لم يرضِ صناع القرار في الغرف السوداء في تل ابيب وواشنطن والدوحة والرياض واسطنبول ان يظل هذا المخيم هادئا
حسام عرفات
في أواسط شهر تشرين ثاني من العام 2012م اجتاحت مجموعات مسلحة تابعة للمعارضة السورية وبقرار سياسي من دول إقليمية مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين والذي يطلق عليه عاصمة الشتات الفلسطيني . ومنذ ذاك الاجتياح برزت ما اصبح يعرف سياسيا وإعلاميا أزمة مخيم اليرموك .
كان مخيما هادئا يعيش فيه ما يقارب نصف مليون سوري وفلسطيني بهدوء وسكينة وظل بعيدا عن ساحة الصراع الدائرة في سوريا طوال فترة الازمة .
كان نموذجا رائعا للتعايش السوري الفلسطيني ومثالا ساطعا علي طبيعة الحياة التي عاشها اللاجئون الفلسطينيون بعد نكبتهم الكبري في العام 1948 حيث عاملتهم الدولة السورية ومنذ النكبة كمواطنين سوريين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات باستثناء الترشح للمناصب العامة ومجلس النواب .
لم يرضِ صناع القرار في الغرف السوداء في تل ابيب وواشنطن والدوحة والرياض واسطنبول ان يظل هذا المخيم هادئا بعيدا عن دوامة الدم المستمرة في سوريا منذ ما يزيد علي سنتين ونصف فقرروا زجه جبرا في هذه الحرب لتحقيق اغراض سياسية لم تعد خافية علي احد .
لم يكن اجتياح المخيم من قبل المجموعات المسلحة والسيطرة عليه يوم 15/12 من العام الفائت وليد الساعة بل هو تتويج لقرار سياسي اقليمي اتخذته العواصم الإقليمية والدولية المتحالفة ضد سوريا والتي تعمل لإسقاط النظام فيها .
ان خلفيات هذا القرار السياسي الإقليمي والدولي تكمن أو تعود لأسباب عسكرية وسياسية واضحة، فمن الناحية السياسية يعتبر مخيم اليرموك بما يشكله من رمزية وشاهد علي التعايش الفلسطيني السوري واحتضان الدولة السورية قيادة وشعبنا للاجئين الفلسطينيين هدفا مركزيا لهدم هذه الرمزية واقحام المخيم في الصراع الدائر في سوريا لاستخدامه كورقة ضغط سياسية من قبل التحالف الدولي الاقليمي ضد سوريا وقيادتها .
أما عسكريا فلا يخفى علي احد الأهمية العسكرية الاسترايجية لمخيم اليرموك حيث يقع جغرافيا في خاصرة دمشق ولا يبعد عنها سوى بضع كيلومترات، ويعتبر نقطة وصل هامة بالنسبة للمناطق المحيطة التي تشكل القاعدة الخلفية للمخيم ومنطقة إمدادات هامة للمسلحين .
هذه هي أسباب القرار السياسي الإقليمي باجتياح مخيم اليرموك. وما الذرائع التي سيقت من قبل الجماعات المسلحة وممثليها السياسيين ووسائل اعلامهم لتبرير فعلتهم من شاكلة طرد اللجان الشعبية الفلسطينية والجبهة الشعبية القيادة العامة من المخيم إلا محاولة مكشوفة للتغطية علي هذه الاستهدافات الحقيقة.
ترتب علي هذا الاجتياح من الناحية السياسية دخول مخيم اليرموك بشكل مباشر في الأزمة السورية ومن الناحية الإنسانية نزح ما يزيد على 90% من سكانه إلي خارجه سواء إلي داخل الدولة السورية أو إلي الدول المجاورة والدول والأوروبية .
حاولت الكثير من الجهات السياسية والفصائل إيجاد حلول وتسوية سياسية لهذه الأزمة التي بدأت تتفاقم يوما بعد يوم , ورفضت المجموعات المسلحة بكل تلاوينها بحث أو الاستجابة إلي أي مبادرة تتضمن انسحابهم وخروجهم من المخيم مما عطل كل هذه المبادرات التي بقيت حبرا علي ورق .
اتخذت القيادة السورية ومنذ بداية الأزمة قرارا بعدم معاملة مخيم اليرموك – من الناحية العسكرية – نفس معاملة المناطق السورية الاخرى حيث أبلغت الفصائل الفلسطينية أنها لن تقتحم مخيم اليرموك ولن تقصفه حرصا علي المدنيين بداخله ولتجنب استخدام هذا القصف أو الاقتحام في بازار المتاجرة السياسية لدي خصوم وأعداء سوريا الإقليميين ووسائل إعلامهم , ولكنها – أي القيادة السورية – طلبت من الفصائل الفلسطينية والسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير تحمل مسؤولياتها في هذا الصدد وإيجاد حل لهذه الأزمة يجنب الجميع مواجهة محرجة الكل في غنى عنها .
انقسمت الفصائل الفلسطينية في التعامل مع هذه الأزمة فمنهم من تعامل بشكل انتهازي غير مفهوم وناي بنفسه عن الأزمة وكان القضية لاتخصه وتخص شعب يعيش في المريخ وتمترس خلف شعار غير واقعي وبائس هو عدم زج المخيمات في الصراع الدائر في سوريا رغم ان وقع الحال ان المخيمات وخصوصا مخيم اليرموك دخل - موضوعيا- في الأزمة وأصبح جزءا لايتجزا منها وبالتالي فان هذا الشعار لم يعد شعارا مطابقا للواقع .
فصائل أخرى تورطت بشكل مباشر وحملت السلاح للقتال إلى جانب المعارضة السورية والأمر لا يقتصر علي الاصطفاف إلى جانب المجموعات المسلحة في مخيم اليرموك فقط بل كانت المشاركة الميدانية المسلحة لتلك الفصائل بوقت مبكر حيث شاركت في القتال إلى جانب المعارضة السورية المسلحة والاسلامية منها في المناطق السورية مثل ادلب وحلب ودير الزور وسقط لها قتلي أعلنت عنهم وفتحت لهم بيوت العزاء .
أما فصائل التحالف واللجان الشعبية الفلسطينية فقد أعلنت موقفا وقبل اجتياح المسلحين لمخيم اليرموك بأنها ستمنع المسلحين من دخول مخيم اليرموك وشكلت اللجان الشعبية لهذا الغرض، التي فشلت في التصدي لهؤلاء المسلحين وانسحبت بسبب الخيانات التي حصلت في صفوفها وبسبب حجم القوي المهاجمة للمخيم من كل الجهات والذي وصل إلي الآلاف الأمر الذي لم تكن تتوقعه اللجان الشعبية وغير مستعدة له .
اما منظمة التحرير الفلسطينية فتسعى لان تحل محل حركة حماس في سوريا واخذ موقعها مستفيدة من الموقف السوري الغاضب تجاه حركة جماس بسبب موقفها من الازمة السورية واصطفافها الى جانب جماعة الاخوان المسلمين وخروجها من سوريا، ومستفيدة ايضا من الانجازات التي حققها الجيش السوري والفصائل الفلسطينية المتحالفة معها على جبهة مخيم اليرموك بحيث تحاول الظهور بانها هي من حققت الحل السياسي للازمة وهي من انهت المعاناة الانسانية للمخيم متجاهلة الشهداء الذين قدمتهم الفصائل الفلسطينية والجيش السوري في هذه المعركة المعقدة .
هذا الانقسام الفلسطيني وغياب الضغط العسكري بسبب انشغال الجيش السوري على جبهات أخرى غير مخيم اليرموك شجع الجماعات المسلحة فيه بالتعنت والتشدد في شأن أي مبادرات لحل الازمة وجعلها تتصرف في داخل المخيم وكأنها باقية للأبد، فشكلت المحاكم الميدانية وأعدمت الناس وسرقت البيوت بحجة أنها بيوت موالية للنظام أو لفصائل حليفة له وأقامت المتاريس وشكلت إلي جانب مناطق أخري محيطة في الحجر الأسود ويلدا وغيرها عنصر تهديد جدي لدمشق .
أصبح واضحا من خلال ممارسات هذه الجماعات في المخيم ورفضها أي حل سياسي للازمة يتضمن انسحابها منه ان الحل السياسي لازمة مخيم اليرموك وصل إلي طريق مسدود ولم يعد هناك حلا لهذه الازمة سوي الحل العسكري .
خيار الحسم العسكري خيار مر ولا يرغبه السوريون وتحديدا لمخيم اليرموك كما لاترغبه أيضا القوي الفلسطينية التي تبنت هذا الخيار منذ وقت مبكر وعلي رأسها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة واللجان الشعبية الفلسطينية , ولكن لم يعد هناك أي إمكانية للتأخر في هذه المعركة الضرورية لمنع الجماعات المسلحة من تثبيت اقدامهم وسيطرتهم علي المخيم.
الخيار العسكري كان يتطلب لإنجاحه أمرين اثنين الأول خطة عسكرية محكمة من جانب الجيش السوري تأخذ بعين الاعتبار حساسية الموضوع وطبيعة المعركة التي لايناسبها اسلوب الجيش النظامي وتحتاج الي اسلوب حرب العصابات والاقتحامات كما فعل حزب الله في منطقة القصير وكما يفعل الان بكل فعالية في مناطق مكتظة عمرانيا في ريف دمشق بسبب تحصن مقاتلي المعارضة المسلحة في البيوت وزقائق المخيم وبالتالي لاتصلح الدبابة والجيش النظامي لهكذا معركة.
والثاني تعاون من قبل الفصائل الفلسطينية لتغطية هذا التحرك العسكري السوري والمساهمة فيه على قاعدة ان مخطط المسلحون وهدفهم هو القضاء علي الدولة السورية والنظام فيها مما يعني خدمة صافية لإسرائيل وبالتالي فان العنصر الفلسطيني ليس محايدا هنا وتدخله لايعني مناصرة طرف علي طرف آخر أو التدخل والتورط في الأزمة السورية بل يعني المشاركة في معركة محقة وضرورية لإسقاط مشروع صهيو-امريكي عربي لتحطيم الامة العربية واسقاط الدول المركزية في المنطقة لتفتيتها واضعافها تمهيدا لسيطرة اسرائيل وحلفاؤها علي مقدرات المنطقة .
تبنت هذا المفهوم لازمة اليرموك بعض الفصائل الفلسطينية وفي مقدمتها الجبهة الشعبية القيادة العامة وطرحت منذ البدء علي الفصائل الفلسطينية ضرورة وضع خطة للحسم العسكري مع المسلحين في مخيم اليرموك بعد رفضهم لكل المبادرات وتمنعت الفصائل بل وكانت عاجزة عن اتخاذ مثل هكذا قرار خوفا من اتهامها بالاصطفاف إلي جانب النظام وبالتالي خسارة شعبية مزعومة في الأوساط الفلسطينية والسورية .
لم تنتظر الجبهة الشعبية القيادة العامة طويلا ردود هذه الفصائل بل وقررت تبني الخيار العسكري الشامل مع الجماعات المسلحة بالتنسيق الكامل مع الجيش والأجهزة السورية المختصة .
بدأت الحملة العسكرية من قبل اللجان الشعبية الفلسطينية والجبهة الشعبية القيادة العامة منذ أربعة شهور وحققت بعض التقدم إلا انه لم يكن كافيا لتغيير موقف المسلحين السياسي وظلوا علي رأيهم بالسيطرة علي المخيم ورفض الانسحاب .
تغير الموقف فجأة بعد الانتصارات التي حققها الجيش السوري في منطقة اليرموك وتحديدا بسيطرته علي منطقة السبينة والتي تعني - من الناحية العسكرية- خرق مهم سيؤدي حتما إلي انهيار وسقوط مناطق مهمة للمسلحين وتحديدا في الحجر الأسود .
كان من نتيجة سقوط السبينة ان انهارت دفاعات المسلحين والاهم من ذلك انهارت معنوياتهم وبداوا يغادرون مواقعهم في المناطق المحيطة في المخيم إلي داخل المخيم والاحتماء فيه وبداوا يرسلون إشارات واضحة علي استعدادهم لتسوية سياسية تتضمن انسحابهم .
وفي لقاء جمع مندوبين عن الجماعات المسلحة مع امين عام الجبهة الشعبية القيادة العامة احمد جبريل يوم التاسع من هذا الشهر اعلن المسلحون امامه استعدادهم للانسحاب الكامل وبدون اية شروط من المخيم وعبروا عن رغبة بتسوية اوضاع بعضهم , وتبع هذا اللقاء الهام اعلان الهدنة والاتفاق علي تسوية وحل ازمة المخيم وجاء هذا الاعلان من قبل وفد منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة زكريا الاغا الذي كان قد وصل للتو من رام الله لهذا الغرض .
ولكن ما اتضح بعد ذلك ان اعلان المسلحين استعدادهم للانسحاب لم يكن سوى اعلان اعلامي لإظهار انفسهم بأنهم متعاونون وحتى لا يثيروا عليهم من تبقى من الأهالي الذين يريدون الحل السياسي للازمة وخروج المسلحين من مخيمهم .
وما يؤكد مناورتهم الإعلامية تلك هو قيامهم باغتيال ضابط كبير في الجبهة الشعبية القيادة العامة بعد إعلان الهدنة والاتفاق عليها وافتعال اشتباكات مسلحة عنيفة مع نقاط الجيش السوري عندما توجهت قوافل المعونات المتفق عليها للدخول إلى المخيم لإغاثة الأهالي .
ان ما يجري الان من سلوك وممارسات علي الأرض للجماعات المسلحة يوحي بأنهم ومن وراءهم من قوى إقليمية يقومون بمناورة سياسية ليس إلا وليسوا بوارد الانسحاب من المخيم وحل أزمته , وجل تركيزهم على الجانب التمويني والنقص في الخدمات التي يعانيها المخيم بسبب الطوق الامني المفروض وتحسين شروط احتلالهم وبقاؤهم في المخيم .
لقد أدركت الجبهة الشعبية القيادة العامة ومنذ البداية ان لاحل سياسي للازمة مع هؤلاء المسلحين ولا يوجد حل إلا الحسم العسكري , ولذلك وللتمهيد لهذا الحل وإنجاحه ولإبعاد المدنيين في داخل المخيم عن هذه المواجهة المسلحة عملت القيادة العامة مع القيادة السورية على وضع مبادرة الفرصة الأخيرة التي تضمنت خروج الناس من المخيم وتوفير مراكز إيواء لهم وتسوية أوضاع من غرر بهم .
هذه المبادرة كانت تهدف الى مسالتين الاولى التخفيف من المعاناة التي يعيشها السكان المدنيون داخل المخيم والسماح لمن يرغب من هؤلاء المدنيين بالخروج (وبشكل مؤقت) الى مراكز ايواء اعدتها الدولة السورية ومنظمة الاونروا خصيصا لهذا الغرض مع توفر كل البنية التحتية اللازمة للعيش وتقديم كافة الخدمات والغذاء لهم .
والثانية : نزع هذه الورقة الانسانية من يد المسلحين وحرمانهم من المتاجرة السياسية والاعلامية بها خصوصا بعد فشلهم الاعلامي الذريع بالمتاجرة بها حيث اعلنوا عن فتاوى لأكل القطط والكلاب والى ما هنالك من دعاية سياسية لم يتوقف عندها احد .
ان جوهر هذه المبادرة يتمثل في ابعاد من تبقي من المدنيين داخل المخيم عن ساحة المعركة وبالتالي تجنيبهم اضرار معركة عسكرية متوقعة لا امل في استبعادها.
ان الدعاية السياسية ضد هذه المبادرة والتي صورتها وكانها دعوة لتفريغ المخيم من سكانه لهي دعاية سخيفة ولا تصمد امام عناد الوقائع , فهل نزوح 90% من سكان مخيم اليرموك جاء بطلب من السلطات السورية او الجبهة الشعبية القيادة العامة ام برغبة خالصة من هؤلاء السكان هربا من جحيم فرضته هذه المجموعات المسلحة عليهم وعلى مخيمهم . ولذلك فان من تبقي من سكان في داخل المخيم هم نوعان الاول لايستطيع تكفل نفقات الخروج والثاني هم عائلات هذه الجماعات المسلحة التي بقيت معهم , وبالمناسبة فان المبادرة لاستيعاب من يرغب في مراكز الايواء خارج المخيم تشمل النوعين ولاتستثني حتي عائلات المسلحين انفسهم.
انها مبادرة الفرصة الاخيرة الى جانب الجهود التي يقوم بها وفد منظمة التحرير الفلسطينية الذي شاهد بأم عينه واعلن ايضا عن مسؤولية المسلحين عن ازمة المخيم واستمرار معاناة اهله بسبب رفضهم الانسحاب رغم اعلانهم ذلك .
ان اللحظة - وهي قريبة جدا- التي سيعلن فيها فشل هذه المساعي بتحقيق انسحاب المسلحين هي ساعة الصفر التي سيتم فيها بداية الحسم العسكري , مما يعني ان مخيم اليرموك مقبل - وللاسف- علي ايام قاسية لم نكن نرغب فيها .
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه