نجحت ايران في انتزاع اعتراف غربي – دولي ببرنامجها النووي، وإعادة رسم خطوط جديدة للمواجهة مع الغرب الذي تقوده أميركا زمامه، وصولاً الى فتح الأبواب مجدداً أمامها على الصعيد الدولي.
علي عبادي
نجحت ايران في انتزاع اعتراف غربي – دولي ببرنامجها النووي، وإعادة رسم خطوط جديدة للمواجهة مع الغرب الذي تقود أميركا زمامه، وصولاً الى فتح الأبواب مجدداً أمامها على الصعيد الدولي. وضعٌ جديد بلا شك يريح ايران سياسيا واقتصاديا ويهيء لإمكان فتح ابواب مغلقة اقليمياً، في ضوء سياسة المواجهة لاميركية التي اغلقت كل المنافذ أمام ايران لمحاصرتها وخنقها، وبنى عليها "الحلفاء" حساباتهم غير القابلة للمراجعة ليفاجأوا اخيراً بأنهم تـُركوا في منتصف الطريق.
دلالات اتفاق جنيف
1- الإستعجال الأميركي للتسوية
مثـّل اتفاق جنيف بين ايران والدول الست التعبير الأوضح عن توازن قوى دولي – اقليمي يصعب على أي من القوى الموقعة عليه تجاوزه: لا تستطيع ايران ان تتجاوز التفاهم مع القوى الدولية للاستمرار في برنامجها النووي من دون أثمان باهظة، ولا تستطيع القوى الدولية، ولا سيما اميركا، ان تتجاهل واقع ان برنامج ايران النووي أضحى مشروعاً مستقلاً قائماً بذاته لا يمكن القضاء عليه ببساطة، كما لا مجال للتهرب من الاعتراف بأن سياسة العقوبات وحدها غير كافية لترويض ايران، وهي اصبحت عبئاً على حلفاء اميركا (أوروبا، تركيا، وغيرها من الذين يطلبون استثناءات لاستيراد النفط الايراني). فإذن لا بد من محاورة طهران والإقرار ببعض مصالحها لفتح المسالك المعقدة أمام واشنطن في المنطقة.
بات واضحاً انه بمقدار ما ألزم الرئيس الايراني الشيخ حسن روحاني نفسه أمام ناخبيه بإيجاد حل سياسي لمسألة البرنامج النووي الايراني بالاعتماد على المرونة والمبادئ في آن واحد، فان اميركا رأت في ذلك فرصة لا يمكن تفويتها. ظهر ذلك جلياً من البدايات: من تكليف الرئيس الاميركي وزير خارجيته بحضور اجتماع نيويورك حول الملف النووي في شهر ايلول/ سبتمبر الماضي، مرورا باتصاله شخصياً بالرئيس الايراني، وصولاً الى تأكيد إمكانية انجاز اتفاق في هذا الملف وإلحاح وزير الخارجية جون كيري على حضور مفاوضات جنيف. كانت الاشارات الاميركية بعيدة بصورة ملموسة عن نبرة التحدي والإملاءات التي طبعت الخطاب والممارسة الاميركيَيْن تجاه ايران خلال السنوات الماضية. لم يعد بمقدور اميركا المضي في هذا المسار الوعر، في ظل انخفاض قدرتها على الضغط والتحرك في اكثر من اتجاه. أصبحت السياسة مهرباً ملائماً لتعويض النقص الحاصل في امكاناتها على الحشد والضغط. فشلت سياسة العقوبات في إخضاع العناد الايراني، برغم تبعاتها الاقتصادية الكبيرة، وما دام ان الحرب متعذرة حتى إشعار آخر، فان الواجب يقتضي مسايرة مزاج القوى الكبرى الاخرى، ومنها روسيا والصين وحتى ألمانيا وبريطانيا. ليس هذا فحسب، بل ان الاميركي استعجل الحل مع ايران، حتى ضمن نطاق زمني أضيق من المهلة التي حددتها طهران لنفسها، وذلك يعود الى حسابات الادارة الاميركية الداخلية والخارجية: فهي تريد قطع الطريق أمام صقور الجمهوريين في الكونغرس الذين شحذوا أسلحتهم لفرض عقوبات إضافية على إيران ابتداء من اول كانون الاول/ ديسمبر، ما اعتبره اوباما محاولة لضرب المفاوضات وحشره أمام خيار الحرب، وهو قال علناً ان الشعب الاميركي لا يريد ان يخوض حرباً. كما ان الاستحقاق الداخلي الأهم المتعلق بالميزانية والديون سيعود الى الواجهة خلال شهور قليلة مع ما يحمل من إمكان تعطل الحكومة الاميركية ومواجهة تصنيف التعثر في سداد الدين. وثمة استحقاق خارجي هام متبق ٍفي أجندة أوباما، وهو تنظيم الانسحاب من أفغانستان، مع ما يتطلب من توفير مناخ هادئ مع القوى الاقليمية المؤثرة ومنها ايران. وقد تكون هناك أسباب اخرى غير منظورة.
وبسبب الاستعجال الاميركي، لم يتمكن الجانب الفرنسي من الوقوف امام إرادة الحل التي تطلبت تقديم تنازلات لمصلحة ايران ليأتي الاتفاق في غضون اسابيع قليلة وليس اشهر كما ذهب جون كيري من قبل (بالمناسبة: أين ذهبت شروط اولاند الاربعة للموافقة على "اتفاق متين"؟). كما لم يتمكن الاسرائيلي من التأثير على قرار واشنطن برغم لجوئه الى الضغط العلني ومحاولة تجييش الدوائر الاميركية الممالئة لإسرائيل.
2- ايران: الصمود وتحقيق الأهداف
قدّمت الجمهورية الاسلامية نموذجاً في الصمود والصبر لتحقيق مبتغاها. البعض يحصر المسألة في الجانب النووي، لكن لنتذكر جميعاً ان المسألة النووية ليست هي محور الصراع بين ايران الثورة وبين الغرب الاميركي. فمبادئ ايران الاسلامية التي تقوم على نصرة القضية الفلسطينية وعدم الاعتراف بإسرائيل ومساندة المقاومة في لبنان وفلسطين ومناهضة الاستكبار الاميركي كانت هي الدافع الأساس لسياسة الحصار والاحتواء التي انتهجتها اميركا بحق ايران منذ بدء الثورة، ولم يكن هناك حينها مشروع نووي محل إشكال.
لقد اصبح البرنامج النووي محوراً رمزياً متقدماً في الصراع مع الغرب الاميركي يقوم من وجهة نظر الجمهورية الاسلامية على ارادة الاستقلال العلمي والتكنولوجي والسياسي، وتـُبنى على أساسه حسابات عدة. وقد تمسك الايرانيون بشروطهم في المفاوضات النووية، ليس لأن مصير نظام الجمهورية الاسلامية يتوقف عند نسبة التخصيب او مصير اليورانيوم المخصب بنسبة 20 % او تشغيل مفاعلي اراك وفوردو، بقدر ما يهمه تثبيت الاعتراف بحقوقها وإجبار الغرب على الاذعان لمنطق القانون الدولي وليس منطق القوة والعقوبات. كانت تسوية جنيف، وهي خطوة اولى في اطار المفاوضات نحو اتفاق نووي شامل، ضرورية لكسب نقاط دفاعية في المواجهة الرامية الى تحصيل الحقوق والمكانة قبالة الغرب.
3- عزلة اسرائيل
كشفت مفاوضات جنيف بين ايران والدول الست عن افتراق مصالح اميركا واسرائيل بصورة ربما لم يسبق لها مثيل. وما لم ينجح العرب في تحقيقه على مدى عقود الصراع مع اسرائيل لجهة محاولة تحييد اميركا او كسب تأييدها للضغط على اسرائيل من اجل التنازل قليلاً في موضوع الانسحاب من بعض الاراضي العربية او وقف بناء المستوطنات او غيرها، حققه الايرانيون - عن قصد او غير قصد- عبر دفع المواجهة قدماً مع اميركا ووضعها أمام خيارين: تقديم مصالحها على مصلحة اسرائيل المعطِلة للحل النووي، او مجاراة الإسرائيليين الى نهاية المطاف، وقد اختار الاميركيون بالطبع مصلحتهم، لأن التفاهم مع ايران قضية محورية، والكلام عن "مظلة نووية ايرانية تهدد وجود اسرائيل" لا يمثل قضية بالقدر نفسه بالنسبة لهم.
الاسرائيليون يتحدثون الآن عن عزلة اسرائيل، ويعزو بعضهم السبب الى الأسلوب الديماغوجي الذي اعتمده نتنياهو في التصويت العلني الفج ضد الاتفاق، ويقولون ان على اسرائيل ان تقرر الخطوات التي تتناسب مع مصالحها بعدما تركتها واشنطن منفردة، وبعض عتاة الاسرائيليين لا يزال يحلم بعصر اليد الطويلة التي تصل الى كل مكان، برغم ان اوساطاً اسرائيلية تعترف بأن لا مجال لضرب ايران من دون اميركا. واذا استبعدنا لجوء الاسرائيلي الى خيار "انتحاري" لإشعال حرب في المنطقة وتعطيل الاتفاق الشامل بين الدول الست وايران، فان التحرك الاسرائيلي الجاري لن يُفهم الا على انه محاولة للضغط من اجل رفع سقف شروط الاتفاق الشامل او للحصول على ثمن مرتفع من اميركا، على غرار الثمن الذي تلقاه الكيان الصهيوني مقابل عدم الدخول في حرب الخليج الثانية عام 1991.
4- القلق السعودي
يعبر المسؤولون السعوديون بقدر أقل علانية من الاسرائيلي عن القلق من اتفاق جنيف. وبرغم ان الاتفاق يستبعد احتمال الحرب في المنطقة، وهذا مصلحة لجميع دولها التي عانت من ثلاثة حروب في ثلاثة عقود، ويرسي أساساً لمشروع نووي ايراني يتوافق مع المعايير الدولية، فان الانزعاج السعودي لا يمكن فهمه الا في اطار المنافسة التقليدية مع الدور الايراني.
ببساطة، السعوديون لا يخافون قنبلة نووية ايرانية يعرف الجميع انها ليست مشروع ايران ولا هي سبب اضافي لشعورها بالأمن، بقدر ما ستكون عبئاً اضافيا عليها، فقنبلتها النووية الحقيقية هي في انفتاح العالم عليها. الاعتراف الاميركي بدور اقليمي لايران هو المشكلة بالنسبة للرياض التي تريد ان تتفرد بالاهتمام الاميركي ولا تريد مشاركة ايران في هذا الامر. إضافة الى ان كل تقدم تحققه الجمهورية الاسلامية في أي مجال كان قد يترك آثاره على مجالات اخرى، وهذا قد يكون سبباً "للحسد" من اطراف اقليمية لم تستطع بالتعاون مع اميركا تقويض مكانة ايران.
ويبدو ان تطمينات جون كيري الاخيرة للمسؤولين السعوديين لم تكن كافية. لقد بنت السعودية سياساتها الحالية حيال ايران انطلاقاً من فرضية ان ايران ستسقط تحت تأثير العقوبات الدولية وان في التخلص من هذا "الغريم" المنافس مصلحة لها، ويبدو انها لم تحسب لخط الرجعة حساباً . فقد كانت، خصوصا خلال السنوات القليلة الماضية، تصور ايران على انها جزء أساسي من مشاكل المنطقة وليست جزءاً من الحل، وهي تبحث الآن عن أعذار لعدم الاعتراف بدور لها. وهذا خيار مكلف، لأنه يعني الاستمرار في قراءة الوقائع بذهنية سياسية جامدة لا تعمل لتدوير زوايا الخلاف مع جار هام، في حين ان السياسة تعمل في اطار الواقع وليس التمنيات.
ثمة اكثر من اشارة أرسلها مسؤولون سعوديون عن امكان لجوئهم الى الاعتراض على التوجه الاميركي نحو ايران بوسائل عدة، ربما من خلال تقديم دعم إضافي للجماعات المسلحة في سوريا، بغير سؤال عن العواقب والثمن المرتفع للأزمة السورية في عامها الثالث، وتحريك جماعات مناهضة لإيران في غير بلد من المنطقة، لكن أكثرها طرافة التلويح بالسعي الى امتلاك سلاح نووي رداً على البرنامج النووي الايراني (السفير السعودي في لندن محمد بن نواف بن عبدالعزيز ذهب الى ان "كل الخيارات متاحة"، وهذا يعيد الى الأذهان ما كانت الادارة الاميركية تقوله عن وضع جميع الخيارات على الطاولة لمواجهة برنامج ايران النووي!). ويذكرني هذا بقصة واقعية ذات دلالة كان آباؤنا يروونها لنا ومفادها "ان شاباً لبنانياً متديناً هاجر مع بعض مواطنيه في تاريخ مضى الى احدى دول اميركا اللاتينية لعلها الارجنتين، وهناك عملوا في أحد المصانع، وخطرَ للشاب المتدين ان يسأل مديره عن امكان اقتطاع بعض من الوقت لأجل الصلاة لأنها تحلّ وقت العمل، وسأله المدير عن وقت الصلاة ومقدار أدائها وتلاؤمها مع العمل فلم يجد في الأمر مشكلة وأعطاه أكثر من الوقت الذي طلبه وزاد احترامه للشاب العامل برغم اختلافهما في الدين. أصبح الشاب يستفيد من وقت العمل ساعة او نحوها للصلاة، وهذا أثار غيرة لدى رفاقه الذين لم يكونوا من المصلين، فعرضوا على المدير رغبتهم في الاستفادة من "فسحة الصلاة"، لكنه بنباهته أدرك انهم فضوليون لا أكثر وانهم لا يريدون الصلاة بدليل انهم لم يظهروا اهتماماً بالامر منذ البداية، فصرفهم عنه".
اذا كانت السعودية تريد برنامجاً نووياً، فالأمر متأخر عليها، برغم كونه مشروعاً، ولا يجوز في اي حال بناؤه لا على فكرة التسلح النووي الايراني لأنه غير مطروح، ولا على فكرة "اننا نريده لأن ايران لديها برنامج نووي". البرنامج النووي هو حصيلة تقدم علمي صناعي ويدور في اطار نهضة متكاملة ولا أدري اذا كان من الصحيح إنفاق عشرات المليارات هكذا لأجل المناكفة والمنافسة السلبية.
لقد مدّت الحكومة الايرانية يدها الى السعودية لتطوير العلاقات الثنائية وجعلتها أولوية في سياستها الخارجية (حتى في عهد الرئيس احمدي نجاد، طرحت طهران اثني عشر مشروعاً أولياً على قمة مجلس التعاون الخليجي في الرياض لتطبيع العلاقات بين الجانبين، ولم يلق الاقتراح صدى)، لكن الرياض لم تخرج بعد من أسر فكرة المواجهة التي غذتها السياسة الاميركية السابقة حيال ايران، فهل ينجح الأمر في ظل التحولات الراهنة؟
إن افتراض ان اتفاق جنيف يأتي حكماً على حساب السعودية او اي طرف عربي آخر يتطلب إعادة مراجعة، وفي ذلك مصلحة للجميع، لأن الخيارات الأخرى مدمرة ومكلفة وتصرف طاقات الأمة في غير مكانها الصحيح.
صحيح ان الاتفاق النووي في جنيف وما يستتبع من انفتاح غربي على ايران سيعطي لطهران قيمة إضافية في حضورها على الساحة الاقليمية، لكن ترجمته يمكن ان تكون بالتعاون لإرساء حلول لأزمات تستهلك طاقات الجميع، ومنها الأزمة السورية والوضع العراقي الدامي والجمود السياسي في لبنان، وأزمة البحرين والوضع اليمني المحاط بالمخاطر وغيرها، مما يسمح لشعوب المنطقة بالتنفس من غير هذا الهواء الملوث.