"استعراض الأصدقاء" وصف أطلقته أوساط صحافية أميركية على جولة وزير الخارجية الاميركية جون كيري الى المنطقة.
علي عبادي
"استعراض الأصدقاء" وصف أطلقته أوساط صحافية أميركية على جولة وزير الخارجية الاميركية جون كيري الى المنطقة، وتحديداً الى الدول التي تـُعتبر حليفة للولايات المتحدة.
الوصف يُجمل طبيعة هذه الجولة وأهدافها المتمثلة بمحاولة ترميم صفوف هذا المحور الذي تضعضع بفعل التحديات والتغيرات التي عصفت بالمنطقة خلال السنوات القليلة الماضية وتركت آثارها على مكانة الولايات المتحدة ودورها في المنطقة.
ولا يعول الكثير من المحللين الأميركيين والخليجيين على نتائج واعدة لجولة كيري التي حفلت بكيل المديح للسعودية وطمأنة الحكومات ذات العلاقة الوثيقة بالادارة الاميركية الى ان واشنطن لن تدير ظهرها لها وهي تتعامل مع ملفي ايران وسوريا.
جاءت هذه الجولة محاولة ً لتهدئة مخاوف "الحلفاء" - وخاصة السعودية- حيال الفراغ الذي ظهر اثر انكفاء الولايات المتحدة عن ضرب سوريا وتفكيرها في رفع جزئي للحصار عن ايران، وهو أمر دفع الرياض لتوجيه انتقادات علنية- للمرة الأولى- الى سياسات الولايات المتحدة، ملوحة بتقليص تعاملاتها معها، كما رفضت تسلم مقعد غير دائم في مجلس الامن الدولي بعدما سعت حثيثاً الى الحصول عليه.
جبر خواطر
اعتبر الاميركيون ان الرسالة وصلت، وفهموا ان أحد أوجه المشكلة المستجدة هي ضعف العلاقات العامة مع "الاصدقاء" في الفترة الاخيرة. والواقع ان الإنعطافة الاميركية حيال سوريا وايران افتقرت الى تنسيق وثيق مشترك، وهي مهمة كان يتولاها في العادة مستشار الأمن القومي الأميركي او مدير المخابرات المركزية، لكن التغييرات في إدارة أوباما لم تـُتح إبقاء هذه النافذة مفتوحة. ومن هنا تقرر إيفاد وزير الخارجية كيري ليقوم بمهمة جبر الخواطر.
لكن القضية لا تقف عند وجود تنسيق مسبق، فأجندة كل من الطرفين تتباعد عن الأخرى، بفعل ميل واشنطن الى اجراء تسويات اضطرارية في بعض الملفات المزمنة، بينما تميل الرياض أكثر فأكثر الى الدفع باتجاه انقلابات نوعية. هذا ما حدث في مصر، وهذا ما تعمل لحدوثه في سوريا والعراق، فيما تـُبقي الخيط مشدودا مع ايران.
وتسعى الإدارة الاميركية الى حصر الخسائر في سعيها الى محاولة إحداث خرق مع ايران، الى جانب الاحتفاظ بولاء الحلفاء، وهي لا تمانع في إجراء مراجعات لا تغير في الاستراتيجية العامة الحالية. واللافت هنا ان كيري افتتح جولته في المنطقة بمصر، في خطوة تـُعدّ إرضاء للسعوديين الذين دعموا الاطاحة بحكم الاخوان المسلمين. وهو أرفع مسؤول اميركي يزور مصر منذ ذلك التاريخ، وقد خلت تصريحاته في القاهرة من أي إشارة تذكر الى انتقاد الحكم القائم في البلاد، قبل 24 ساعة على بدء محاكمة الرئيس المعزول محمد مرسي. وهذا يعني ان واشنطن تغض الطرف عما يجري في مصر في هذه الآونة بعد قرارها حجب القسم الاكبر من مساعداتها السنوية اليها.
تطمينات وتملق
كثيرة هي الرسائل التي حملها وزير الخارجية الاميركية الى السعودية، وتجلت في النقاط التالية:
- إبلاغ السعوديين بأن الولايات المتحدة ستدافع عن المملكة ( كما عن حلفاء أميركا في المنطقة: مصر والاردن والامارات وقطر و"آخرين"- اشارة الى اسرائيل) في وجه أي هجوم خارجي، وهو وعد لم يكن الاميركيون يجدون تقديمه علناً أمراً ضرورياً في السنوات الماضية، كما لاحظ الكاتب مايكل غوردون في نيويورك تايمز.
- التأكيد للسعوديين على عدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي، وحَرَصَ كيري على تأكيد عدم وجود ما تخفيه الولايات المتحدة في شأن مفاوضاتها مع ايران، بالقول انه "لا توجد مفاجآت" حول الملف النووي الايراني.
- الإطراء على دور السعودية في المنطقة، الى حد وصفها بـ"اللاعب الكبير" و"الشريك الأساسي" لبلاده من بين الدول العربية، خصوصا بعد تراجع دور مصر في ضوء انشغالها بمشاكلها الداخلية. وقد علقت اوساط اميركية على تعابير المجاملة فوق العادية التي استخدمها كيري في السعودية على انها هدفت الى "إظهار الاحترام" للقيادة السعودية، الامر الذي يبدو محاولة لامتصاص "الغضب" السعودي وتعويضاً عن النقص في التنسيق الاميركي مع الرياض في الآونة الاخيرة.
- عدم إحراج السعودية في شأن أوضاعها الداخلية، اذ بدا كيري أقرب الى إبداء الرضا حيال تعامل السلطات مع المطالب الاصلاحية، حتى انه اعتبر ان مسألة قيادة المرأة للسيارة- وهو أمر يثير جدلاً في المملكة- شأن يخص السعوديين. كما قال ان هناك تغييرات في المملكة تحصل لكنها تأخذ بعض الوقت.
بالعموم، تحاول الادارة الاميركية تهدئة هواجس حلفائها حيال التغيرات التي طرأت على خط تعاملها مع ازمات ساخنة مثل سوريا وبرنامج ايران النووي. وكلفة هذه التهدئة تبدو مرتفعة بعض الشيء لكنها ضرورية من وجهة نظر الاميركيين، وهي تعني تجميد ملاحظاتهم ازاء العديد من ممارسات الحلفاء التي لا تتوافق مع سياساتهم.
ففي مصر، تجنب كيري توجيه انتقادات الى السلطة الحالية، متجاوزاً الاختلافات العلنية التي حدثت عقب الاطاحة بحكم الاخوان المسلمين، وفي السعودية، لم يتوقف الوزير الاميركي عند السياسات الإشكالية التي تتبعها الرياض في غير ملف اقليمي، مما يمكن ان يكون مادة افتراق عن المصالح الاميركية. وفي القدس المحتلة، لم يتحدث كيري عن الوحدات الاستيطانية التي قررت حكومة نتنياهو استحداثها مقابل اطلاق معتقلين فلسطينيين، تاركاً الحديث عنها الى ما بعد لقائه مع محمود عباس في بيت لحم.
هذه التهدئة مع "الاصدقاء" ليست ثمناً لسكوتهم عن تعديلات في الخطة الاميركية للتعامل مع ايران وسوريا وغيرهما فحسب، وانما هي اشارة الى تراجع ادوات الضغط في يد واشنطن التي لم تعد قادرة احيانا على ان "تمون" على هؤلاء "الاصدقاء"، فضلا عن ان تغير في توجهات خصومها. ومن هنا تبدو الامور أصعب عليها في الفترة المقبلة، الا اذا حدث اختراق في إحدى الجبهات بما يعيد إنعاش الدور الاميركي المترهل.
تنظيم الخلافات
ثمة أزمة كبيرة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الاميركية التي كانت تأمر فتـُطاع، لكنها لم تعد كذلك الآن لأسباب عدة تتعلق بانصرافها على نحو متزايد الى ترتيب شؤون البيت الداخلي عقب الركود الاقتصادي واستنزاف طاقة جيشها واتساع نطاق الصراع الحزبي بين الجمهوريين والديمقراطيين. والفراغ القيادي الاميركي على مستوى العالم ولـّد تنافساً بين قوى صاعدة عدة لملئه، لكن القوى الاقليمية الحليفة للولايات المتحدة والتي اعتادت على تدخلها المؤثر في الصراعات المختلفة هنا وهناك لا تبدو واثقة من قدرتها على توجيه الامور لمصلحتها، وهي تحاول جذب انتباه الاميركي الى اهمية عدم الذهاب بعيدا في تعديل خطة عمله بما قد يؤدي الى تهميش الحلفاء أكثر.
صحيح ان العلاقات الاميركية- السعودية تمر في مأزق، مثلما هي العلاقات المصرية- الاميركية وبقدر أقل العلاقات الاميركية - الاسرائيلية، لكن هذه العلاقات بين واشنطن وحلفائها ليست في وارد الانهيار، فالكل بحاجة للكل، والجميع يعمل على تنظيم الخلاف من خلال توصيفه على انه تكتيكي في الغالب ولا يطال الاهداف الا قليلا. لكن الاميركي بالذات يوضح بجلاء لحلفائه انه ليس في وارد القتال نيابة عنهم، وان عليهم تدبر مصالحهم من دون ان يتوقعوا تدخلاً اميركياً مباشراً سواء في مواجهة ايران او سوريا. هذا ما قاله الاميركيون مراراً للاسرائيليين بشأن ايران، وهذا ما يقولونه الآن للسعوديين بشأن سوريا. لقد قال كيري في الرياض صراحة: "لا يوجد لدينا الصلاحية القانونية (!) او المبرر (!) او الرغبة (!) في الوقت الراهن للانخراط في حرب اهلية (سورية)، وأعتقدُ انني أوضحتُ هذا بشكل جلي".
وعليه، أبدى المسؤولون السعوديون مرونة من نوع ما حيال مؤتمر جنيف-2 المزمع عقده لحل الازمة السورية. وبعد ان كانوا يرون ان المؤتمر بصيغته المطروحة يعيد الاعتبار للنظام في سوريا في حين ان رهانهم الكبير هو على إسقاطه اليوم قبل الغد، يُظهرون الآن استعداداً لتقبل فكرة انعقاده، لا سيما ان الولايات المتحدة عقدت تفاهماً مع روسيا على عقده وعلى تذليل الصعوبات أمامه. وفي معلومات مصادر ديبلوماسية ان السعودية تريد ضماناً بأن المؤتمر سيكون محدوداً زمنياً وسيفضي الى هدف محدد: إزاحة الرئيس الاسد، والا فان على الولايات المتحدة التحرك لتغيير ميزان القوى على الارض السورية. كما اعترض السعوديون بداية ًعلى مشاركة ايران في المؤتمر، غير ان هذا الاعتراض استحال موافقة مشروطة تفيد بأن على ايران ان تساند خطة جنيف- 1 التي تنص على تشكيل حكومة سورية انتقالية كاملة الصلاحية، اي ان تأخذ الصلاحيات الأساسية من طريق الرئيس الاسد، وهو شرط لم تسلـّم به القيادة السورية ولا تبدو ايران في وارد التسليم به حتى الآن.
المهم ان العقدة السعودية أمام التسوية او الحل في سوريا ذللت جزئيا، لكن ذلك لا يمنع ان الأمور عرضة للكثير من التغيرات بسبب الطبيعة الرخوة للصراع الدائر على ارض سوريا وما حولها، ما يفرض الانتظار لحين نضوج عوامل مساعدة على الحل.
رحلة تنظيم الخلاف بين اميركا وحلفائها أرست جولة كيري دعائمها الأولى، وقد تستلزم مرحلياً تشدداً اميركياً لفظياً في التعامل مع سوريا وايران، غير انها تستلزم ايضا الكثير للمواءمة بين مصالح اميركا ومصالح حلفائها الذين تغريهم العداوات والصراعات الاقليمية ولا يعيرون تكاليفها والحسابات الدولية كثير اهتمام.