28-11-2024 11:47 AM بتوقيت القدس المحتلة

يوميات مخطوفي أعزاز بين المعسكر.. والحرية

يوميات مخطوفي أعزاز بين المعسكر.. والحرية

ما إن انطلقت حافلتا حملتي «الصدر» و«بدر» من بساتين أعزاز باتجاه حلب، وعلى متنهما النساء فقط، حتى خاض قائد «لواء عاصفة الشمال» المدعو «أبو إبراهيم» ومعاونوه سلسلة تحقيقات مع اللبنانيين الـ 11

 

سعدى علوه

ما إن انطلقت حافلتا حملتي «الصدر» و«بدر» من بساتين أعزاز باتجاه حلب، وعلى متنهما النساء فقط، حتى خاض قائد «لواء عاصفة الشمال» المدعو «أبو إبراهيم» ومعاونوه سلسلة تحقيقات مع اللبنانيين الـ 11 تركزت على علاقتهم بإيران ومن ينتمي منهم إلى «حزب اللات»، كما كانوا يسمون «حزب الله».

وضع الرجال الـ11 كل ما يحملونه على إحدى الطاولات، وقال أحد المسلحين لـ«ابو ابراهيم» بعد أن دقق بالأوراق: «يبدو أن لا علاقة لهم بأي شيء، فلنطلق سراحهم»، ولكن قائد «اللواء» أصر على التوقيف.

طمأن «أبو إبراهيم» الرجال، ولكنه طلب نقلهم مكبلي الأيدي، فيما وضعوا عباس شعيب وعلي عباس في صندوق سيارة. كان السبب اعتقادهم أن شعيب هو إبن شقيق السيد حسن نصرالله.

خمس دقائق فقط بالسيارة ووجدوا أنفسهم في معسكر «لواء عاصفة الشمال». كان المعسكر مخصصاً للتدريب وقريباً جداً من الحدود التركية (مئات الأمتار).

وضع المخطوفون الـ11 في خيمة عسكرية لا تزيد مساحتها عن خمسة أمتار مربعة. زُودوا بفرشتين إسفنجيتين فقط، فصاروا يضعون رؤوسهم عليهما وأجسادهم على التراب لكي يناموا. يلاحظ علي حسن زغيب وعوض إبراهيم ان المعسكر كان فقيراً. لم يكن لديهم حينها عتاد كثير، ولا تجهيزات. «العتاد والمؤونة والمال والسلاح وصلت بعد نحو شهرين من عملية الخطف».

أخضع مسؤول المعسكر «أبو شوقي»، المخطوفين لتحقيق «سطحي». اتصل المحقق بشخص في لبنان يدعى «أبو عبدو» وراح يدقق معه في تفاصيل تتعلق بأقارب كل فرد من الموجودين.

هل خفتم؟ يجيب أحد الرجال إنهم كانوا «يهتمون بتأمين كامل احتياجاتنا من الدواء إلى الطعام واللباس، لكن ظروف المعسكر كانت قاسية طبعاً». من هناك، سمع اللبنانيون أصوات الأطفال السوريين في أحد مخيمات اللجوء داخل الأراضي التركية.

كان الخاطفون ينقلونهم، مرة كل 15 يوماً، إلى غرفة قريبة من المعسكر ليستحموا ويرتاحوا قليلاً، خاصة أن البعوض كان ينهكهم ليلا والذباب نهاراً. لا ماء ولا كهرباء، السهر مسموح لكن على ضوء «القداحات»، فيما تصل درجات الحرارة إلى 42 درجة مئوية. يتيممون بالتراب للصلاة عندما تنفد المياه، وينبطحون أرضاً كلما ازدادت وتيرة زخات الرصاص في محيط المعسكر.

يقول عوض ابراهيم إن الخاطفين وضعوا «بوكلين وجرافة في محيط خيمتهم لكي يحموهم من رصاص قد يبلغ خيمتهم. تعرفوا الى مخطوف روسي في إحدى الخيم. علموا به عندما حاول الهرب فأطلقوا عليه النار وأصابوه في قدمه.

كان حارسهم الشخصي يلقب بـ«فرعون»، وكانت علاقتهم به جيدة. يؤمن احتياجاتهم، وفق مختار بلدة يونين علي زغيب وعوض ابراهيم، «كنا نطبخ الطعام على موقدة قرب الخيمة، أما الغاز الصغير فخصصناه للشاي والقهوة. هم يأخذون ملابسنا ويغسلونها ثم يعيدونها.. وأحياناً كنا نغسل ثيابنا بأنفسنا».

من علب الدخان قص اللبنانيون أوراقاً ورسموا «الكبّة والديناري والبستوني والسباتي» للعب «الشدة»، وصار عندهم ما يتسلون به ليلاً. لكن الأوراق كانت تتغير باستمرار بعدما يمزقها الشباب أثناء اللعب على طريقة «لاعبي الورق وجمعاتهم». لم يكن لديهم أي صلة بالعالم إلا ما يقوله الخاطفون لهم.

في أحد الأيام، ترك «فرعون» هاتفه وسلاحه بينهم. أمسك عباس شعيب بالهاتف وأرسل رسالة للحاجة حياة وطلب منها ألا ترد على الرسالة. لكن الحاجة لم تصدق وردت تسأل عن كيفية تأكدها من هوية المتصل. وبين أخذ ورد، لمح المخطوفون «فرعون» يعود من بعيد. فحمل شعيب الهاتف وترك الخيمة قبل أن تعاود الحاجة حياة الاتصال وينكشف الأمر.

عندما اكتشف «فرعون» غياب شعيب قامت الدنيا ولم تقعد. يومها سمع الزوار بعض الكلمات المهينة لهم. نقلوهم إلى مكتب «البعث» في أعزاز حيث مكتب «أبو ابراهيم». هناك، وبعد مضي بعض الوقت قال لهم «أبو إبراهيم»: «لدي مفاجأة لكم». دخل عباس شعيب من الباب. كانوا قد عثروا عليه على بعد كيلومترات عدة من المعسكر.

في مكتب «أبو ابراهيم» أجروا اتصالهم الأول بعائلاتهم من خط هاتفه التركي. وهناك أيضاً التقوا ببعض أفراد عائلاتهم الذين رافقوا رحلة الإعلام الشهيرة لزيارتهم.

يروي المختار زغيب ان اللقاء كان مؤثراً جداً، «حتى أن الإعلاميين بكوا أكثر منا». في هذه الفترة التي استمرت ثلاثة عشر يوما، اطلق سراح حسين عمر (أبو علي) ولاحقا عوض ابراهيم.

بعد العودة من أعزاز إلى المعسكر، نقل المخطوفون إلى غرفة في البساتين المحاذية للمعسكر، بسبب اشتداد المعارك من حولهم. اقفلوا عليهم على مدى ثلاثة أشهر باب الغرفة ونافذتها ببابين حديديين. صارت ظروف العيش في الغرفة أقسى من المعسكر. اتخذ كل منهم جزءا من فرشته الإسفنجية وسادة ينام عليها بعد أن لفها بقطعة من ملابسه. طوال تلك الفترة كانوا بحاجة الى إذن للخروج. ولسبب مجهول، تم نقلهم من قرب المعسكر إلى غرفة في مبنى نقطة الحدود في معبر بوابة السلام، بين تركيا وسوريا، بعد سقوطه بيد المسلحين. كانت الغرفة خالية من أي منفذ سوى «منور» بعرض لا يتجاوز العشرين سنتيمتراً قرب السقف. قضوا عيد الأضحى في هذه الغرفة، وجاءهم «الشيخ حسون» يوم العيد للصلاة جماعة: «صلينا متابعة معه». المتابعة تعني أن كل واحد منهم تلا صلاته وحده.

يومها شكوا لـ«الشيخ حسون» ظروف الحياة القاسية فيها حيث كانوا يطهون طعامهم في المكان الذي استحدث على عجل كمرحاض. كانت الغرفة الصغيرة سجناً بكل معنى الكلمة. ولكن المسؤولين عن أمنهم أوضحوا لهم أنها «أكثر أمناً لهم من أي مكان أخر حالياً، وأن أبو إبراهيم يضع عائلته في المبنى نفسه».

بعد فترة قصيرة، تم نقلهم إلى غرفة في مبنى مؤلف من طابقين في أعزاز. كانت الغرفة مخصصة لطيور الحمام وكان الريش ما يزال عالقاً في الجدران الخالية من أية نافذة. وكانت المنازل من حولهم شبه فارغة بعدما نزح سكان البلدة عنها. اقتصرت تهوئة الغرفة على إنبوب بعرض عشرة سنتيمترات يخرج الهواء من الغرفة على طريقة «الشفاط».

كان «فرعون» حارسهم الشخصي الذي رافقهم منذ اللحظة الأولى لوصولهم إلى المعسكر، يسمح لهم بالنزول واحداً تلو الآخر إلى الطابق السفلي للاستحمام كل ستة أيام. وفي طريقهم من مكان الاستحمام وإليه، كانوا يلمحون الطريق العام.

هنا في أعزاز، تدنى مستوى الخدمة وقلت كميات الأكل والأدوية والدخان وسائر الاحتياجات. افتقدوا للشوكولا والبسكويت والحليب. بدا أن ذلك نتيجة اشتداد الحصار على المدينة. من غرفة أعزاز، نقل الزوار إلى غرفة صغيرة جداً في أسفل منزل شخص من آل العرعور.. هناك تأكد لهم مقتل «أبو إبراهيم» لكن المسلحين نفوا ذلك، وقالوا لهم إنه أصيب إصابة خطرة وحلً مكانه سمير العموري.

يقول زغيب إن وضعهم انقلب مع مقتل «أبو إبراهيم». وفي هذه الغرفة تحديداً، علموا للمرة الأولى بالمفاوضات التي تجري لإطلاق سراحهم. كان ذلك في أواخر آذار 2013، وقال لهم «فرعون» إنه قد يتعذر عليه أن يكذب عليهم كذبة الأول من نيسان «لأنكم بتكونوا رجعتو على بلدكم».

مضى نيسان، ثم أيار وحزيران وهم في الغرفة نفسها. في بداية الصيف المنصرم أعيدوا الى غرفة نظيفة وكبيرة في المعسكر. كانت أصوات القذائف تحاصرهم من كل حدب وصوب. في أحد الأيام، جاء الخاطفون وصوروهم بالفيديو. قالوا لهم «يريدون دليلاً على أنكم ما زلتم أحياء من أجل المفاوضات». في المعسكر، مرّ عليهم رمضان الثاني ولكنه كان صعباً بالمقارنة مع الأول. نضبت المواد الغذائية واقتصرت وجبتهم على العدس والأرز من دون زيت. أتوهم ببعض الخضار أحياناً وذاقوا اللحوم مرتين فقط. برر الخاطفون ذلك بالحصار المفروض عليهم. في هذه الفترة، غادرهم «فرعون» الى جهة مجهولة.

ساءت الأوضاع ولم يعد باب الغرفة يفتح إلا مرة كل أربعة أيام. حولوا احد قمصان الشباب إلى كيس يصفون فيه اللبن إلى لبنة. صعبت أحوالهم من حزيران حتى تاريخ الإفراج عنهم. أيام قاسية لم يكسر مرارتها سوى خبر اختطاف الطياريْن التركييْن الذي بثته القنوات التلفزيونية اللبنانية. «شعرت أنني تحت عرش الله بقليل وارتفعت معنوياتنا» يقول المختار زغيب.

استحدث المخطوفون مفكرة جديدة، بعد خطف الطياريْن. هي رزنامة العد العكسي للحرية.

قبل أسبوع من نقلهم من المعسكر، طلبوا منهم توضيب حاجياتهم. نقلوا زغيب وشعيب الى المعبر ثم عادوا أدراجهم إلى المعسكر بعدما ورد اتصال يجمد عملية التسليم. سمعوا أن «داعش» منحت «لواء عاصفة الشمال» مهلة 48 ساعة لتسليم أسلحتهم. علموا لاحقاً أن «داعش» أسرت «فرعون» وقتلت عدداً من عناصر «اللواء» في معركة أعزاز. في اليوم التالي، نقلوا برفقة «الشيخ منير» الى غرفة عند معبر باب السلام. أمضى المخطوفون سبعة أيام في هذه الغرفة، وهناك علموا أن «داعش» قد سيطرت على المعسكر الذي كانوا يقيمون فيه. «في يوم الفرج» كما يسمونه، طلب منهم ارتداء أقنعة. اقتادهم المسلحون الى سيارات كانت بانتظارهم عند رصيف المعبر وانطلقت بهم إلى حيث لا يدرون.

يقول زغيب «لم يسمح لنا بإزالة الأقنعة عن وجوهنا إلا عندما صرنا مع الأمن التركي». هناك أدركوا أنهم صاروا في عهدة الأتراك وعلى مقربة من الحرية.. و«هناك أيضا صلينا ركعتي الفجر شكراً لله». رحب «أبو ياسين»، من الخارجية التركية بهم وتم نقلهم إلى أضنة. في هذه المدينة، اشترى الأتراك لهم ملابس جديدة، وتوجهوا بعدها الى اسطنبول ولكن لم يسمح لهم بأي اتصال هاتفي. ساح المخطوفون على المواقع الأثرية في اسطنبول بحراسة الأمن التركي، إلى أن حان موعد انتقالهم إلى المطار حيث التقوا اللواء عباس ابراهيم قبل صعودهم إلى الطائرة بساعات قليلة. وهناك نالوا من ابراهيم تعهداً بالإفراج عن الشباب المتهمين بخطف الطياريْن التركييْن «وإلا كنا كلنا مش رح نرجع» وفق زغيب.

موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه