ترافق السعي الصهيوني لإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين مع محاولات إثبات أن الأساطير التوراتية هي وقائع تاريخية تثبت «الحق الإلهي» لليهود في الأراضي المقدسة
حلمي موسى
ترافق السعي الصهيوني لإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين مع محاولات إثبات أن الأساطير التوراتية هي وقائع تاريخية تثبت «الحق الإلهي» لليهود في الأراضي المقدسة. وقد حاول علم الآثار الصهيوني بكل الجهد العثور على إشارات تدل على أن هذه الأساطير أو شيئاً منها كان قائماً. ولكن النتائج كانت شحيحة جداً برغم الكثير من الاختلاقات والتزييفات، التي سرعان ما كانت تكتشف وتجد في العالم من يفندها. ومن بين هذه الأساطير تبرز أسطورة «قلعة مسادا»، التي تفيد بقصة بطولة المحاربين اليهود أمام الغزو الروماني في العام 73 من القرن الأول الميلادي. ويقف اليوم علماء آثار يهود يكشفون أن قصة مسادا البطولية لم تحدث أبداً، وأنها ترعرعت في أحضان الفكر الصهيوني، الذي أراد أن يخلق منها قصة توحيدية تربط اليهود بالمكان وتشبثهم به.
وفيما تتحدث الروايات التاريخية عن أن الملك هوردوس اتخذ الجبل المطل على البحر الميت حصناً له، تتحدث رواية يهودية عن أن متمردين يهوداً احتلوا القلعة وتحصنوا فيها إلى أن قامت الفرقة الرومانية العاشرة بإعادة احتلالها. وتضيف الرواية اليهودية أن المتمردين اليهود وخشية تعرضهم للتنكيل أو التحول إلى عبيد قرروا الانتحار الجماعي وقتلوا أطفالهم ونساءهم. والواقع أن الروايات اليهودية التقليدية تنكرت لهذه القصة واعتبرت أن الانتحار الجماعي عمل يخالف الشريعة وأنه لم يحدث. ثم جاءت الحركة الصهيونية منذ مطلع ثلاثينيات القرن الماضي لتحيي الرواية وترسخها. وبدأت الدولة الصهيونية منذ مطلع الستينيات بأوسع عملية تنقيب بقيادة رئيس أركان حرب 1948 الجنرال يجئال يادين في إطار حملة لجمع التبرعات لتشجيع أعمال التنقيب عن الآثار اليهودية في فلسطين.
وبعد ذلك غدت «مسادا» أقرب إلى شعار يُستخدم للتحريض القتالي حيث يقسم أفراد الجيش الإسرائيلي الأغرار «ألا تسقط مسادا ثانية». واندفع ساسة وخبراء علم نفس لمقاربة السياسة الإسرائيلية العدوانية من هذا المنطلق، معتبرين أنها تنطوي على تأثر بـ«عقدة مسادا»، التي تجعل الخوف من المستقبل ذهاناً وجودياً مسيطراً يدفع بكل القوة إلى تركيم عوامل القوة وعدم التوقف عند حدود.
وقد كتب الباحث السوسيولوجي في الجامعة العبرية في القدس الدكتور نحمان بن يهودا، مؤخراً، كتاباً بعنوان «الأركيولوجيا وأسطورة مسادا»، يعالج فيه المسألة ودور يجئال يادين في خلقها. والواقع أن الخلاف بهذا الشأن يعود إلى 50 عاماً مضت، عندما بدأت حفريات «مسادا» بمشاركة العشرات من علماء الآثار وآلاف المتطوعين واستمرت عامين بعد إعلان يادين أن «مسادا رمز لبطولة إسرائيل». وكتب يادين في كتابه «مسادا في تلك الأيام في هذا الزمان»، أنه «بدلاً من أن يغدو عبيداً للمحتلين وضع المدافعون، 960 رجلاً، امرأة وطفلاً، حداً لحياتهم بأيديهم».
ولكن بعد 11 شهراً من الحفريات برزت تساؤلات: لماذا لم تكتشف في المكان أي آثار لجثث المنتحرين؟ وقد رد يادين، الذي بحث عبثاً عن الجثث في كل مكان ولم يجد شيئاً، أن الجنود الرومان أحرقوا الجثث ونُثر رمادها في كل الاتجاهات.
ويقول عالم الآثار مئير بن دافيد، الذي شارك في الحفريات مع يادين، وفق صحيفة «معاريف»، إنه «أثناء الحفريات قلت ليادين إنه لا قصة بطولة هنا. لدى يادين مشكلة. تبلور الموقف عندي بسرعة. كان انتحار في مسادا، لكن لا معنى له. هذه ليست أسطورة بطولة. أناس ذبحوا بعضهم بعضاً. ماذا يعني أن تأخذ أطفالاً وتقتلهم؟... من يتحدثون عن بطولة مسادا لا يعرفون ما يتحدثون عنه. لم تكن بطولة».
وطوال 50 عاماً ظهر من زعزع أسطورة مسادا، وقال إنه لم يكن في المكان محاربون، وأن من كان في المكان لم ينتحر. وقال آخرون إن من انتحروا في المكان لم يكونوا أبطالاً، بل مجرد قتلة جبناء خافوا محاربة القوات الرومانية، وأن الحصار في المكان دام أسابيع معدودة وليس ثلاث سنوات.
ومن بين أبرز من تصدى لأسطورة مسادا الباحثة الأميركية ترودا فايس روزمارين، التي أكدت في محاضرة في القدس في العام 1973، أن قصة مسادا لم تحدث أبداً، وأنها مجرد «اختراع من محارب لم يحارب». وقالت إن «المحاصرين في القلعة تمتعوا بتفوق تكتيكي على الرومان. وهم لم يعانوا من الجوع أو الانهيار النفسي، ولذلك ليس منطقياً أن يختار بضع مئات من الناس الانتحار بدلاً من أن يحاربوا».
ويتفق الكثير من الخبراء الإسرائيليين مع روزمارين، ومن بينهم البروفيسور جروم مارفي أوكنار من «المدرسة التوراتية» في القدس، على أن «أي انتحار لم يقع في مسادا».
وفي حديث إلى صحيفة «الغارديان»، قال البروفيسور البريطاني ديفيد ستايسي، الذي شارك في حفريات مسادا قبل 50 عاماً، إن «الانتحار في مسادا اختراع، ولا إثبات له. فهل إصرار يادين عليه كان لأنه قومي، أم لأنه أراد تجنيد أموال للحفريات؟ لقد كان رجلاً تنفيذياً متطوراً يعرف أنه من أجل النجاح أنت بحاجة إلى تسويق قصة. وقد نجح».
وحمل المؤرخ الأميركي المتخصص في فترة الهيكل الثاني البروفيسور شلومو تسايتلين على أسطورة مسادا، مؤكداً أن المحاربين لم يكونوا مقاتلي حرية، بل «سيكريم» ــ طائفة متطرفة فضلت الانتحار عبر انتهاك مبادئ الشريعة اليهودية ــ بدلاً من محاربة الرومان.
عموماً يخلص البروفيسور نحمان بن يهودا إلى أن يادين «ضلل، زوّر وأخفى حقائق. وقصة البطولة في مسادا ببساطة لا وجود لها». وفي نظره «الأمر يتعلق بتمرد محكوم بالفشل. كانت نهايته الفشل الذريع، الذي تجلى بدمار الهيكل الثاني والقدس، والقتل الجماعي لليهود بأيدي الجيوش الرومانية والانتحار المأساوي المذهل».
ولكن الكثير من الباحثين يؤكدون أن كل قصة مسادا من أساسها لم تحصل.
http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionId
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه