في الحلقة الأخيرة من جولة «الأخبار» على مسلّحي المعارضة السورية في جبال القلمون وبلداتها، مقتطفات من يومياتهم هناك. نقاشات دينية واستعادة لأحداث الجبهات
رضوان مرتضى
في الحلقة الأخيرة من جولة «الأخبار» على مسلّحي المعارضة السورية في جبال القلمون وبلداتها، مقتطفات من يومياتهم هناك. نقاشات دينية واستعادة لأحداث الجبهات. يروون قصّة «الاستشهادي الأميركي أبو عمر». يحضر على هامشها كل من الشيخ أحمد الأسير و«أبو صقّار». وفي طريق العودة، حشودٌ عسكرية حول قارة وقصفٌ سوري على جرود عرسال ووصايا بأخذ الحيطة والحذر من قطّاع الطرق والجيش و... الشيعة.
لا تخلو أيّام المسلّحين الإسلاميين هنا من المقارنة. حديثو الالتزام بينهم يُمعنون فيها. الـ«هم» والـ«نحن» حاضرة بقوّة. يرفع أحدهم صوته قائلاً: «يا أخي عاشوراؤهم حزنٌ ولطمٌ وإيذاء نفس، وعاشوراؤنا صيامٌ وصلاةٌ وقراءةُ قرآن». يقول الشاب إنّ عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وزّعوا مناشير دعوا فيها إلى «صيام العاشر من مُحرّم تقرُّباً إلى الله تعالى». وفي كلّ مرّة يأتون على ذكر «الدولة الإسلامية» و«جبهة النصرة»، يُغالي هؤلاء في ذكر محاسن عناصرهما والإشادة بتواضعهم.
يتدخّل «أبو الليل»، والد رعد حمّادي الذي تبنّى إطلاق الصواريخ على منطقة الهرمل، وهو رجلٌ خمسيني لا يزال يحمل السلاح ويُشارك في العمليات القتالية ضد الجيش السوري. يقول: «نحن السُّنة منذ استُشهِد صدام حسين تبهدلنا». يتدخل آخر مستنكراً: «يا شيخ، صدّام حسين كان قاتلاً، صحيح أنّه قاتل الشيعة، لكن لا تنسوا أنّه قتل الكثير من المجاهدين». يحتدّ الاثنان، فيتوافق الجميع على إقفال الحديث.
«صاعق»، شابٌ عشريني من حلب، يحكي عن ممارسات «تفرضها الدولة الإسلامية علينا»، لكن «أبو رائد»، القيادي الميداني للمجموعة، يُصحّح له ما قال منبِّهاً: «لا تقل تفرضها علينا، بل هي تُنوِّرُك بأمور دينك». يروون أموراً كثيرة يرونها غريبة: «يُحرِّمون قراءة الفاتحة على الميّت». ولدى سؤالهم عن السبب، لا يملكون جواباً. يقول أحدهم إن «الدولة (الإسلامية في العراق والشام) توصينا بأن لا نقول اغتنمنا، إنما غزونا فرزقنا الله». يُكرّر آخرون ذكر «منع التدخين والتشديد على إرخاء اللحى». هنا، أيضاً، رواية تتكرّر في أكثر من جلسة. هي قصّة «أبو عمر الأميركي». شاب أميركي «استُشهد في القصير». يقول أحدهم إنّ «الشاب المجاهد مكث في مدينة القصير أشهراً قبل أن يُنفِّذ عمليته الاستشهادية ضد أحد حواجز الجيش السوري». ويُسرّون بأنّه «الوحيد الذي جهّز نفسه بنفسه». ويوضح «أبو نايف»، أحد المشاركين في معارك القصير، قائلاً: «الأميركي اشترى السيارة وفخّخها بماله الخاص». وكذلك الأمر في ما يتعلّق بالسلاح الذي كان بحوزته؛ إذ إنّه «أصرّ على أن يدفع ثمن عدّته العسكرية التي اشتراها من كتيبة الفاروق». الأمر مثيرٌ للدهشة، لكنّهم يُضيفون باقتناع راسخة: «جاء الأميركي من بلاده إلى أرضنا، مُسلماً روحه لله... طلب الشهادة بحق فنالها».
يحضر إلى الذهن «أبو صقّار»، المسلّح السوري المعارض الذي ظهر على وسائل الإعلام يقضم قلب (أو رئة) جندي سوري، يؤكد أحدهم أنّه «تعرّض لإصابة طفيفة في القصير، لكنّه انسحب معنا إلى القلمون». وأين هو الآن؟ يأتي الجواب: «أبو صقار الآن في حلب، ذهب للقتال هناك مع مجموعة اسمها قادمون». يحضر أيضاً ذكر الشيخ أحمد الأسير. لدى سؤال المجموعات التي قاتلت في معركة القصير عن إمام مسجد بلال بن رباح، يأتي الجواب جاهزاً: «لم ير الأسير القصير في حياته أبداً قط. وصل إلى جوسيه لالتقاط بعض الصوَر ثمّ غادر بسرعة». ولدى السؤال عن مكان وجوده وصحّة ما تردّد عن وصوله إلى القلمون أخيراً، أجابوا: «لم نر الشيخ الأسير هنا، ولا نعلم إذا أتى فعلاً». يستعيدون أحداث عبرا، مستنكرين «استضعاف حزب الله له في عبرا وخذلانه من قبل سُنّة لبنان».
من جهة أخرى، تُفاجئُك هنا بعض المسميات. بديهيات تستغرق وقتاً قبل استيعابها. فإلى تسمية «التاكسي» التي تُطلق على كل السيارات الصغيرة، هناك الـ«مُكَب والشَّفَر». كلمتان لا تغادران الأحاديث اليومية للمسلّحين هنا. الأولى هي اختصار لجميع السيارات الرباعية من نوع «بيك أب». أمّا «الشفر»، فهو اختصار للسيارة الرباعية الدفع من نوع شيفروليه!
الكثير من أفراد آخر مجموعة قابلتها «الأخبار»، لا يعرفون القراءة والكتابة، رغم مجانية التعليم في سوريا. يملك معظم هؤلاء خدمة «الواتس آب»، لكنّ واحداً منهم يتولّى قراءة ما يصلهم من رسائل والردّ عليها. يتلوها بصوت مرتفع على مسامعهم فيملون عليه ما يُريدون إرساله. آخر يعرف كتابة اسمه فحسب. وثالث لا يعلم ماذا جرى في ليبيا أصلاً. تأتي على ذكر مقتل معمّر القذّافي، فيستفسر عمّن يكون المذكور. يسأل عنه كأنّما يظنّه قيادياً قُتل في سوريا، فتُخبره أنّه الرئيس الليبي السابق، فيردّ بأنّه لا يُتابع نشرات الأخبار.
يحين موعد صلاة العصر. يتهيأ الحاضرون للصلاة. يصطفّون جنباً إلى جنب، فيقع تلاسن كلامي بين شابين. والسبب أنّ أحدهما وقف للصلاة من دون أن يتوضأ. مسح يديه على الحائط بقصد التيمّم ثم استقام للصلاة. الأوّل يقول بعدم جواز التيمّم بوجود الماء، فيردّ عليه الشاب الحلبي بأنّه «مجاهد مهاجر» يجوز له ذلك. يتدخّل ثالث عارضاً تحكيمه. يوافق الطرفان، فيردد على مسامعهم قاعدة فقهية: «إذا حضر الماء بطل التيمم». ويردف قائلاً: «أما في حال الجهاد، فيجب على المجاهد في حال توافر الماء التوضؤ قبل الصلاة، لكن يجوز له الصلاة بحذائه والقصر أيضاً».
حان موعد الرحيل. حُزمت الحقائب استعداداً للعودة. زوّادة الوداع درعٌ واقية من الرصاص وعدّة التصوير ودعوات للوصول بأمان. الاستعجال هنا ضرورة، فالشمس بدأت تقترب من المغيب، وذلك يزيد طريق العودة خطورة. قطّاع الطرق يملأون المكان ليلاً، فيما إمكانية استهداف السيارات المتسلّلة إلى لبنان بقصف مدفعي تزداد ليلاً. يُضاف إلى ذلك خطرٌ آخر يراه مضيفونا محدقاً بنا، فيطلبون إلينا الانتباه في طريق العودة على «حواجز الشيعة»، متسائلين: «كيف ستمرّون عليها؟». تسأل مستغرباً أي حواجز يقصدون، فيردّ بعضهم: «الحواجز التي ينصبها الشيعة في قراهم اللبنانية للتدقيق في هويّات المارّة وتوقيف أبناء أهل السنّة». يزداد استغرابك، لكن تُقرّر أن تُجاريهم سائلاً: «في أي قرى ينصب الشيعة حواجزهم؟». عندها يبادلُك هم الاستغراب. «في اللبوة والهرمل وغيرها لا نحفظ أسماءها، لكننا نعرف أنّها للشيعة». هنا تقطع عليهم الطريق بهدوء. «أبداً، لا يوجد أيّة حواجز»، وتسأل عمّن أخبرهم بذلك، إلّا أن سؤالك يبقى بلا إجابة سوى أنّهم سمعوا بذلك من أحدهم. ورغم ذلك، يوصيك أحدهم قائلاً: «في كل الأحوال توخّ الحذر فمعركتنا مع الشيعة بدأت». تنطلق السيارة في طريق العودة. تمرّ في القرى نفسها التي اجتزتها قبل أيام. تصل إلى مفترق طرقٍ تتوسطه لافتة تحمل اسم بلدة «قارة».
المعركة فيها لم تكن قد بدأت بعد، لكن أصوات الغارات وأخبار حشود قوات النظام كانت تملأ الأسماع. ترافقت تلك مع غارات جوية استهدفت بعض السيارات المارّة في جرود عرسال. لم نشهد من ذلك شيئاً، لكنّ أصوات الانفجارات واتصالات المطمئنين كانت تشي بأننا قريبون جداً. يزيد السائق من سرعة السيارة، لكنّه لا يلبث أن يتمهّل للسؤال عن وجود «حواجز للجيش اللبناني في طريق الطلعة». الجواب يأتي بالنفي. يتكرر غير مرّة. في تلك الأثناء، يلوح في البعيد مخيّم للنازحين السوريين، فتعلم أنّ الرحلة انتهت بسلام.
علي الحجيري «عميل للجيش»
رغم وحدة الحال التي تُظهرها سلاسة الانتقال بين الأراضي السوري والأراضي اللبنانية عبر الجرود العرسالية، إلّا أنّها لا تنعكس تماسكاً وتعاوناً في العلاقة بين السوريين والعراسلة. وفضلاً عن التنافس السائد بين أبناء القرى الحدودية العاملين في التهريب، تزيد الأزمة السورية الشرخ عمقاً بين أبناء المنطقتين يوماً بعد آخر. ويعود السبب في ذلك إلى معاناة النازحين السوريين الموجودين في عرسال؛ إذ يُعرب المسلّحون هنا عن استيائهم من سوء المعاملة التي تتعرّض لها عائلاتهم في المخيّمات القائمة في عرسال. لا يُلقي هؤلاء باللائمة على كل أهالي عرسال، بل يستثنون بعض الأسماء المتعاطفة معهم.
يُخبرون أنّ العديد من الشخصيات في عرسال تساعدهم من منطلق «نُصرة المظلوم ضد الظالم وبدافع ديني بضرورة الوقوف إلى جانب أخيك المسلم الذي يحارب لدينه». لكنهم في الوقت نفسه، يتّهمون رئيس بلدية عرسال علي الحجيري بأنه «عميل لاستخبارات الجيش اللبناني، غالباً ما يُبلغ عن تحرّكات قياديين منّا للإيقاع بهم».
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه