هل خسر الصيداويون متنزههم الوحيد على نهر الأولي؟ الاجابة الواضحة على ارض الواقع تفيد بانهم خسروه فعليا، فقد فوجئ اهل المدينة بجدار فصل إسمنتي مرتفع، بناه فؤاد السنيورة ومحمد زيدان
آمال خليل
هل خسر الصيداويون متنزههم الوحيد على نهر الأولي؟ الاجابة الواضحة على ارض الواقع تفيد بانهم خسروه فعليا، فقد فوجئ اهل المدينة بجدار فصل إسمنتي مرتفع، بناه فؤاد السنيورة ومحمد زيدان، لتسييج العقارات التي اشتروها هناك من ورثة رفيق الحريري. وبذلك حرموا الفقراء من الوصول الى منطقة «الكنايات» التي تشكّل ذاكرتهم الجماعية، كما حرموا الجميع من الوصول الى ضفة النهر الجنوبية، التي تصنّف املاكا عامّة في القانون. لقد أقفلوا الطريق الوحيدة إليها، بحجّة انها تجاور ملكهم الخاص!
توجهت الأسرة الصيداوية إلى المنطقة التي تعرف بـ«الكنايات» على نهر الأولي. هذه الاسرة كغيرها اعتادت تمضية يوم العطلة هناك منذ سنوات طويلة. رب الأسرة وزوجته وأولاده الخمسة، قصدوا الضفة الجنوبية للنهر كواحدة من المساحات المشتركة العامّة القليلة التي لا تكلفها المال الكثير. كانوا يحضرون طعامهم من المنزل ويستأجرون طاولة في إحدى الاستراحات المنتشرة على الضفة أو يفترشون الأرض تحت شجر الكينا المعمرة ويسبحون في النهر المفتوح للجميع.
إلا أنهم أمس، وما إن دخلوا في الطريق المؤدية إلى وادي أشمون، فوجئوا بوجود جدار عال وطويل، حديث البناء، يسدّ عليهم الطريق نحو النهر، ويمتد بمحاذاة الطريق العام حتى مفترق بلدة علمان. وقفوا مدهوشين وهم يشاهدون عمّالا يتسلقون على «جدار الفصل» لربطه بشبكة إنارة ليلية. الجدار المرتفع أقفل ضفة النهر أمامهم ولم يبق منفذاً للوصول إليها سوى بوابة حديدية سوداء محكمة الإقفال. لم يعد بمقدورهم سوى استراق النظر من بين قضبانها ليشاهدوا «الكنايات» ونهرها. هذه العائلة شعرت ان دفقا من ذكرياتها الممتدة منذ عقود قد سلبها إياه «محتلو الاملاك العامّة». فيما لا تزال هذه العائلة مصدومة، وصل خطيبان بالسرفيس. «وين النهر؟»، تساءل الرجل صب غضبه على باني الجدار، إذ اعتاد أن يدعو خطيبته لتناول «السندويشات» تحت الكينا كبديل وحيد عن دعوتها إلى الغداء أو العشاء في مطعم لا يملك كلفة الجلوس فيه.
ما الذي يحصل في الكنايات؟
«السنيورة عمّر الجدار وسيج حدوده التي تضم الكنايات وتقع على النهر»، هكذا يجيب رئيس بلدية صيدا، محمد السعودي.
السنيورة؟ نعم، هو نفسه، رئيس مجلس الوزراء السابق ووزير المال الذي امضى 15 سنة في موقع الحارس للمال العام!
ابن صيدا، ونائبها، اشترى مع شريكه رجل الأعمال الصيداوي المعروف، محمد زيدان، عقارات هناك من ورثة الرئيس رفيق الحريري الصيداوي أيضاً. هذه العقارات تمتد حتى ضفة نهر الأولي الجنوبية، وعليها عدد من اشجار الكينا المعمرة، التي منحت المنطقة اسمها: «الكينايات».
بدأت «الكينايات» تستقطب الصيداويين منذ الخمسينيات. استحدثوا أكشاكاً صغيرة لبيع المأكولات والحلويات للمتنزهين. الأكشاك تحولت إلى مقاه تمددت على نحو تدريجي، لا سيما إبان الحرب الأهلية، حتى سجلت تعديات كبيرة على الأملاك النهرية العامة منها تشييد جسرين حديديين يربطان بين ضفتي النهر. حتى ذلك الحين، كانت الضفة لا تزال ضمن الأملاك النهرية العامة. وبعد الحرب، اشترى الحريري، من آل سرور من بلدة علمان، العقارات المجاورة للضفة من جهة الشمال والمحاذية لطريق صيدا ــ علمان ــ جون لجهة الجنوب. في وقت لاحق، بدأ يتردد أن عقارات الحريري تصل حتى مياه النهر. حالياً بحسب مصادر مواكبة «تضم العقارات كل الأراضي الزراعية المتصلة بالكنايات حتى الضفة وأدرجت في الدوائر العقارية كعقار واحد متصل!». هذا العقار الذي يحمل الرقم 264، لا يرد في اللائحة التي وزعتها البلدية للعقارات التي سيشملها مشروع الضم والفرز، على الرغم من أنه يتصدرها، كونه يقع في أول المنطقة المستهدفة بدءاً من نهر الأولي حتى دوار إيليا. في الوقت الذي يرد فيه ذكر عقارات 265 و267... محيط الكنايات أصبح حريرياً أيضاً، اذ اشترى الحريري ايضا بستاناً مقابلاً للضفة، من آل صاصي، يفصل الطريق بينه وبين الكنايات، وقد سجله باسم نجله، بهاء الدين. وأدرج في الدوائر العقارية تحت الرقم 292، بعد ان ضمّ اليه العقار رقم 319 المصنف «طليق» في السجل العقاري من دون تعليل السبب.
السنيورة وزيدان اشتريا العقارات الثلاثة، وقررا تسييجها ومحاصرتها بجدار يمنع اهل صيدا ومحيطها من الوصول الى النهر وضفته التي يصنّفها القانون كاملاك عامّة للدولة.
منتجع سياحي محل «الكنايات»
طوال السنوات الماضية، تصرف أصحاب المقاهي على أنهم جالسون في ملك الحريري الذي «تكرّم علينا وسمح لنا بالبقاء في أرضه والترزق» يقول أحدهم. لكن ما الذي أخرجهم من هذا النعيم؟ يعتبر السعودي إلى أن الحريري «سمح للمواطنين بارتياد الكنايات كالمعتاد ولأصحاب المقاهي بالبقاء». لكن السنيورة لم يحذُ حذو الرفيق. فما إن تملك العقار مع شريكه زيدان، حتى أزال التعديات كافة وأخرج أصحاب المقاهي وسيج النهر، مانعاً أياً كان من الوصول اليه. وكشف السعودي أن وفداً من أصحاب المقاهي المتضررين زار النائبة بهية الحريري لرفع شكواهم والمطالبة بالتعويضات. الأخيرة لفتت نظرهم إلى أنهم كانوا يشغلون الأملاك العامة ولا يحق لهم بالتعويض. أحد أصحاب المقاهي، قال في اتصال مع «الأخبار» إنه لا يعرف تفاصيل ما حصل ما عدا أن «زيدان اشترى العقار من آل الحريري وطردنا من الكنايات من دون تعويض لأنها أملاك عامة، وأنه ينوي بناء منتجع سياحي في المكان في غضون عامين أو ثلاثة». فما هي حقيقة تلك الرواية المليئة بالتناقضات وهل ضفة النهر هي ملك عام عندما يتعلق الامر باخراج أصحاب المقاهي والمواطنين وتصبح ملكاً خاصاً عندما يريد السنيورة وزيدان بناء منتجع سياحي؟
اثار تشييد الجدار وإزالة المقاهي اعتراضاً واسعا، تُرجم بكتابة شعارات على الجدار المستحدث، سرعان ما أزيلت، تقول هذه الشعارات: «لا لحيتان المال» و«لا للمشاريع المشبوهة» و«نهر الأولي والكنايات ملك لله والدولة، فكيف أصبحت ملكاً لبيت الحريري وجماعتهم؟».
ليبحث الناس عن منفذ آخر!
في اتصال مع «الأخبار»، أوضح بدر زيدان، نجل محمد زيدان، ومدير في قسم العقارات في شركة والده: «أننا لم نخرج أحداً، بل اشترينا العقار خالياً من المقاهي التي أزالها مالكوه السابقون وأخرجوا أصحابها». وإذ وافق على ان ضفة النهر، هي ملك عام تحت وصاية وزارة الطاقة والمياه، دافع عن خطوتهم بتشييد الجدار الذي أقفل طريق العموم إليها. قال: «يحق لنا بناء الجدار وفعل أي شيء في ملكنا الذي يقع فوق ضفة النهر. لكننا اضطررنا إلى بناء الجدار الذي شيدناه في البداية قليل الارتفاع ومسيجاً بأسلاك شائكة. إلا أننا زدنا في ارتفاعه بعد أن دخل مجهولون إلى العقار وقصوا الأسلاك. وسبب دخولهم فعل أشياء منافية للآداب العامة». من هنا، يطلب زيدان ألا يعترض الصيداويون، بل أن يشكروهم على تطهير منطقة الكنايات من الأفعال الخارجة عن القانون والآداب التي كانت ترتكب في الزوايا وتحت الأشجار. واستعرض محاولات شركة والده تأهيل المكان بدءاً من التنسيق مع وزارة الزراعة للعناية بشجر الكينا التي أهملت وتعرض بعضها للقطع والحرق، إلى جانب إزالة التعديات على الملك العام من الإنشاءات الخراسانية التي خلفها اصحاب بعض المقاهي. هل ستقتصر لمساتهم في المكان عند هذا الحد؟ يجيب بدر زيدان: «سوف أكون ممتناً لوالدي في حال قرر إنشاء مشروع سياحي متميز على الضفة، سيكون شيئاً جيداً لصيدا».
ربما نسي الشاب أن الصيداويين يسيحون على الضفة قبل ولادته بسنوات طويلة وبشكل مجاني وليسوا بحاجة إلى منتجع ليتنزهوا لقاء بدل مالي يفوق قدرة الكثيرين منهم. ماذا يفعل هؤلاء؟ يردّ زيدان بنبرة متعالية: «يحق لهم الوصول إلى الضفة والسباحة في النهر، لكن ليس من ملكي الخاص. يمكنهم الوصول من العقارات الخاصة المجاورة أو يفتشون عن أي منفذ».
تعد على الملك العام
ولكنْ هناك تعد على الأملاك العامة؟ وليس صاحب الملك الخاص حرّا الى هذه الحدود بحسب القانون.
مصدر في مديرية الموارد المائية والكهربائية في وزارة الطاقة والمياه، أكد لـ«الأخبار» أن المالك يحق له منع أي كان من دخول عقاره، لكن لا يحق له تشييد جدار يفصل بين الطريق وبين الضفة (كلاهما ملك عام) ويحجب الرؤية عن النهر. والجدار نفسه يستلزم أخذ ترخيص من الوزارة لتوافق عليه اذا كان لا يتسبب بتعد على مجرى النهر أو يضر بمراحل الفيض النهري والسيول التي قد تحصل في الشتاء. المصدر نفسه أكد أن المالك لم يتقدم من الوزارة بطلب ترخيص، فهل ناله من بلدية صيدا التي لا تملك الصلاحية في ذلك؟. يرجح السعودي أن مهندس البلدية قد منح ترخيص الجدار!
بمعزل عن هذه النقطة المحورية. يحاول السعودي ان يقلل من اهمية التعدّي على ذاكرة الصيداويين في المنطقة وفي الاملاك العامّة المتمثّلة بضفة النهر، اذ قال ان مشروع «الضم والفرز الجاري تنفيذه ربما يحررها من الملكية الخاصة، ويصنفها مساحة خضراء». لكن السعودي اوضح ان ذلك قد يحصل باعطاء السنيورة وزيدان عقاراً بديلاً عن «الكنايات» بالقيمة نفسها في منطقة أخرى.
السؤال المطروح الآن: اي عقار سيكون هو البديل؟ هل سيكون على الاملاك العامّة المستحدثة من ردم البحر في صيدا؟
القلقون لديهم اسباب كثيرة للقلق.
ريبة من مشروع الضم والفرز
ما يحصل في الكنايات، أثار ريبة عدد من مالكي العقارات التي تدخل في مشروع الضم والفرز الجديد لمنطقة شرق الوسطاني وحي الدكرمان في صيدا، الذي أقره المجلس الأعلى للتنظيم المدني. فمنطقة الكنايات تدخل أيضاً ضمن المخطط التوجيهي على غرار عقارات أخرى كان يملكها الحريري واشتراها السنيورة وزيدان نفسهما. من هنا برز التخوف من «ازدواجية» في ضم وفرز العقارات وفقاً لنفوذ مالكيها. على سبيل المثال، هناك ثلاثة عقارات في حي الدكرمان مصنفة «طليق» لكنها لم تضم على غرار العقار 319 الى العقارات المجاورة لها!
السعودي حاول تبديد المخاوف، واصفاً المشروع بأنه «هدية ثمينة للصيداويين لا تقل أهمية عن معالجة جبل النفايات». ولفت إلى أن المشروع الذي نفذ سابقاً في عام 1990، جاء بعد شكوى تلقاها من مالكة عقار في الوسطاني عن تحوله إلى ما يشبه الوقف ولا تستطيع التصرف بها بيعاً أو استثماراً بسبب دخوله ضمن التخطيط لاستكمال أوتوستراد بيروت الناقورة على خط سكة الحديد. وفيما لم ينفذ المخطط أو تستملك العقارات الواقعة على جانبي السكة، كان من الضروري تسهيل أمور مالكي العقارات، الذين يزيد عددهم على 200، وتبلغ مساحاتها 1300 دونم، أي 40 في المئة من مساحة صيدا الإجمالية. وأشار إلى أن هذا الواقع قلص فرص الاستثمار. وفي هذا الإطار، خلال العام الجاري أصدرت بلدية صيدا 17 رخصة من بينها ثلاث فقط للبناء. علماً بأن تحرير العقارات رفع سعرها ما إن صدر قرار الضم والفرز. أما بالنسبة للكنايات، فقد طمأن السعودي إلى أن الضم والفرز ربما يحررها من الملكية الخاصة ويصنفها مساحة خضراء ويعطي السنيورة وزيدان عقاراً بديلاً عنها بنفس القيمة في منطقة أخرى. فالمشروع سوف يعيد توزيع الأراضي ويقتسم منها 25 في المئة لصالح المساحات الخضراء. وربما يقع الاختيار على عقار الكنايات لتصنيفه كمساحة خضراء. عندها، تحدد قيمته ويعطى مالكه عقاراً بديلاً بنفس القيمة.
لكن الضم والفرز يستلزم أشهراً عدة. دعت البلدية مديري كليات الهندسة إلى تكليف من يرغب من طلابهم بوضع تصوراتهم للمخطط التوجيهي المرتقب. وأعطيت لهم مهلة حتى شهر شباط المقبل. حينها بحسب السعودي، يتم اختيار التصور الأنسب ويكلف استشاري للبدء بتنفيذه تشرف على أعماله وزارة الأشغال والدوائر العقارية والبلدية.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه