واسوأ ما في كل ذلك أن العنف يمارس باسم الدين وباقتطاع إنتقائي لكلمات من الوحي الإلهي وأقوال الأنبياء، وتغليف ذلك باعلاء شأن بعض العادات القبلية السلبية أو بعض الممارسات التسلطية التي عفى عليها الزمن
دعا مؤخراً مركز الإمارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية مجموعة من المثقَّفين العرب لمناقشة سبل مناهضة ظاهرة التطرف الديني في المجتمعات العربية. من بين النقاط المتعلقة بالموضوع، والتي تستحق الإبراز والمناقشة، النقاط التالية. الأولى تتعلق بالسؤال التالي : هل أن ظاهرة التطرف في المجتمعات العربية تقتصر على المجال الديني أم أنها ظاهرة عامة متجذًّرة في ثقافة المجتمع ومتجلية في تاريخه ؟..
د. علي محمد فخرو / جريدة القدس العربي
بادئ ذي بدئ فان علماء الاجتماع يختلفون حول أسباب هذه الظاهرة المركَّبة فعند الفرد قد تعبٍّر هذه الظاهرة عن مرض نفسي أو حتى عقلي، وعند الجماعات هي في الغالب عبارة عن ردًّ فعل عاطفي طاغي بسب ماضٍ مليئ بالظلم أو الإستغلال أو امتهان الكرامة، وأحياناً يكون التطرف أداة في معارك القوة والسيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية.
وهو ظاهرة تبدأ بالتعصُّب الأعمى لتصبح بعد ذلك تطرفاً في القول والفعل ولتنتهي بممارسة العنف أو الإرهاب. ما يهمنا أبرازه هو أن التعصُّب للأفكار والمعتقدات والعادات قد قاد مجتمعاتنا في النهاية، وفي كثير من الأحيان، إلى توليد تجليات وممارسة العنف لا في الدين فقط وإنًّما في شتًّى مناحي الحياة.
دعنا نأخذ مساحة محدًّدة في تركيبة المجتمع، مساحة العائلة العربية، وندرس ظاهرة العنف فيها. ألا تصًّر الكثير من الأمهات ويصًّر الكثير من الآباء على كسر شوكة الكرامة في أطفالهم من خلال الصٍّراخ الهستيري، وإصدار الأوامر التي لا تقبل النٍّقاش، واستعمال قوة يد البطش ضد أطفال صغار ضعاف الجسد لا حول لهم ولا قوًة للدفاع عن أنفسهم ؟ الا يستهزئ هؤلاء بفكرة العلاقات الديموقراطية، من أخذ وعطاء وتسامح وحلول وسطية، فيما بين الوالدين وأولادهم وبناتهم، ويعتبرون ذلك تدليعاً لا محلًّ له؟.
في العائلة العربية تنتشر ظاهرة العنف اللفظي المبتذل عند الأم وظاهرة العنف الجسدي عند الأب. ويتبارى بعض الآباء والأمهات فيمن يبزُّ الآخر في ‘التربية’ و’الإنضباط’ وانتزاع الإحترام الكاذب’ من خلال المبالغة في استعمال شتُّى أنواع العنف الجسدي واللفظي والنفسي القائم على الطاعة العمياء وعلاقات الزبونية والرشوة.
واسوأ ما في كل ذلك أن العنف يمارس باسم الدين وباقتطاع إنتقائي لكلمات من الوحي الإلهي وأقوال الأنبياء، وتغليف ذلك باعلاء شأن بعض العادات القبلية السلبية أو بعض الممارسات التسلطية التي عفى عليها الزمن وأصبحت خارج العصر وعلومه وأنظمته الحقوقية، وذلك من أجل عرض وتسويق بضاعة العنف كنظام تربية وتقويم.
ولا يسع المجال هنا لتفصيل عنف الأزواج ضد الزَّوجات، جسدياً وعاطفياً باسم الرجولة أو العنف ضدًّ الخدم الفقراء المغلوبين على أمرهم باسم ضبط أمور البيت، أو عنف الإخوان ضدً أخواتهم باسم الذكورة. كما لا يسع المجال لذكر عنف المعلًّم ضد التلميذ، وعنف المدير ضدُ المعلًّم، وعنف كل صاحب سلطة أووجاهة أو مال في المجتمع ضدُ من دونهم في الرٍّزق أو في القدرة أو في أمتلاك وسائل الحماية، ولا يحتاج الإنسان للتذكير بظاهرة العنف المعنوي واللفظي التي تمتلئ بها في أيامنا ساحات الإعلام بشتًّى أنواعها.
نحن إذن أمام مكوًّنات مجتمع تمارس الإنغلاق على الذًّات والتعصُّب، ثم تتبعه بالتطرف غير العقلاني، لتنتهي بممارسة العنف. من هنا فان التطرف الديني هو جزء من ظاهرة ثقافية أعم وأشمل. النقطة الثانية تتعلق بالوسائل المتاحة لمناهضة التطرف. لقد توجه العديد من الحاضرين إلى مؤسسات التعليم والإعلام والمجتمع المدني والدًّين يناشدونها القيام بأنشطة لمناهضة التطرف الديني. لكنَّنا ننسى أن جميع تلك المؤسسات، بما فيها كثير من مؤسسات المجتمع المدني، قد ولدت من رحم الدولة العربية التي تميزت أكثر سلطات الحكم فيها بممارسة اشكال لا حصر لها من أنواع العنف المعنوي والمادي. وهو عنف لا تضبطه الدساتير ولا القوانين ولا الاتفاقيات الدولية في غياب الرَّقابة والمحاسبة الديموقراطية.
وأذن فما لم يجر تغيير جذري في تركيبة ووسائل عمل سلطات الدولة العربية فانها لن تكون متحمٍّسة ولا جادًّة ولا كفؤة في استنهاض مؤسساتها لمناهضة ظاهرة هي تؤمن بها وتفعٍّلها يومياً. إن دولة تبتلع مجتمعاتها في جوفها، وتقمع مكونات تلك المجتمعات في عوالم السياسة والاقتصاد والثقافة، وتقوم علاقتها مع قوى تلك المجتمعات من خلال الخوف المتبادل والتطاحن الذي لا يهدأ. إن مثل هذه الدولة ليست مهيًّاة ّلإعطاء الدروس في التسامح والأخذ والعطاء والتعايش مع الآخرين المختلفين معها في الرأي والتوجُّهات.
قلب هذه المشكلة وغيرها سيظلَّ في الدولة العربية او التي وصفها عالم الاجتماع الدكتور حليم بركات في كتابه (المجتمع العربي المعاصر) بأنها ‘كانت دائماً تمثل مصالح عائلات وقبائل وجماعات على حساب غيرها وعلى حساب الأمة، وما القول أنها تمثل المصلحة العامة سوى ضرب من التعمية والتسويغ’. إنه حكم قاس ولكنه يقول الكثير.
وقديماً قيل بأن فاقد الشيئ لايمكن أن يعطيه.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه