يبقى فيلم «الصدمة» قائماً على أنسنة العدو. على أبلسة الضحية وإعطاء صورة إيجابيّة لجلادها. كل البنية الدرامية والخيارات الإخراجية تأخذنا إلى هذا الفخ الخطير
عام مضى على الضجّة التي أثارها فيلم «الصدمة». بدأ الجدل حول مشاركته في «الأوسكار» وانتهى بسحب رخصة العرض في بيروت ومنعه في العالم العربي. وانقسمت الآراء بين مدافع عن هذا السينمائي المميّز بإسم «حريّة التعبير»، ومنتقد لفيلم صوِّر في تل أبيب بطاقم معظمه إسرائيلي، فاتحاً باب التطبيع الثقافي على مصراعيه مع العدوّ، للمرّة الأولى في لبنان.
عام تنقل خلاله الفيلم بين المهرجانات، ولاقى حفاوة في الاعلام الغربي والاسرائيلي والسعودي. غداً سيحلّ دويري وفيلمه في ضيافة «المركز اليهودي العلماني» في بروكسيل. بعدما هدأت العاصفة وبقيت الاسئلة، عودة هادئة، إلى التجربة وخلفيّاتها وخطابها
بيار أبي صعب
«شاهدت لتوّي فيلم زياد دويري «الصدمة» هنا في تونس. لا أفهم لماذا تَعرّض صاحبه في بيروت مدينة الحريّات لكل هذا الاضطهاد؟». هكذا بدأ الحوار على تويتر مع (ف) الصحافية التونسية الشابة. ابنة ثورة 14 جانفي، تقدميّة ويسارية ومناضلة نسوية من الجيل الذي ازداد راديكالية بعد سقوط الشهيد شكري بلعيد. ومثل بنات وأبناء جيلها، تناضل (ف) من أجل الحريّات على اختلافها بوجه الطاغوت الإسلاموي، بعدما تدحرج كابوس زين العابدين بن علي عن صدر بلد الطاهر الحداد.
غرّدت إنّها لا تفهم «كيف يمكن للمثقفين في بيروت ألّا يتضامنوا مع سينمائي تعرّض للرقابة والتهديد بالموت؟». التهديد بالموت؟ نسأل بدهشة، فترسل لنا على الفور، بمثابة دليل قاطع، رابطاً لوعظة همايونية غارقة في التعميم كتبها لبناني على موقع RUE89 الفرنسي. وتزداد وتيرة الغضب والاستنكار: «كيف لكم أن تقبلوا بمنع هذا الفيلم الشجاع والجميل الذي يدافع عن فلسطين، لمجرّد أنّه صُوّر في (ما يعرف بـ) «إسرائيل»؟».
BINGO لزياد دويري! هذا السينمائي الحذق كسب في آن واحد تضامن «التقدميين العرب» وبركة النخب الإسرائيليّة وإقبال الجمهور الأوروبي. وفي الغرب حاز رضى السياسيين (نذكر مبادرة وزيرة الفرنكوفونية الفرنسيّة يمينة بنغيغي) والمؤسسات المختلفة، ودعم الموزّعين والمنتجين (وكلّهم من «مؤيدي القضيّة الفلسطينيّة» كما هو معروف!)، وضمَن إنتاج أفلامه العشرة المقبلة. قاد حملته بمزيج من الدهاء والمهارة والانتهازية والفجور الفكري، مستعملاً الإعلام، متلاعباً بالرأي العام، مبتزّاً المسؤولين، مسوّقاً لمجموعة مغالطات ومفارقات واختزالات. لقد أطلّ علينا بثياب صاحب الموهبة المهدورة في وطنها، والمبدع المضطهد، والفنان الشجاع.
في الداخل هو بطل حرية التعبير وضحية الرقابة اللبنانية وفريسة «الإرهاب»، علماً أنّ فيلمه كما يصرّ «يدافع عن فلسطين ويقاوم ضغوط المنتجين». وفي الخارج، أي أوروبا وأميركا (و… الكيان الصهيوني)، هو ضحيّة «حب إسرائيل» تعرّض للاضطهاد بسببها. هكذا احتفى الوعي الغربي المقولب والمكيّف، بهذا الفنان «الملتزم» الذي دفع غالياً ثمن انفتاحه وتقدميّته وتمثيله «جيلاً جديداً يرفض التعصب والأصوليات، ويحبّ السلام ويعترف بالآخر». أهلين! إذا لم يكن هذا التطبيع الثقافي مع العدو، فما عساه يكون؟ للأسف، دخل زياد دويري التاريخ بصفته ـــ إذا وضعنا جانباً عصبة انعزالية صغيرة من خارج السياق خلال الحرب الأهلية ـــ أوّل مبدع لبناني يؤسس للتطبيع الثقافي مع إسرائيل. وذلك بعد انحسار هذه الموضة في الأقطار العربية التي شهدت انطلاقها من مصر والأردن إلى المغرب وتونس، لتقتصر على بعض المبدعين العرب المقيمين في باريس تحديداً، من بوعلام صنصال إلى ناديا الفاني.
طوال العام الماضي، كلما تفاقم النقاش حول ظروف تصوير «الصدمة» في «إسرائيل»، وحيثيّات منعه ــ وهو نقاش نعترف بأنّه يبقى جزئيّاً على أهميته، طالما لم يقترن بمناقشة العمل الابداعي نفسه ــ كان دويري في دور الضحية، يزيد من التصعيد والتوتر في إطلالاته الإعلامية، ومن التصريحات العشوائية التي تشتم وتحقّر وتتعالى وتتهم الآخرين بالجهل. تارة كان يقدّم تبريرات واهية لخياراته: صوّر في إسرائيل لإصراره على «الاقتراب من البيئة الحقيقية للأحداث» (!)، وأسند دور سهام إلى الممثلة الإسرائيليّة ريموند أمسالم لأنّه «لم يجد ممثلة عربية تقبل بالتعري أمام الكاميرا» (!). و«الإسرائيليون المشاركون في الفيلم كلهم مع فلسطين». وتارةً أخرى يطالعنا بأهمية الانفتاح على إسرائيل و«فهم وجهة نظرها». وحين يريد حسم النقاش كان يخرج ذريعته القاضية: «أنا لا أمارس السياسة بل الفن»! باختصار، لقد قاد أسوأ حملة دفاع ممكنة عن فيلم إشكالي من هذا النوع، متجنّباً النقاش الحقيقي حول الحدود القصوى الممكنة للحرية عندما نتناول العلاقة الملتبسة بين الضحية والجلاد.
في لبنان حاز فيلم «الصدمة»، في البداية، تأشيرة العرض. نحن الذين نطالب الرقابة بلا كلل برفع سقف السماح، وبدعم حرية التعبير عبر الاجتهاد في تطبيق النصوص، إلى أن يحين زمن تغييرها، لم نفهم القرار يومذاك. الفيلم يخالف القانون صراحة وجهاراً. صوّر في إسرائيل، بالعبريّة جزئياً، مع ممثلين بينهم إسرائيليون، وبرعاية منتج منفّذ إسرائيلي (أمير هاريل وLama Films). قلنا لا بأس، عرض العمل مناسبة لمناقشته، وذلك خير من أبلسته في النهاية، خصوصاً أن المخرج اختبأ طويلاً خلف ذريعة سهلة: كيف تحاكمون الفيلم قبل مشاهدته؟ لكن زياد لم يكتف بالسماح بعرض فيلمه في لبنان. كالغراب الذي رأى ظلّه عملاقاً عند الصباح، فرفع سقف مطالبه. لقد ملأ الدنيا نعيقاً لأنّه منع من الذهاب إلى الأوسكار. وكان قرار لجنة المقاطعة في الجامعة العربية بمنع الفيلم. وتفادى المهرجان القطري برمجة الفيلم، مع أن «مؤسسة الدوحة للأفلام» دعمته. وقّعت في بيروت عريضة تضامن cool. وانهالت مقالات المديح والاستنكار في الصحافة الغربية والإسرائيلية. كرّمته مهرجانات عدة من مراكش إلى لوكارنو.
أما «مهرجان القدس السينمائي» الإسرائيلي، ففتح ذراعيه لدويري، واستُقبلت «الصدمة» استقبال الفاتحين. فيما اكتفى المخرج اللبناني هذه المرة بالتواصل مع عشّاقه الإسرائيليين عبر «سكايب»، مفضلاً عدم تكرار الخطأ، وتفادى الذهاب شخصيّاً إلى الأرض المحتلة التي قصدها خلال التصوير كما نذهب في نزهة ريفية لطيفة. ومساء غد الجمعة يستقبله مركز صهيوني في بروكسيل (CCLJ) لعرض الفيلم ومناقشته. والمسيرة مستمرّة.
لكن ماذا عن السينما؟ كيف نقرأ الفيلم الذي كتبه زياد دويري مع جويل توما، انطلاقاً من رواية ياسمينة خضرا «الهجوم»؟ لا أحد ينكر أن «الصدمة» فيلم جيد، بل إنّه أكمل أفلام صاحب «بيروت الغربيّة» وأنضجها. العمل لأسباب إخراجية، وأخرى لها علاقة بالموضوع نفسه، يأخذ المشاهد في أحيان كثيرة، فيجد نفسه متلبّساً بانفعالاته على حافة الدمع، قبل أن يصحو من سكرته ويكزّ على أسنانه، عند هذا الفخ الأيديولوجي الذي كاد يُستدرج إليه، أو تلك المقاربة الفولكلورية والسطحية للواقع الفلسطيني تحت الاحتلال. نعم فيلم دويري جيد من ناحية الشكل واللغة والأسلوب. زياد، والحقّ يقال، مخرج حقيقي، يمتلك إحساساً عالياً وقدرة على الابتكار، وثقافة سينمائية، وهو قادر على التحكّم بعناصر اللعبة، ما يجعله أحد أبرز سينمائيي جيله لبنانياً وعربياً.
لكن كل ذلك يزيدنا أسفاً وحذراً، ويزيد التجربة خطورة. فكل النقاش السابق (قد يراه بعضنا «أيديولوجياً» ومقحماً على الفن) في الشكل والخلفيات السياسية والخطاب الإعلامي، والخيار المؤسس للتجربة (أي التحرّك على أرض العدو وبأدواته)، يجد صداه في البنية الدرامية للفيلم. وتلك ليست مفاجأة، فالمضمون ابن الشكل والعكس صحيح. حين أقوم بكل تلك التنازلات (الإنتاجية والايديولوجيّة) لنظام القيم المهيمنة التي تحدد الخير والشر، لا يسعني أن أنتج خطاباً نقدياً أو مقاوماً. اكتساب «الشرعيّة» في الغرب، وبلوغ العالمية، له ثمن: ذلك التحدي يواجه الكثير من المبدعين العرب اليوم! التدجين الفكري مقابل الشرعيّة والإمكانات الماديّة. التنميط الجمالي مقابل الاعتراف والرواج.
هناك ترابط عضوي بين الطريقة التي صنع بها دويري «الصدمة»، وخطابه الفنّي والفكري في الفيلم. بل هناك خيط رفيع يجمع بين مقاربة الكاتب الجزائري للقضية الفلسطينية، ومقاربة المخرج اللبناني لها. هناك اختزاليّة ياسمينة خضرا وسطحيّته ونظرته النمطية إلى النضال الفلسطيني، بما يرضي الخطاب السائد في فرنسا، البلد الذي نجح فيه ويكتب بلغته. ويوازيها اختزالية أكبر لدى دويري في فهم الصراع وتصويره. الفلسطيني نوعان: الآدمي الطيب الذي يندمج بهدوء في المجتمع الإسرائيلي ويكتسب منه شرعيته، والشرير المتخلف المتعصّب الذي يفجّر نفسه في الأطفال الأبرياء أو يؤيّد هذه الممارسات. القصور نفسه، في الرواية والفيلم، عن التقاط الواقع الفلسطيني، وشخصية الاستشهاديين وبيئتهم ودوافعهم (كل ذلك اقترب منه هاني أبو أسعد أكثر في «الجنّة الآن»).
خضرا ودويري ينظران إلى فلسطين بعين المستعمر والرجل الأبيض، النتيجة مجموعة كليشيهات، واختزالية خطيرة في فرز الخير والشر. سهام المسيحيّة ابنة الطبقة الوسطى ما الذي أخذها إلى تفجير نفسها؟ ما هذه البيئة الفلسطينية التي يصورها الفيلم؟ وما للدكتور أمين جعفري (علي سليمان) لم يعد يعرف نفسه وحبيبته وناسه وقضيته؟ إنّه الفلسطيني الحائر الذي نتماهى معه، ونرى بعينيه الواقع، ونلمس «إيجابيات إسرائيل». مهما حاول أن يجرّنا إلى هوامش وطنيّة واستطرادات نضالية (عبثيّة غالباً كهذا الكاهن المسيحي الذي يتكلّم كأنّه داعية إسلامي)، يبقى فيلم «الصدمة» قائماً على أنسنة العدو. على أبلسة الضحية وإعطاء صورة إيجابيّة لجلادها. كل البنية الدرامية والخيارات الإخراجية تأخذنا إلى هذا الفخ الخطير. هؤلاء الناس المنفتحون المتسامحون المتحضّرون احتضنوا الفلسطيني الطيّب وجعلوا منه «بشراً» وفتحوا له جامعاتهم، وهو لا يجد ما يفعله سوى أن يقتل أطفالهم، مطالباً بهويّة ووطن شبه مستحيلين.
الدكتور أمين وياسمينة خضرا وزياد دويري شخصيّة واحدة في النهاية، يمكن اختصارها بـ«العربي النظيف». العربي الذي اغترب عن واقعه واستُلب وعيه وتشوّشت نظرته لحقيقة الصراع، ليرتقي في النظام «الاستعماري» ويجد مكانه فيه. «العربي النظيف» هو العربي النموذجي في نظر الغرب، يقدّم التنازلات للقوى المهيمنة مقابل… تلك الشرعيّة الواهية!..