كان لافتاً هذا التقاطع، والأهم تلك المسارعة المتسرعة من قبل ميشال سليمان وسمير جعجع، للرد على المؤتمر المشرقي الذي نظمه اللقاء المسيحي نهاية الأسبوع الماضي. الأول بما يعنيه، والثاني بما لا يعنيه
جان عزيز
كان لافتاً هذا التقاطع، والأهم تلك المسارعة المتسرعة من قبل ميشال سليمان وسمير جعجع، للرد على المؤتمر المشرقي الذي نظمه اللقاء المسيحي نهاية الأسبوع الماضي. الأول بما يعنيه، والثاني بما لا يعنيه. رئيس الجمهورية من جهته لم يتأخر في الهجوم على عبارة وردت في وثيقة اللقاء، تقول بأن المطلوب «رئيس قوي في طائفته، وفي وطنه». فغرد عبر حسابه المتوتر معترضاً. فبدا الرئيس وكأنه يحاول تبرير ما كان عليه طوال ولايته. أو كأنه يتهم نفسه بضعف، لم تذهب إليه وثيقة «اللقاء» أصلاً. لكن الأهم في رده، ظهوره وكأنه يحاول تسويق ما يود أن يكون عليه وضعه بعد نهاية الولاية. كأنه يقدم نفسه متمتعاً بعناصر قوة أخرى، ولو من نوع آخر، ما يؤهله لطرح نفسه مرشحاً رئاسياً لاستحقاق 2014. صحيح أن الرئيس نفى ولا ينفك ينفي أي بحث في تمديد ولايته أو تجديدها. لكن مؤشرات كثيرة تدل على عكس ذلك، بدءاً من نوعية زياراته الخارجية، وصولاً إلى افتتاحياته البلدية الواعدة في شتى اتجاهات الزواريب المحيطة بقصر بعبدا.
سمير جعجع من جهته كان أكثر وضوحاً في الرد. إطلاق نار عشوائي على جميع من نظم وشارك وحضر. لكأن بكركي ومعها كل الكنائس المشرقية، عملاء لدى بشار الأسد. فضلاً عن سلسلة من الاتهامات، أصغرها الكيميائي، وأكثرها تجنيحاً خيانة داعش العظمى...
في العمق، مفهوم هذا الكلام. فهو في جوهره تعبير عن صعوبة المأزق، عن ضيق الصدر، عن تبرم بوضع شاذ خطير مستمر منذ ثلاثة أعوام ناقصة أشهراً. وهو وضع يضيق اليوم أكثر فأكثر حول الصدر والعنق وكل تفاصيل البزات الرسمية.
وهو في الحقيقة مأزق الفريق الحريري. الذي هو بدوره انعكاس للمأزق السعودي. الرياض تعبّر عن اعتراضها المأزقي على طريقتها، لا بل بكل الوسائل. ترفض عضوية مجلس الأمن بعدما عملت سنة كاملة على الفوز بها، وبعدما كان سفيرها في نيويورك قد فتح سجل التهانئ بمقعده حول طاولة مانهاتن. فجأة تتفعل المحكمة الدولية. يُكتشف متهم خامس. يستأسد موظف في لاهاي على الحريات الإعلامية في لبنان، أو حتى على مبدأ تشكيل الخصومة في المحكمة نفسها... تسير المحاكمة الدولية بلا هيئة دفاع. يهدد تركي الفيصل بحرب أهلية في لبنان. يتوعد بندر واشنطن. تنفجر في باب التبانة. يكتشف جماعة «المعلومات» أن «علويي الأسد» مشتبه بهم في تفجيري طرابلس... وحين لا ينفع كل ذلك، يحضر للفيحاء باص ومذبحة ومذبوحون... فيما الرياض على مسافة واحدة من كل اللبنانيين!!
هذا المأزق السعودي يصير أكثر وضوحاً بتوسيع مروحة القراءة الإقليمية: قطر أول الغيث، مع عودة شبه الجزيرة إلى ما يشبه «الجزيرة» غير الضالة. «حماس» سبقت ولحقت واستلحقت. أنقرة لم تعد تفاوض واشنطن إلا على ضمان عدم «بكسنتها». أي ضمان عدم تحولها باكستان ثانية، نتيجة تقلبات موازين الحرب الأميركية العبثية الخاسرة الجديدة، في «أفغانستان الثانية» أو سوريا. صورة برويز مشرف وهو يتسلل هارباً من قاعة المحكمة، لا شك تؤرق رجب باشا إردوغان الأعظم. الرجل الذي صدق البعض يوماً أنه «الطيب» بات عالقاً بين نارين: إما أوجلان وإما داعش وأخواتها. ما جعله ينسى اسم بشار الأسد منذ زمن. إلا إذا أفاق عليه قريباً كمنقذ... وسط هذا المشهد صارت السعودية غارقة فعلياً في سبات حكامها الثمانينيين. آخر يقظة مَرضية لهؤلاء كانت بعد تظاهرة درعا في آذار 2011. اقتصرت حينها على عبارة ـــ أمر عمليات لكل حاشيات البلاطات: «لكم كل ما تريدون من مقدرات وإمكانات، لكن أسقطوا بشار». عادت القيادة الرشيدة إلى غيبوبتها عامين ونيفاً. أفاقت مجدداً عشية استقالة ميقاتي. هذه المرة اقتصر الوحي على نصف عبارة: «لا إمكانات ولا مقدرات، ولكن ...» لم يسقط أمر إسقاط الأسد. فيما سقطت كل وسائل الأمر وأدواته. ومع ذلك لم يجرؤ أي من المنفذين على سؤال أو استيضاح. فاستمر العمل وفق القاعدة السابقة، لكن باللحم الحي. واللحم الحي أول من وما يستشعر المآزق. إنه المأزق نفسه الذي شخصه لهم حسن نصر الله بشكل أثار الهواجس، أكثر مما طمأن أو ساعد. وهو المأزق نفسه الذي عبّر عنه أحد مفكري هذا الفريق، حين دعاه أخيراً إلى الاستعداد لما سماه «إحباط كبير آت».
احتفالية انتصار هذا الكلام؟ بل هو إحساس بالقلق وشعور بالمسؤولية حيال المحبطين الجدد. فصحيح أن لبنان لم يكن ليحتمل لحظة انتصار الحريري السعودي. لكنه كذلك لا يمكن أن يعيش مع هزيمة الحريري اللبناني. منطق التوازن نفسه الذي جعل انتصارية الحريري سنة 2005 كارثة، يجعل أي انكسار له اليوم، كارثة مماثلة. حتى انتحار 14 آذار هو أول النحر لخصومهم، في بلد المعادلة العقربية القاتلة. ما الحل؟ إقناع السعوديين بوقت لبناني مستقطع، ينسى خلاله ميشال سليمان إيلي الفرزلي بعض الشيء، ويخرج جعجع خلاله من عقدة عون، ويلتقي الجميع على أدوات ضرورية لإدارة مرحلة انتقالية، تبدأ قبل جنيف ـــ 2، لا بعده، وتنتهي بعد ما بعده، لا مع الرهانات على قبله أو بعده.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه