مغالطة في فهم فلسفة الدولة ووظائفها تقع فيها الجماعات الاسلامية، وهو تقديم الطابع العقابي للدولة على الطابع الرعائي. وتنبغي الإشارة هنا إلى أنّ الدولة ليست أداة لإقامة الدين، بما لديها من سلطة أو قوة
ليست الدولة أمراً الهياً، بل هي حاجة اجتماعية. وقد عرّف القانون الدستوري الدولةَ بأنها أرض وشعب ومؤسسات، وغياب عنصر من هذه العناصر الثلاثة يفقدها مضمونها. وإذا كان العنصران الأول والثاني، أي الأرض والشعب، غالباً ما يكونان غير خاضعين لإرادة اجتماعية، فإنّ العنصر الثالث، وهو المؤسسات، إنما يكون نتيجة حاجة المجتمع إليها، فيحدث من المؤسسات على اختلاف أشكالها ووظائِفها ما يغطي حاجاته. فإذا انتفت الحاجة إلى المؤسسة ألغاها ولم يعد لها وجود.
الشيخ مصطفى ملص / جريدة الأخبار
عضو مجلس أمناء تجمع العلماء المسلمين، / وعضو المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى ــ لبنان
وإذا كانت تعاليم بعض الأديان تعالج حاجات المجتمع، فهذا لا يجعل من الدين دولة، فوظيفة الدين في حياة المجتمعات تختلف عن وظائف الدولة ومهماتها. والدين الإسلامي الذي أرشد المؤمنين به إلى علاج بعض المشاكل الاجتماعية كالإرث والحدود والقصاص، فإنه لم يتطرق إلى مسألة إقامة الدولة على نحو صريح ولم يحدد لها الهيكليات المطلوبة، بل إننا نستطيع القول إنّه ترك للمؤمنين حرية التصرف تجاه هذا الأمر، باعتباره أمراً يهمّ الناس جميعاً فقال تعالى: «وأمرهم شورى بينهم».
وهذه الآية عامة في معناها، إذ إنها ترجع كل أمر من أمور الشأن العام في الجماعة المؤمنة إلى هذه الجماعة وما تراه مناسباً لها. والدولة هي أحد أهم الأمور الاجتماعية نظراً إلى تعلّقها بالمصلحة العامة. ولقد أدرك المسلمون الحاجة إلى تنظيم الدولة بعد وفاة رسول الله (ص) فسارعوا إلى مبايعة أمير عليهم يكون خليفة للنبي (ص) في إدارة شؤون الجماعة المؤمنة، إذ إن الرسول (ص) كان يدير شأن المسلمين مستنداً إلى كونه رسولاً يوحى إليه أولاً، كما أنه كان يسترشد برأي الناس وأصحاب الخبرة في القضايا التي لا يكون فيها وحي ثانياً، كما فعل في العديد من المعارك العسكرية التي خاضها ضد قريش وغيرها، وبانقطاع الوحي بوفاة النبي (ص)، أخذ المسلمون أمورهم وفق ما هو متعارف عليه، مسترشدين ما أمكن بالضوابط الواردة في الكتاب الكريم أو السنة النبوية المطهرة.
وبمراجعتنا لمسألة اختيار الخليفة في عهد الراشدين، نجد تبايناً في طريقة اختياره، فاختيار أبي بكر كان بمبادرة من عمر بن الخطاب، إذ قطع نقاش المجتمعين في السقيفة بقوله لأبي بكر: مد يدك لأُبايعك وهكذا حصل. ثم قال عمر بعد فترة من تلك المبايعة: «لقد كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها، لا تعودوا إلى مثلها أبداً». ذلك أن عمر ربما يكون قد أحرج الجميع بفرضه بيعة أبي بكر بهذه الطريقة، وهذا أمر مرفوض بحسب القواعد الإسلامية. ثم أوصى أبو بكر بالخلافة لعمر، ثم عندما طُعن عمر أنشأ مجلساً من ستة أشخاص أُوكل إليهم أمر اختيار الخليفة من بعده، فاختير عثمان بن عفان ثم قتل عثمان، فاختير علي ابن أبي طالب بالشورى العامة.
ثم تغيّر الأمر مع بني أُمية من خلافة إلى ملك عضوض على القواعد الكسروية والقيصرية. وهكذا نجد أن تصرف المسلمين قد اختلف بين مرحلة ومرحلة. هذا ما يدل على أنه ليس هناك طريقة محددة وملزمة، بل يترك الأمر للناس ليتصرفوا بحسب ما يرونه مناسباً طبعاً هذا عند أهل السنّة، أما الشيعة، فقالوا بوجود نصّ بتولية علي بن أبي طالب للخلافة وهو ما لم يعمل به.
وللتأكد من أن أمر الدولة مسؤولية غير دينية، بل مسؤولية اجتماعية نلقي نظرة على ما قام به المسلمون في زمن عمر بن الخطاب، وما تلاه من خلفاء لجهة انشاء المؤسسات كالدواوين، والبريد، وغيرها. فنجد أن المسلمين كانوا في هذا المجال عالة على الفرس والروم الذين سبقوهم في إقامة الدول ومؤسساتها. لقد استُحدثت مؤسسات الدولة التي أشرنا إليها بمساعدة العناصر الفرس أو الروم أو القبطيين، وقد وضعت الدواوين بلغاتهم، ولم تعرب أو يبتدئ تعريبها إلا في عهد عبد الملك بن مروان.
وقد يخيَّل لبعضهم لشدة تعصبه أنّ هذا الكلام يمثل مطعناً في الدين. على العكس من ذلك، نحن نرى أنّ عدم تطرق النصوص الدينية الأساسية إلى كثير من الأمور المتغيرة بفعل التطور وتقدم الزمن، هو من كمال الدين ومرونته. لقد وضع الدين القواعد الأخلاقية والضوابط العلمية والعقلية التي تحكم تصرف الانسان، الفرد أو الجماعة وترك لهم حرية اختيار الآلية التي تتناسب مع واقعهم الزماني والمكاني، ومع التطور الذي يطرأ عليهم.
من هنا نرى أنّ تسمية الدولة بالاسلامية هو من لزوم ما لا يلزم، لأن الدولة تتجلى فيها صورة المجتمع الفكرية والأخلاقية، ومن هذه الصورة تتشكل مرجعيتها.
إشكالية الدولة
تعدّ اشكالية الدولة عند الاسلاميين من أهم اشكالياتهم المعاصرة، نظراً إلى ما يُعلّقون عليها من آمال لاستعادة مجدهم، الذي يرون أنه ضاع مع سقوط دولة الخلافة العثمانية، إلا أنهم يتعاطون مع المسألة بخفة وسطحية ظاهرة، فالتنظير للدولة الاسلامية يقوم على شعارات وعناوين عامة تستحضر فترات زمنية يعتقدون أنها تمثل قدوة ومثالاً، مع بعض المبادئ الأخلاقية والسلوكية. وهذه الشعارات والمبادئ قد تغري عوام الناس وتجعلهم يعيشون حلم العيش في رومانسية تاريخية، لكن كل ذلك لا يقدم شيئاً في سبيل تأسيس دولة.
إنّ التركيز على عنصر القوة، والاعتقاد أنّ فرض السيطرة العسكرية على الأرض والامساك بالسلطة، هو إحدى أهم نقاط ضعف الاسلاميين في سعيهم لإقامة الدولة. ذلك أن اهمال وتجاهل وظائف الدولة الأخرى، ولا سيما على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والرعائية يضع التجربة على طريق الفشل الذريع. إنّنا نراهم يصرفون كل الجهد من أجل تجنيد المقاتلين وتعبئتهم للقتال، فيما لا نرى أي اهتمام بتهيئة وتنشئة كوادر تتولى إدارة الدولة بعد تسلّم السلطة، وهذا ما لاحظناه في تجربة الإخوان المسلمين في مصر.
السلطة والدولة
يتجه معظم المنادين بإقامة الدولة الاسلامية نحو اعتبار أنّ الدولة مجرد سلطة. ويرون أنّ السلطة هي سبيل الاصلاح، منطلقين من مقولة تنسب إلى عثمان بن عفان: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، ويقدمونها على كل اعتبار آخر وهذا خطأ جسيم وقع فيه الاسلاميون منذ زمن بعيد، وظهرت آثاره في كل تجاربهم لاقامة سلطة ما، أو دولة كما حصل في أفغانستان والصومال وغيرها من التجارب.
إنّ السلطة جزء من الدولة لا كل الدولة، وتضخيم حجم السلطة بها بحسب رؤية الاسلاميين، هو شعور بالحاجة إلى القوة لمواجهة التحديين، الخارجي والداخلي. أما التحدي الخارجي، فهو لمواجهة اعداء الاسلام من غير المسلمين الذين تقوم العلاقة معهم على نظرية الحقد والتحدي والثأر التاريخي بالاضافة إلى عداء العقيدة (دار الحرب)، وهذا مفهوم نمطي للعلاقة مع الآخر يحتاج إلى إعادة نظر جذرية، فليس صحيحاً أن كل مخالف عدو.
وأما التحدي الداخلي، فهو مواجهة المسلمين في الداخل الذين لا ينصاعون للحاكم المسلم، أو الذين يخالفون توجه الجهة الممسكة بالسلطة، وكذلك لردع مرتكبي المعاصي وذلك بإقامة الحدود الشرعية والقصاص والتعذير، ويمكن أن نسمي هذا الاتجاه بالاتجاه القمعي. ومن المفترض أن يعمل على تقويم الانحراف بالدعوة وتهيئة الأجواء المؤاتية أولاً، لا بالقمع والاكراه.
إن هذه مغالطة في فهم فلسفة الدولة ووظائفها تقع فيها الجماعات الاسلامية، وهو تقديم الطابع العقابي للدولة على الطابع الرعائي. وتنبغي الإشارة هنا إلى أنّ الدولة ليست أداة لإقامة الدين، بما لديها من سلطة (أي قوة اكراه)، لأن ذلك يتعارض مع التوجيه القرآني (لا إكراه في الدين)، ولأن الدين قناعة وإيمان يسهم في تكوينهما الحجة والبرهان والدليل، وليس القوة والاكراه. وإنما الدولة أداة لتحقيق العدالة وحماية الحقوق بما تمتلك من وسائل وإمكانات وفي مقدمها قوة السلطة.
إن هذه المفاهيم الخاطئة التي تحكم سلوك الجماعات الاسلامية هي السبب الأكيد لفشلهم في إقامة الدولة الاسلامية حاضراً ومستقبلاً، فضلاً عن عدم وجود نظرية علمية متكاملة، لما يسمى دولة اسلامية. مما يبقي الأمر دائراً بين الحلم والوهم.