محطات أخرى بيّنت حجم الاتصال بين حنكة الدبلوماسية الأميركية والاعتماد السعودي على النفظ لدفع أميركا إلى حماية العرش. بعد الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، وفي خضم التوغل السعودي في الحرب الأهلية اللبنانية
لم تكن علاقتهما قائمة على تقارب ثقافي أو أيديولوجي طبعاً. لقد ارتكزت منذ الأساس على حماية العرش. هذا ما يظهره الباحث نايف بن حثلين في كتابه «صراع الحلفاء ـــ السعودية والولايات المتحدة الأميركية منذ 1962» (دار الساقي) الذي يشير إلى أنّ الدعم الأميركي لإسرائيل لم يشكّل يوماً عقبة أمام هذه الصلات.
أحمد محسن / جريدة الأخبار
اختار نايف بن حثلين أن يقسّم كتابه «صراع الحلفاء ـــ السعودية والولايات المتحدة الأميركية منذ 1962» (دار الساقي) إلى أربعة فصول، على مقاس الملوك الذين تعاقبوا على حكم المملكة. يمنح ذلك القارئ انطباعاً أولياً بأن العلاقات السعودية ـــ الأميركية لم تكن قائمة على تقارب ثقافي أو أيديولوجي. وهذا ما يعرفه الجميع. لقد قامت منذ البداية من أجل مصالح العرش. استخدم الباحث السعودي هذا التقسيم، لتفصيل مواد البحث (وافرة لكن معظمها من مراجع أميركية لتمنّع السعوديين عن التعاون) من دون تعقيدات قد تغرقه في مواقف اعتراضية على هوية النظام الحاكم في السعودية، بل نفذ عبر مسايرته في العرض، إلى الهروب من الحديث عن تركيبة هيكل الحكم في المملكة، والتركيز على إثراء البحث بالمعطيات المتوافرة، بين نظام يحكم شعباً عربياً ودولة بمصالح كبرى كأميركا.
الملوك هم محور العلاقة مع أميركا في الكتاب الذي يحتل الملك فهد بن عبد العزيز المساحة الأكبر فيه (الفصل الثاني: الحقبة الأولى للملك فهد (1979 _ 1990) من التعاون المتحفظ إلى الاعتماد الواسع، والفصل الثالث: إرث الملك فهد (1990 ــ 2001) من الاعتماد إلى المسؤولية المتبادلة).
حسب مصادر الكاتب، فإنّ الملك فيصل كان منذ البداية مؤمناً بأن السعوديين لن ينقلبوا على نظامهم من أجل أي نظام آخر، طالما أنّ النظام السعودي قادر على إرضائهم. لا تتبدل هذه القاعدة، أو يزحزحها شيء، حتى الدعم الأميركي لإسرائيل. إنها قاعدة ثابتة في حسابات النظام السعودي، بينما تتبدّل حسابات الأميركيين كالفصول. في الأساس، هكذا انطلقت العلاقات (الفصل الأول: حقبة الملك فيصل (1962 _ 1979) تعاون مشترك ـــ أجندات مختلفة)، بناءً على رغبة ايزنهاور، الذي اتجه إلى السعوديّة لصد جمال عبد الناصر ومنع سيطرته من بلوغ منابع النفط. شيئاً فشيئاً، يفند الكاتب ارتفاع منسوب الحماسة السعودية للتحالف مع الأميركيين، رغم البرودة التي شابت العلاقة في أكثر من محطة، وكانت أولاها سعادة الأميركيين بمواقف عبد الناصر من عبد الكريم قاسم والانقلاب العراقي (الديكتاتورية الحمراء).
لكن أبرز هذه المحطات التي أفرد لها الكاتب مساحة غير قليلة، كانت فترة «الحظر النفطي» الذي رافق حرب 1973. بيد أن «المملكة السعوديّة اعتبرت دوماً أن حلّ الصراع العربي ـــ الإسرائيلي مسألة أساسية نظراً إلى أن استمرار العداء مع اسرائيل يحمل احتمال تعريض العلاقات السعودية ـــ الأميركية للخطر» (ص 117). وهذا ما يفسّر الوساطة التي حاول أن يقوم بها فيصل، بعد جولات وزير الخارجية الأميركي الشهير هنري كيسنجر، بين الرؤساء: حافظ الأسد، أنور السادات، الملك حسين ورئيس «منظمة التحرير الفلسطينيّة» ياسر عرفات. وكانت وساطة بائسة.
في الفصل الثاني وبقية الفصول، لا يلحظ القارئ أي تغيير من النوع الراديكالي في النظرة السعودية إلى الولايات المتحدة الأميركية. حتم انتصار الثورة الإسلامية في إيران على السعوديين تمتين علاقتهم بأميركا، على قاعدة أنّ طهران أصبحت خطراً جدياً على بنية النظام السعودي. لم يخفِ ذلك استياء السعوديين من «محاولات الأميركيين للتقرب من النظام الإيراني الجديد حرصاً على المصالح النفطية»، غير أنّ الولايات المتحدة سارعت وفقاً لنص اجتماع منشور في صحيفة «عكاظ» (29/6/1979) إلى طمأنة السعوديين بأن من «الممكن الاعتماد على أميركا في رعاية المصالح السعودية، من دون أن يعني ذلك التوقع بأنها ستحمي النظام القائم أو تحافظ على عائلة حاكمة في السلطة».
حماية المصالح السعودية ـــ رغم التقارب مع إيران ـــ تبدو حديثاً مألوفاً اليوم، يتم تداوله كثيراً في الإعلام، رغم اختلاف عناصر اللعبة في المنطقة اختلافاً جذرياً. في أي حال، بلغت مرحلة «الاعتماد الواسع» أقصى مراحلها بين البلدين عقب وصول «النار الشيوعيّة» إلى أفغانستان، وإلحاح السعوديين على الأميركيين بدعم «الثوار الأفغان». في 1988، ذهب الأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي في أميركا آنذاك، إلى موسكو، معلناً أنّه «جاء لإيجاد طريقة تؤمن للاتحاد السوفياتي انسحاباً مشرفاً من أفغانستان»، فهاجمه غورباتشوف قائلاً: «أعرف كل شيء عما تفعلونه هناك، أنتم تنفقون 200 مليون دولار سنوياً في أفغانستان»، فما كان من بندر إلا أن أجاب: «نستطيع أن نطبع المزيد دائماً (ص 169). هذا الحديث جاء استناداً إلى كتاب لوليام سيمبسون، عن القصة السريّة للأمير بندر بن سلطان. كان سخاء بندر مفرحاً للأميركيين بلا شك.
محطات أخرى كثيرة بيّنت حجم الاتصال بين حنكة الدبلوماسية الأميركية والاعتماد السعودي على النفظ، لدفع أميركا إلى حماية العرش. بعد الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، وفي خضم التوغل السعودي في الحرب الأهلية اللبنانية، كتب وليام كايسي، مدير الـ«سي. آي اي»، مذكرة إلى مستشار الأمن القومي، روبرت ماكفرلن (17 آذار/ مارس 1984) أورد فيها: «نظراً إلى الصعوبات المحتملة في الحصول على مخصصات إضافية للاستمرار في مشروع النشاطات السريّة في نيكاراغوا خلال الفترة المقبلة هذه السنة، أوافق كلياً على وجوب أن تسعى إلى استكشاف إمكان الحصول على تمويل مواز من السعوديين» (ص 221). وطبعاً، تم الاتصال بالسعوديين عبر لاعب واحد: الأمير بندر بن سلطان المقرّب من الأمير تركي الفيصل الذي قال: «نعادي السوفيات لأنهم ملحدون، لا بسبب علاقاتنا مع أميركا». بدا القول الأخير ساذجاً إلى درجة لا تحتمل، ولم يجد من يصدقه، لكنه كان قبل انطلاق حرب الخليج الأولى بست سنوات بالضبط.
أسهمت حرب الخليج في تكريس «المسؤولية المتبادلة» بين الدولتين وفقاً للكاتب، غير أنّ السعوديّة لم تستطع، «أقله علانية» في الدعم العسكري ضدّ أفغانستان، بعد 13 عاماً، رغم مشاركة النظام السعودي في حملة الشاجبين والمستنكرين، ضدّ الهجوم (11 أيلول) الذي كشفت الاستخبارات الأميركيّة أن 15 من أصل 19 منفذاً فيه كانوا سعوديين. في أميركا، روّج كثيرون من المحافظين مقترحات تدعو إلى تفتيت المملكة العربية السعودية، ما أغضب السعوديين. وهو غضب لن يفسد في الود قضيّة، لكنه سيمتد إلى حقبة خادم الحرمين الشريفين عبد الله (2001 ــ 2006) التي اختار الكاتب لها عنواناً: «مواجهة اتهام متبادل وخيبة».
نُشر الكتاب قبل ما عُرف اصطلاحاً بالربيع العربي، وتالياً، لم يتطرق إلى الدور السعودي في أحداث الأخير. ورغم قيمة العمل البحثي الكبيرة، فإنه قطعاً بات يحتاج إلى إضافات جوهرية، لأنه نُشر قبل تسلم الرئيس حسن روحاني سدة الحكم في إيران، وانطلاق المفاوضات الأميركية ـــ الإيرانية التي قد تكون حاسمة بين الطرفين، وتشهد «صفقة القرن».