتدمير البلدان والحضارات إنما ذلك الإسلام الذي يهزم المشروع الأميركي – الصهيوني منذ الانتصار التاريخي للثورة الإسلامية في إيران العام 1979، وصولا إلى حرب تموز مع "إسرائيل"، وكسرها في العام 2006، إلى اللحظات الراهنة في سوريا والصمود الاسطوري للجيش العربي السوري في وجه حرب عالمية تبغي القضاء على سوريا الحضارية العربية الكبرى والممانعة الأساسية أمام مشروعهم التمزيقي للقيم الإنسانية الحقة.