نضجت الظروف السياسية في الجانبين وبات الغرب أقرب الى الإقرار بحقوق ايران النووية، لكن هناك متضررون من اي اتفاق حول هذا الموضوع
علي عبادي
سارعت بعض وسائل الاعلام الغربية والعربية الى اطلاق وصف "الفشل" على اجتماع وزراء خارجية ايران والدول الخمس الكبرى+ ألمانيا في جنيف. هذه المسارعة بُنيت على توقعات بحصول تقدم سريع ومفاجئ في المفاوضات، انطلاقا من بعض التصريحات ومن حضور وزراء الخارجية للمباحثات، وايضاً بُنيت على رهانات وتمنيات من بعض الاطراف المتضررة بأن تنتهي الى فشل يُبقي الطريق مسدودا وحصار ايران قائما. وأعطى الاميركيون انطباعاً لا لـُبس فيه بأن اتفاقاً على اطار مبادئ بات أمراً ممكناً لتسوية الخلاف التاريخي حول البرنامج النووي الايراني. خلاف يجري العمل على تنظيمه في صورة تختلف قليلا عن صورة الحصار والعقوبات التي باتت من الماضي.
لكن ثمة قوة دافعة كبيرة تهدف الى إنجاز الاتفاق، بسبب حاجة الطرفين الأساسيين المعنيين: الولايات المتحدة والجمهورية الاسلامية الى فتح صفحة جديدة من الصراع لم تتضح معالمها بعد بين الجبار الدولي والجبار الاقليمي، لا سيما ان المواجهة الطويلة قد استنزفت من جهود الطرفين الكثير، برغم ان ايران نجحت في فرض نفسها وبرنامجها النووي متحملة أثماناً باهظة، كما طرأت تغيرات على خارطة القوى المحلية والاقليمية والدولية تتطلب إعادة مراجعة وتموضع لدى الجانبين.
برغم المشاكسة التي أثارها وزير خارجية فرنسا على طاولة مفاوضات جنيف، ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو من خارجها، وُضع النزال حول البرنامج النووي الايراني على سكة الاتفاق الذي جاء حصيلة سنوات من التفاوض المرير بين ايران والدول الست وتطلب آلاف الساعات من الجلسات، تمسكَ فيها الجانب الايراني بحقه في امتلاك دورة الوقود النووي باعتباره حقاً سيادياً، فيما تنظر اليه الولايات المتحدة الاميركية وحليفاتها الغربيات من زاوية منع الجمهورية الاسلامية من تحقيق الاستقلال التقني وامتلاك ناصية العلم وزيادة نفوذها على الساحة الدولية، بعدما كان هدفها الاول إضعاف النظام الاسلامي اذا لم يكن ممكناً إسقاطه بصورة او بأخرى.
إرادة الاتفاق
في الماضي، لم تكن الارادة السياسية متوفرة للتوصل الى اتفاق. فالجانب الإيراني الذي لم تلاقِ مبادرته في ايام الرئيس خاتمي لتجميد عملية تخصيب اليورانيوم -على شكل حسن نية- الصدى المطلوب لدى الغرب، سعى فيما بعد الى تحسين موقعه التفاوضي من خلال رفع قدراته النووية: بزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم من 3.5 % الى 5% ثم الى 20 % ولوّح بقدرته على المزيد، وبمضاعفة أعداد اجهزة الطرد المركزي التي تتولى عملية التخصيب، وتمكن من صنع نماذج حديثة منها يمكن ان تحسن مستوى التخصيب بصورة نوعية، وصولاً الى إنشاء محطات نووية اضافية وتوزيعها في اماكن متفرقة من البلاد وإقامة بعضها تحت الارض لحمايتها من هجوم محتمل ودرء فاعلية الخيار العسكري في شل برنامج ايران النووي. كانت عملية التطوير تهدف الى إقناع الغرب بأن لا سبيل الى إجبار ايران على تفكيك البرنامج الذي يمثل رمزا للكرامة الوطنية، وان النموذج الليبي المتمثل في تفكيك المعدات وشحنها الى اميركا ليس مقبولاً بالمرّة في ايران. حتى عندما أقرت اميركا بحق ايران في امتلاك برنامج نووي على ان تستورد اليورانيوم مخصَّباً من فرنسا وتعيده مستنفـَدا الى روسيا لإعادة معالجته، كان هدفها تحجيم هذا المشروع الى أدنى حد ممكن. الآن أصبح هذا البرنامج حقيقة واقعة بفعل جهود آلاف العلماء والباحثين والتقنيين الايرانيين ومراس المفاوض الايراني الذي سعى الى تثمير هذه الجهود، ولم يعد بالإمكان تدميره عسكرياً او اختراقه بحرب سرية (اغتيالات، بث فيروسات الكترونية، تلويث أجهزة الطرد المركزي، التفجير،....) او حمل ايران على التسليم بمطالب الغرب عبر جعلها تدفع ثمناً باهظاً بالحصار والعقوبات.
في المقابل، هناك قناعة لدى القيادة في ايران بأن التسوية هي الحل الأمثل للصراع مع الغرب بهذا الشأن، اولاً لرفع الحصار تدريجياً عن البلاد، وثانياً لفتح باب معالجة المشكلات الاقليمية التي أضحت تمثل خطراً على مصالح جميع الدول، كما على شعوب المنطقة. المسؤولون الغربيون يعزون هذا الموقف الايجابي الى مشاكل ايران الاقتصادية المتأتية من الحصار، لكن الايرانيين يردّون بأن الغرب ما زال استعلائياً ويؤمن بالغلبة، وكان ليوفر على نفسه عناء أكثر فصول هذه المواجهة لو انه سلـّم من البداية بحق ايران في المجال النووي وفي تخصيب اليورانيوم على نطاق محدود، وربما لم تكن ايران حينها لتملك التصميم الذي أوصلها الى ما وصلت اليه من تقدم في هذا المجال. ويضيفون انه عندما علـّقت ايران التخصيب في العقد الماضي كان ذلك دليلاً على استعدادها للحل، لكن الغرب لم يكن جاهزا بعد وكان يعتقد ان بإمكانه الفوز في هذا الكباش. ويزيد الايرانيون انه مع هذا الثمن الذي تدفعه ايران حاليا من جراء الحصار، فهي ليست مستعدة لتعليق تخصيب اليورانيوم باعتباره خطاً احمر يحظى بإجماع داخلي عريض، وهذا يوضح الفارق بين الأمس واليوم.
لقد دفع الغرب ايضاً ثمناً كبيراً من جراء سياسة المواجهة التي لم تقتصر على الجانب النووي، فامتدت على محاور عدة، وهو يبحث عن تسويات تقيه شرور الحروب هنا وهناك، بينما تكافح اميركا لمقاومة ركود اقتصادي يلقي بظلاله عليها. وقد كانت الرئاسة الاميركية واضحة في الاعتراض على فرض الكونغرس عقوبات اضافية على ايران، قائلة انها تقوض الجهود الدبلوماسية الهادفة الى "منع ايران من امتلاك القنبلة النووية"، و"ان الشعب الاميركي لا يريد ان يخوض حرباً" لتحقيق هذا الهدف.
المتضررون من الاتفاق
هكذا نضجت الظروف السياسية في الجانبين وبات الغرب أقرب الى الإقرار بحقوق ايران النووية، لكن هناك متضررون من اي اتفاق حول هذا الموضوع، ويمكن الاشارة اليهم على نحو الإجمال:
- "اسرائيل" التي وقفت بصورة أساسية في السنوات الماضية وراء قوة الدفع لفرض العقوبات على ايران، وعملت بجهد لرفع سقف التفاوض لدى الغرب الذي بدا في بعض المراحل على استعداد للتوصل الى تسوية ما. وقد عبّر رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو عن الغضب الشديد لاحتمال التوصل الى اتفاق، معتبراً ان اميركا تترك "اسرائيل" وحيدة في مواجهة ايران، ولم تنفع لقاءات اوباما مع نتنياهو واتصالاتهما الهاتفية وزيارات المسؤولين الاميركيين الى "اسرائيل" في تبريد اعتراض الجانب الاسرائيلي الذي يرتبط بأزمة وجودية ويقول انه لا يستطيع العيش تحت مظلة نووية ايرانية حتى لو كانت تخضع لرقابة دولية.
- اليمين المتشدد في الكونغرس الاميركي الذي ينظر بعين اسرائيلية ويرى ان لا مكان للإعتراف بايران نووية. وقد لا يكون مستغرباً ان السناتورين الجمهوريين جون كيري وليندسي غراهام اللذين تصدرا الحملة الداعية لضرب سوريا عسكرياً، يقفان الآن لعرقلة توجه حكومة اوباما للاتفاق مع ايران، لأسباب تتصل باسرائيل اولاً، ومعاندة توجه ادارة الحزب الديمقراطي في مختلف الميادين ومنها السياسة الخارجية ثانياً. ويلوح الجمهوريون باستخدام ورقة مشروع فرض عقوبات اضافية من جانب واحد على ايران لعرقلة اي اتفاق معها.
- السعودية وحلفاؤها: واضح ان السعودية غير مرتاحة لتوجهات الادارة الاميركية الاخيرة حيال سوريا وايران وحيال مواضيع اخرى تمس بسياسة الرياض الاقليمية. وهي عبّرت عن ذلك بتجنب تسلم مقعد في مجلس الامن الدولي كنوع من الاحتجاج وحتى لا تظهر الهوة واسعة بين الجانبين. وتنطلق القيادة السعودية من افتراض أنّ تفكك أواصر الحصار حول ايران سيعزز دورها على حساب السعودية، بصرف النظر عن التوجهات الانفتاحية الأخيرة لإيران. والسعودية تاريخياً لا تتقبل شريكاً قوياً في المنطقة من مصر عبد الناصر، الى عراق صدام حسين، الى ايران الثورة، الى تركيا اردوغان.
- فرنسا التي تحاول ان تبدو متميزة عن اميركا، تسعى لمد جسور لمصالح مالية قوية مع السعودية وحلفائها، كما إنها حليف تاريخي لإسرائيل ( لنتذكر ان فرنسا هي التي قدمت مساعدة لاسرائيل لبناء قدراتها النووية بدءاً من العام 1958)، وهي تشعر ان اتفاقاً بين اميركا وايران لا يفيدها كثيراً، بينما تطمح لصفقات نووية مع دول خليجية. لقد كان الموقف الفرنسي في اجتماع جنيف مثار انزعاج حتى لدبلوماسيين غربيين اعتبروا ان تصريحات فابيوس "ليست اكثر من محاولة ليضفي على نفسه أهمية في مرحلة متأخرة من المفاوضات"، وفق ما نقلت وكالة رويترز.
"العويل" الاسرائيلي والتحدي الزمني
لكن كل ذلك لا يلغي حقيقة وجود ارادة اميركية للتوصل الى اتفاق مبادئ بشأن البرنامج النووي الايراني، عساه يؤسس لاختراق في التعامل مع ايران القوة الاقليمية الناهضة في المنطقة. وقد عبّر وزير الخارجية الاميركي جون كيري عن أمله في التوصل الى اتفاق مع ايران "خلال أشهر". كما ان عقد اجتماع ثان في العشرين من الشهر الجاري بعد اجتماع جنيف يشير الى وصول المفاوضات الى نتائج متقدمة والرغبة الحثيثة في متابعتها، وهذا ما أقر به مسؤولون من جميع الاطراف. وثمة مؤشرات أخرى تعضد هذا الاتجاه، من جملته الاتفاق التقني الذي توصلت اليه الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع ايران لزيادة التعاون بين الجانبين في مجال تقديم المعلومات عن المنشآت الايرانية، وايضاً تبادل العلاقات الدبلوماسية بين ايران وبريطانيا (حليف اميركا الأوثق) على مستوى القائم بالأعمال.
اذن، لن ينجح -على الارجح- العويل الاسرائيلي وحَرَد آخرين في الوقوف أمام توجه دولي لبدء رحلة البحث عن حل للمأزق الذي وصلت اليه مفاوضات النووي الايراني خلال السنوات الاخيرة. واذا ما قـُيض لهذا المسار التفاوضي ان يربض في مكانه، وهو احتمال يبقى وارداً، فهو سيعكس ضعف الادارة الاميركية عن فرض رؤيتها للسياسة الخارجية، وسط ارتفاع حدة المناكفات الداخلية ازاء كل صغيرة وكبيرة. أما ايران فيمكنها ان تربح رهانها الدائم على تماسك جبهتها الداخلية في حالـَيْ الاتفاق وعدمه. إذ ان الفشل في التوصل الى اتفاق سيكشف نوايا الطرف المقابل ويُظهر لمن يشكّ من الايرانيين ان المشكلة ليست عندهم، كما سيقوي الشعور بالتحدي والوحدة الوطنية. أما في حال التوصل الى اتفاق فسيُعدّ ذلك انجازاً يحتاج الى تدعيم على اكثر من صعيد داخلي وخارجي. وقد سبق للإمام السيد علي الخامنئي ان عمد الى الإمساك بالعصا من الوسط حينما أبدى عدم ثقته بالاميركيين وعدم تفاؤله بنتائج المفاوضات، مؤكدا في الوقت نفسه على اعطائها فرصة وعلى دعم المفاوض الايراني في مهمته.
تبدو المهلة الفاصلة أمام الجولة المقبلة من محادثات ايران والدول الست هامةً للطرفين لمراجعة الحسابات، ويريدها الاميركي فرصة ًلتهيئة حلفائه لإبرام الاتفاق، كما انه قد يرى مفيداً له ان لا يبدو كمن يستعجل الحل، لا سيما ان هناك في اميركا والغرب من يعتبر ان ايران على عجلة من أمرها للبت في الامر، وبالتالي يعتقد ان بالإمكان التوصل الى صفقة أفضل لو جرى الانتظار وقتاً اضافياً. وبهذا المعنى قد يستفيد الاميركي من تشدد الفرنسي الذي يلعب دور "الرجل الشرير". أما ايران فتريدها فرصة لتظهير المرونة الاستثنائية التي قدمتها على صعيد المفاوضات، بما يسهم في تفكيك الحصار المضروب عليها وفي الاستعداد لما يلي من المحادثات.
هناك توقعات بإنجاز اتفاق في وقت قريب، لكن في حال طال الأمد وسادت المراوحة ستدخل اعتبارات جديدة قد ترفع سقف كل طرف ويصبح الاتفاق رهناً بتلبية شروط جديدة.