27-11-2024 11:51 AM بتوقيت القدس المحتلة

الفرنكوفونيون في العالم يهجرون وفي لبنان أشد ملكية من الملك ..!

الفرنكوفونيون في العالم يهجرون وفي لبنان أشد ملكية من الملك ..!

في المستعمرات التي حكمتها فرنسا كان من المفارقة أن يعرف هذا الأدب بالأدب الفرنكوفوني. ولكن اليوم وبعد ممارسات تاريخية تبدت لأصحاب هذا الأدب العنصرية الفرنسية في اعتباره أدبا تابعا للأدب الفرنسي

"الأدب الفرنكوفوني" : هوية متأزمة ومحاولة مضنية نحو الانتماء

في هذه الأيام يحتفل لبنان بمعرض الكتاب الفرنكوفوني، ويبالغ البعض ويصفه أنه تحوّل إلى معرض عالمي. لماذا هذا الإصرار على التمسك بالفرنكوفونية في لبنان في حين أن أعظم أدباء العالم "الفرنكوفونيين" تركوا الاعتراف به لأنه يشي بأنه أدب ملحق بفرنسا؟.

جمعينا قد سمع وقرأ عن "الأدب الفرنكوفوني" ولكن قلة يعرفون أن هذا الأدب يعدّ من حاشية الأدب الفرنسي، وأن هذه التسمية بات يرفضها معظم الأدباء غير الفرنسيين الذين يكتبون بالفرنسية في العالم في القرن الحادي والعشرين. ومنهم حاصدو الجوائز الفرنسية والعالمية، فقد راحوا ينادون من أجل أدب عالمي بالفرنسية منفتح على العالم وعابر للقومية في وجه أدب نرجسي فرنكوفوني يهتم حصرا بنفسه، ثم قالوا بنهاية الفرنكوفونية، ومنهم أمين معلوف والطاهر بن جلون ونانسي هيوستون وألان مابانكو وإدوارد غلسان.

لقد تأخروا كثيرا حتى أعلنوا ذلك. فلماذا؟!.. في دراستي التي تقدمت بها لنيل شهادة الماجستير في اللغة العربية وآدابها، خصصتها لمعالجة هذه القضية. وحملت عنوان "الأدب اللبناني المكتوب بالفرنسية، أزمة هوية في محاذاة الكونية، بدايات أمين معلوف نموذجا". وكانت الإشكالية التي طرحتها هي أنه مادام حياة معظم الشعوب تشكلت من خلال الخبرة الكولونيالية، فمن اليسير إدراك أهمية هذه المسألة في المجالات السياسية والاقتصادية، لكن تأثيرها العام على أطر إدراك الشعوب المعاصرة عادة ما يكون أقل وضوحا. إن الأدب يقدم واحدا من أهم طرق التعبير من تلك المدركات الجديدة.

فلقد تطورت آداب ما بعد الكولونيالية من خلال عدد من المراحل التي يمكن اعتبارها مماثلة لمراحل الوعي القومي أو الوطني أو الإقليمي. وأثناء الفترة الإمبراطورية، كانت الكتابة بلغة المركز الإمبراطوري تصدر حتماً، وبطبيعة الحال، من جانب النخبة المتعلمة التي كانت هويتها الأساسية تتحدد مع القوى الكولونيالية. وإننا نستخدم مصطلح "ما بعد الكولونيالية" ليشمل كل ثقافة تأثرت بالعملية الإمبريالية منذ اللحظة الكولونيالية حتى يومنا الحالي. ويرجع هذا الاستخدام إلى استمرار هذا الانشغال طوال العملية التاريخية التي بدأت بالعدوان الإمبريالي الأوروبي. وهذا المصطلح هو أيضاً الأكثر ملاءمة بوصفه مصطلحا للنقد الثقافي الجديد الذي ظهر في السنوات الأخيرة، وللخطاب الذي يتأسس من خلاله ذلك النقد.

في المستعمرات التي حكمتها فرنسا كان من المفارقة أن يعرف هذا الأدب بالأدب الفرنكوفوني. ولكن اليوم وبعد ممارسات تاريخية تبدت لأصحاب هذا الأدب العنصرية الفرنسية في اعتباره أدبا تابعا للأدب الفرنسي أو أنه من حاشيته. وهذا ما يجعل إشكالية الهوية للرواية العربية، المكتوبة بالفرنسية، تثير المزيد من الجدل الواسع في أوساط الثقافة والنقد. والأدب اللبناني المكتوب بالفرنسية فرع أصيل من هذه الإشكالية. فحكايته طويلة تعود إلى أيام جبل لبنان، وهي واحدة من المستعمرات التي حكمتها فرنسا، كانت النخبة المثقفة من المسيحيين تحديدا أول من دأب على الكتابة والتعبير باللغة الفرنسية، حيث حلت الإرساليات التبشيرية الفرنسية في العديد من أقطار جبل لبنان، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. تثار حول هذا الأدب جملة انتقادات حول موضوع رواياته وأسلوب معالجته وطبيعة طرحه في سياق كولونيالي أو فرنكوفوني- فرنسي. فإذا كانت وسيلة هذا الأدب في التعبير هي اللغة الفرنسية، وسياقه المضموني يتسم بالبعد الثقافي الأوروبي، فهل يمكن اعتباره أدبا أوروبيا فرنسياً؟. وإذا كانت موضوعاته تتمحور حول قضايا عربية – لبنانية فهل يمكن أن نعده أدباً عربيا لبنانيا؟.

عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كانت الإمبراطورية العثمانية قد بدأت بالتفكك بينما الغرب ينتظر الفرصة المؤاتية لينقض على "الجسم المريض". وقد انتبهت إلى هذا الواقع نخبة من المثقفين اللبنانيين الذين استقروا في فرنسا هربا من الحكم العثماني فراحوا ينادون بالاستقلال عن الدولة العثمانية ويطلبون الدعم والمساعدة من فرنسا "حامية الحريات". في عداد هذه النخبة كتاب وشعراء احتفظوا بمكانة بارزة في تاريخ الأدب اللبناني المكتوب بالفرنسية.

ومع سقوط الإمبراطورية العثمانية وفي ظل ما سمي "عهد الانتداب" طرأ تحول جذري على هذا الواقع تحت تأثير الظروف السياسية. فقد كان للثورة العربية الكبرى أثرها السلبي في نفوس بعض اللبنانيين الذين استشعروا خوفا من هيمنة عروبة حمل لواءها جيش الشريف حسين القادم من الحجاز، فانحازوا إلى فرنسا وانكفأوا على خصوصيتهم مؤكدين على تمايز لبنان واختلافه عن محيطه العربي. وعندما أعلنت دولة لبنان الكبير سنة 1920 تبلورت هذه النزعة وعبرت عن نفسها في "المجلة الفينيقية"، التي كان يصدرها بالفرنسية الشاعر "شارل قرم" أحد منظري القومية الفينيقية. وقد تحلق حوله عدد من الشعراء والأدباء ممن توسلوا الفرنسية ليتغنوا بالانتماء إلى فينيقيا بديلا من الهوية العربية.

فالتحول، الذي طرأ على مدلول الكتابة باللغة الفرنسية، وعلى مفهوم الفرنكوفونية، اقترنت مذذاك بالتبعية لفرنسا خاصة وللغرب عامة، وبالعداء للعروبة والإسلام. وقد استمر هذا الخلل بالعلاقة مع اللغة الفرنسية في أوساط واسعة عقودا عديدة ما بعد الاستقلال، ونتج عنه أزمة ثقة بالكاتب اللبناني الفرنكوفوني عبرت عنها الشاعرة الراحلة "ناديا تويني"، إذ قالت: "السؤال المطروح علينا دوما نحن الذين يكتبون الشعر باللغة الفرنسية في بلد ينتمي إلى العالم العربي .. هو التالي: هل أنتم شعراء لبنانيون حقا أم أنتم شعراء أجانب؟. وهو سؤال ذو بعد ثقافي وسياسي في آن. نحن متهمون بأننا نتاح جيل ترعرع تحت الاستعمار الفرنسي وبأننا صنيعة مدارس الإرساليات الأجنبية... لكننا نجيب عن كل هذه التهم بأن اعتمادنا الفرنسية بما هي لغة إبداع يعبر عن اختيار واعٍ وحر، وأنه لا يعني قطعاً رفضنا لهويتنا اللبنانية والعربية، بل على العكس من ذلك، فنحن نسعى إلى بلورة هذه الهوية وإلى التأكيد عليها وتفعيلها عن طريق التعبير عنها باللغة الفرنسية، التي تؤمن لها وسيلة لتعرّف عن نفسها أمام الشعوب..".* 

تنتمي "ناديا تويني" إلى جيل من الكتاب والشعراء والمفكرين، الذين وإن توسلوا الفرنسية لغة إبداع، يفخرون بانتمائهم إلى الثقافة العربية الأمّ، وإن كان في هذا الافتخار التباس مهم، نظرا لدوره الثقافي ذي البعد العلائقي المأزوم بين الشرق والغرب. وتتجلى هذه المفارقة بشكل أكبر عندما تلاحظ تبني بعض الكتاب لصفة أنهم كتاب فرنكوفنيين، مع ما تعنيه الكلمة من استبداد ثقافي وسطوة اللغة المستلبة لشخصية الكاتب وهويته، وهم في أحيانا أخرى ينكرون على أنفسهم هذا الاستلاب والتشتت في الهوية والانتماء. فهذا الشاعر الكبير صلاح ستيتيه عبرّ مرارا أنه يطعّم أدبه الفرنسي بروح مشرقية. لقد بقي هذا الأدب طيلة عقود عديدة هامشيا.

ولا تزال النظرة الفرنسية إلى الإنتاج الفرنكوفوني نظرة فوقية، بينما يختلف الأمر عندما يتعلق بالنتاج الكندي أو السويسري أو الروسي مثلاً. فكتّاب مثل "سيوران"؛ "أداموف"؛ "ناتالي ساروت"، وكلهم غير فرنسيين، قد كُرسوا أعلاما في تاريخ الأدب الفرنسي، بينما يبقى آخرون كبار من بلدان المشرق العربي، مع الجوائز الأدبية التي تشهد لبراعتهم، في موقع الطارئ والغريب. فأمين معلوف قد استحق جائزة غونكور إثر صدور روايته "صخرة طانيوس" الملتصقة بتاريخ المجتمع اللبناني في القرن التاسع عشر، والتي عدت تتويجاً لأعمال روائية سابقة له، تدور معظم أحداثها في الشرق.

أمين معلوف اللبناني الأول الذي ترك الفرنكوفونيةويعود معلوف مجددا إلى التاريخ اللبناني عبر سرد أصول عائلته وجذورها وانتشارها في العالم في رواية "بدايات"، لتحصد هي الأخرى "جائزة المتوسط". وهو رغم ذلك عندما يريد أن يعرّف عن نفسه بصفته كاتبا إنما يرفض بدون تردد، أن تطلق عليه صفة " الكاتب الفرنكوفوني"، إنما أديب لبناني– فرنسي، كما يرى نفسه. فلقد عبّر صراحة في مقابلة مطولة معه   بأن قال:" كلمة فرنكوفونية لا أحبّها. والأهمّ في نظري هو المضمون الذي يأتي به الكاتب. إنني أتصور أن استعمال كلمة فرنكوفونية ليس واضحاً. وعندما يقال لي إنني كاتب فرنكوفوني لا أنفعل، لا أقول لا ولا أقول نعم. هذا التعبير لا أستخدمه ولا يأتيني تلقائياً.....

في اللغة الفرنسية صفة كاتب «فرنكوفوني» أجدها تؤدّي إلى نتيجة تخالف النتيجة المقصودة منها، وهي أن تميّز بين كاتب فرنسي وكاتب غير فرنسي باللغة الفرنسية. وعوض أن يجمعوا الكتاب الذين يعبّرون بالفرنسية، يفصلون بينهم. ولهذا أعتبر أن تعبير «الفرنكوفونية» غير موفّق".

تعدد الانتماءات أمر جلي لدى كتّاب الأدب اللبناني المكتوب بالفرنسية. إذ يظهر أن وحدة الهوية أمر بالغ الصعوبة والتكيّف. فمن المراحل العديدة التي مر بها هذا الأدب بكل أطيافه وأشكاله إلى محاولات لتلبس هوية معينة يبدو الصراع بين تمثل الذات الأدبية وبين الخط الإيديدولوجي الثقافي والفكري لهؤلاء الأدباء والشعراء غير قابل للفهم إلا ضمن سياق ما بعد الكولونيالية. نقول ذلك لأن ما بين الإمبريالية والثقافة علاقات معقدة، لم تكن معها الثقافة الأوروبية أقل تعقيدا أو تشابكاً أو إشاقة نتيجة لدعمها لمعظم جوانب التجربة الإمبريالية . وإنطلاقا من هذا الفهم ونظراً لتأسيس الرؤى الثقافية لكتّاب الأدب اللبناني المكتوب بالفرنسية ذات العلاقة المتينة مع الثقافة الأوروبية – الفرنسية تحديدا- يترابط لدينا رؤية تفيد بأنه أدب متعدد الانتماءات متقلب الهوية بأبعاد مختلفة. الأهم بينها ذلك البعد المتصل بكونه أدباً ما بعد كولونيالي ينشبك فيه نفح من الاستعلاء الإمبريالي.

ففي الطابع الإستشراقي الذي اتسم به، نال قسطا وافرا من هذا النفح الإمبريالي عندما أخذ عن الكولونيالي نظرة الاستعلاء على المواطن المحلي، أخيه في المواطنية. عندما ارتكز في أدبياته على أنه مواطن أصلاني في "جبل لبنان" وأن الأكثرية التي تحيط به ليست سوى غازية لأرضه. ومن هنا كان منطلق الرؤية للأخر وتنميطه. وفي تكوين هذا المنظور تم له معاينة ثقافة وتاريخ ومجتمع وأدب خاص به، وكانت الرواية بخاصة سردا له من الخطورة الهائلة بحق. فلقد أبدت مفهوم التلاحم بين التاريخ والسرديات والتكوين الاستيهامي الخالص للمجتمع المتخيل- كما يسميه إدوارد سعيد- وتشابك المخيلة بالتاريخ والواقع بالسحر، بل انتفاء إمكانية تحديد الواقع خارج إطار التخيل والتاريخ خارج إطار السرد.

ولقد أتت هذه السرديات للأدب اللبناني المكتوب بالفرنسية، في هذا السياق، أن شكلّت عالما متماسكاً متخيلاً تحاك ضمنه الصور عن الذات وعن ماضيها. وتندغم فيه أهواء وتحيزات وافتراضات تكتسب طبيعة البديهيات ونزوعات وتكوينات عقدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يصوغها الماضي بمتجلياته وخفاياه. فإن تكوين هوية فينيقية وخلق لبنان الكبير للمسيحيين هما بهذا المعنى نتاج لسردية قومية دينية علاقتها بالتاريخ "الحقيقي" ملتبسة ومبهمة وعويصة عصية على البحث والتحديد. غير أن ذلك كله ليس بذي قيمة حقيقية لأن الذات الجماعية تعدّ – بل تؤمن دون وعي لأي انشراخ- أن ما تعيشه هو "تاريخها وتراثها وذاتها".

وبهذا المعنى يمكن القول إن القوميات عموما و"القومية اللبنانية" خصوصا هي سرديات لا أكثر . إننا بكل بساطة وبالكثير من التعقيد معا لا يمكننا أن نؤدي وظيفتنا النقدية بقول نهائي وحاسم، لمعنى هذه النصوص الأدبية اللبنانية المكتوبة بالفرنسية وهويتها. فعالمها الكولونيالي نص متموضع في العالم لا ينفصل عن التلقائية والاستمرارية لفعل الثقافة وتطوراته ومفاعليها التي الأدب والرواية واحدة من لبناتها الأكثر تبنيا وتعبيرا حيويا لواقع ما.