الذين كانوا يعيبون علينا الوقوف بوجه اسرائيل ويروننا نرمي انفسنا بالتهلكة..صاروا يفتخرون ان من فجر المبنى هو من ابناء قريتهم. ومما أسعدنا وقتها, انه بسبب أحمد اصبح الاهالي يتقبلون ذهاب اولادهم للقتال
كريماً كان تشرين في ذاك العام..أغدق على جفاف أرضنا الجنوبية بسخاء، ولتشرين مع هذه المنطقة حكاية مختلفة، تروي فصولها تربة لطالما عانت العطش.. ما كان طَّلُّ* تشرين حين استلم مقاليد الطبيعة وقتها هادئاً، بل كان سيلاً حمل روح ثورتنا..
وأجبر المشرذمين من الأعداء على التلطي هناك..في ذاك المبنى، ولكأن المطر أراد أن يشارك ولو تكتيكياً معك يا أحمد..أنت الذي لطالما شاركته في بساطة قطراته على مدى سنينك القليلة، كما يذكر عنك كل من عرفك..
إعداد: خديجة شكر
فنحن كيفما سألنا عن أحمد تأتينا إجاباتٌ متشابهة، فجميع من عرف أحمد كان يلحظ ان ذاك الشاب كان في جهاده، كما في طفولته، ترابي البساطة، سريع الحفظ، كتوماً، خفيف الظل، لا تحتاج الى التكلف في التعامل معه، سهل الإقناع والإقتناع، مخلص، جريء، ذا ثقة بنفسه في أي عمل يود القيام به، لم يكن يرضَى بأن يتعدى عليه أحد،والأهم... كان دائم التبسم..
ولأنه لا يمكننا الدخول في الحديث عن الحادي عشر من تشرين الثاني (يوم الشهيد) دون التوقف عند الفاتح لعهد الاستشهاديين(أحمد جعفر قصير)، كان لموقع المنار جولة عامة في قرية دير قانون النهر - مسقط رأس الشهيد- حيث التقينا إضافة الى إمام مسجد البلدة،والد ووالدة الشهيد، تلك الوالدة التي روت لنا كيف سعت بكل ما أوتيت هي والوالد من إمكانات بحثاً عن ولدهما، بعدما قيل لهما ان جهة معادية قامت بخطفه...تخبرنا الوالدة انها طوال سنتين كانت تبتاع ثياباً جديدةً لولدها تمهيداً لعودته..او ربما إغراءاً لقدرٍ ابعده عنها، لكنها تتذكر كيف ذهبت عام 1984 لمنزل احد شبان القرية لتعطيه كل ما جمعته من ثياب وتخبر الشاب - الذي سألها متفاجأً لم لا تحتفظ بهم لولدها- انها قطعت الأمل من رؤية ابنها مجددا.."احمد ما بقى يرجع.. ما عاد رح نشوفو".
هذه الام التي قدمت آخر شهيد - "حتى الآن" بحسب تعبيرها - في حرب تموز، تذكر بفخر تلك المفارقة بين وداعها لربيع يوم خروجه من المنزل،حيث استيقظت باكراً لتضمه وتقبله وتخبره بشعورها انها لن تراه مجدداً..عكس احمد الذي مازحها قبل ان يمضي لكأنه باقٍ،حتى أنه سألها ان كان عليه ان يحضر شيئاً حين يعود..وذاك لم يحصل نتيجة خلل في علاقتها به كوالدة، بل لأنها - كما سائر اهالي القرى،على حد قولها- لم تكن تتوقع ان يتجرأ احد ويفعل ما فعله شبلها بذاك العدو الذي لطالما قيل انه لا يهزم.
يضيف صديق الشهيد الى هذه المفارقة سبباً آخراً ألا وهو ان أحمد كان يتقن إخفاء حقيقة امره حتى عن اهله، فهو يرى ان احمد كان مسكوبا على حفظ الاسرار، بالرغم من غيابها في حياته الشخصية..لكن حين كان الامر يتعلق بالعمل، كان له القدرة على الاخفاء والتعاطي دون اعطاء ادنى اشارة بأنه يخطط او يعلم بما يخطط له.هذه السرية هي التي جعلت القيادة مطمئنة حتى حين كان احمد يتنقل من والى بيروت. فقد كان مدركا لأهمية تفرده بالاطلاع على كافة جوانب العملية، لدرجة انه اخفى حتى عن الراصد موعد العملية، ففيما كان الاخير يقوم بمراقبة المبنى بشكل طبيعي كما هو الحال في الايام التي سبقت العملية، واذ به يتفاجأ بانهياره... فاحمد وان كان يعيش وقتها في وطن مستعبد، الا انه كان مصداقا للقول: صدور الاحرار قبور الاسرار.
يؤكد لنا والد الشهيد ايضا على هذه السمة في ولده فهو يتذكر كيف انه وطوال الفترة التي سبقت استشهاده كان يخرج ليلا ويعود صباحا متحججا معظم الاوقات باللعب بالكرة مع الاصدقاء، وكان حين يعود يكلمهم ويمازحهم ويتصرف كأنه ما فعل شيئا غريبا في الليلة السابقة..
مع العلم بأن أحمد ،كما أخبرنا الشيخ ابراهيم قصير(امام مسجد بلدة دير قانون النهر) لم يكن يفوت فرصة في الاجتماع مع الشباب كيفما استطاع لمهاجمة قوات العدو او استفزازهم ،وقد عرف عنه بين الاصدقاء انه كان يقلب اليافطات التي تدل على الطرقات لتضييع الجيش الاسرائيلي،حتى باتت تلك علامة تدل على مروره..
يذكر الشيخ ابراهيم جيدا كيف ان شجاعة الشهيد كانت تجعل البعض يظن انه متهوراً بينما الحقيقة هي ان اندفاعه كان نابعاً من ثقة بالله وبنفسه وهدفه.. وذلك لم يكن مستغربا عن شاب يروي والده كيف بادر الى شتم الاسرائيلين ورميهم بالحجارة دون ادنى خوف يوم وصوله للمرة الاولى الى صور على الرغم من كونه اعزلا مجردا من اي سلاح...احمد لم يكن يفوت موقفا دون ان يظهر امتعاضه من وقاحة جيش العدو في التواجد بين اهله وفي قريته..تخبرنا الوالدة كيف انها تفاجأت ذات يوم بعودة احمد باكرا،ليخبرها ان اسرائيليا حضر اليه راغبا بالشراء من دكانهم، فما كان من احمد الا ان نهره، واقفل الدكان عائدا الى المنزل ليقول لوالدته: "ايه بسكر الدكان عطول ولا ببيع لاسرائيلي"..
"بس انا ها...مش حدا غيري"
تكاد تكون تلك الجملة الوحيدة الجدية الملامح في حديث أحمد يوم دلل للقيادة على موقع العملية مقترحا تفجيره، يروي لنا من تبقى من رفاق أحمد كيف انه وبتلقائية فريدة من نوعها اقترح هدف العملية على القيادة، وحتى قبل دراسة امكانية وكيفية تنفيذها كان رأيه: "ما هياهن هنهله.. منشتغل عهول..بسيطة، مندور السيارة ومنفجرها فيهن" وقتها أضاف بحزم:"بس انا ها، مش حدا غيري.." فاحمد، يضيف صديقه، لم يكن يستصعب شيئا، وعلى الرغم من انه لم يكن له انتماء سابق للعمل لا العسكري ولا الامني الا اننا كنا نشعر انه مجبول على ما يقوم به، كان يتعامل مع الامور ببساطة وثقة وهذا كان مصدر ارتياح لجميع فريق العمل..عند حصول اي اجراءات جديدة كان ينظر اليها بايجابية وحتى حين اشتد المطر يوم العملية ابدينا تخوفنا من تاثير ذلك على الخطة..الا ان احمد بادر للقول: "عم تشتي..طب خير عادي تشتي..مش في مساحات بالسيارة؟"
من بصيرة احمد انه كان قد دلل على رفاق له قبل استشهاده وكان يقول للقيادة اعتمدوا على فلان، او فلان سيكون مميزا بهذا الجانب، حتى انه كان يقول فلان سيلحقني سريعا، الخ.. وبعد استشهاده، تحققت نبؤات احمد وثبت مع مرور الوقت ان من اشار اليهم كانوا بالفعل كما وصفهم.
احمد كان حنونا جداً، كان قلقا من ردة فعل الاسرائيلي تجاه اهله وباقي اهالي القرية حين يذاع نبأ قيامه بالعملية، مع ذلك لم يطلب اخفاء هويته بعد استشهاده، الا ان القيادة تحفظت عليها لعلمها بهذه الخطورة على اهل الشهيد، وليس خوفا من ردة فعلهم، اذ ان احمد كان لديه اطمئنان تام بأنهم سيكونون متصبرين بحال علموا بكيفية استشهاده..
وفعلا..حين سألت ذوي الشهيد عن رد فعلهم وشعورهم يوم علموا بنبأ استشهاده، بادرت الوالدة للقول:" يوم 11-11 هو من اجمل ايام حياتي, لدي 3 شهداء اشعر بسببهم ان عمري لم يذهب هدرا". اما الوالد فقد طالعتني في وجهه نظرات العز والافتخار وسمعت منه كل انواع الحمد والثناء لله عز وجل على شهادة ولده التي يعتبرها من أجمل ما انعم الله عليه: " لقد رفع رأسنا بما قام به, حين قالوا انه من نفذ العملية..ارتاح قلبي، يومها لم اقبل ان يعزيني احد قلت لهم باركوا لي باحمد" يبتسم الحاج ويقول لي: "هل تصدقين يا ابنتي، اشعر ان 11-11 هو يوم ولادتي, كنت قبل معرفتي بخبر استشهاده دائم التوتر والخوف من ان يكون ولدي قد مات سدى في غير هذا النهج...حين علمت برد قلبي وحمدت ربي على نعمته بأن منّ علي واختار ولدي شهيدا". تتسع ابتسامة الحاج جعفر, وكأنه تذكر فجأة شيئا عزيزا عليه, ليضيف بزهو "الجميل في هذا اليوم هو ان الاسرائيلي يراه يوم نكسة ومصيبة, ونحن بالمقابل نحتفل به لأنه يوم عز وفرح وافتخار .."
أما شيخ القرية فيستذكر الجو الاحتفالي الذي تلقت به دير قانون النهر بكل اطيافها خبر فارسها الشجاع, حتى اولئك الجبناء- يروي الشيخ- الذين كانوا يعيبون علينا الوقوف بوجه اسرائيل ويروننا نرمي انفسنا بالتهلكة..صاروا يفتخرون ان من فجر المبنى هو من ابناء قريتهم. ومما أسعدنا وقتها, انه بسبب أحمد اصبح الكثير من الاهالي يتقبلون فكرة ذهاب اولادهم لقتال اسرائيل, لقد كان احمد دليلا على اننا وبقدرات بسيطة يمكن ان نحقق المستحيل ,لقد شجع كل من بعده للتقدم.."
فهنيئا لنا بهذا الطَّلّ..هنيئا لنا بكل الامطار التي تلته..وهنيئا ما اثمرته أرضنا بعد ارتوائها..
*الطَّلُّ: هو اول مَطَر، يكون عادة خفيفاً وأثره قليلٌ