عندما أقرت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في أيار من العام 2010 , وبانت خيوطها التفصيلية , كان أوباما حينها يتلمس وبشكل جدّي ,أن الإمبراطورية الأمريكية قد دخلت فعلاً في مرحلة من الأفول
حسن شقير*
عندما أقرت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في أيار من العام 2010 , وبانت خيوطها التفصيلية , كان أوباما حينها يتلمس وبشكل جدّي ,أن الإمبراطورية الأمريكية قد دخلت فعلاً في مرحلة من الأفول , وأن المكابرة ما عادت لتنفع في التعمية والتغطية على ذلك, وخصوصاً مع تلك الأزمة المالية والإقتصادية التي عصفت بأمريكا , والتي ورثها عن سلفه بوش , حيث اعتُبِرت مؤشراً قوياً , دالاً على عمق الهوة التي بدأت تهوي فيها هذه الدولة – القطب .
منذ ذاك الحين عكفت أمريكا على وضع الترتيبات الخاصة بذاك التراجع , والسير به خطوة خطوة , حتى لا يكون سقوطها مريعاً في العالم , مما قد يتسبب بتداعيات كارثية عليها وعلى حلفائها وأذنابها في الشرق الأوسط تحديداً , لا بل في العالم أجمع .
ولكن السؤال البديهي الذي يطرح نفسه: هل التزمت أمريكا في زمانها التراجعي هذا بالتخلي عن مصالحها الإستراتيجية في المنطقة , لصالح اللاعبين الجدد من روسيا والصين وإيران وباقي أطراف محور الممانعة ؟ الجواب البديهي والمنطقي , بالتأكيد لا ... فمنطق المصالح يحكم على هذه الدولة – الهرمة , بألاّ تُسلِّم مصالحها على طبقٍ من ذهب لخصومها , فكيف بأعدائها ! وذلك على الرغم من العصر التراجعي الذي يعصف بها .
تماهياً مع هذا المنطق , وفي عودةٍ إلى تلك الإستراتيجية المشار إليها سابقاً , بدأت أمريكا تنفذ ما ورد فيها من بنود , وُضِعت خصيصاً لهذا الزمن الأمريكي , بغية الحد من الخسائر , والحفاظ على ما أمكن من مصالحها الإستراتيجية , وأمنها القومي في المنطقة العربية والإسلامية , فوضعت اليوم على الطاولة بعضٌ مما ورد فيها , وتحديداً حول " مساعدة الدول الحليفة في الدفاع عن نفسها " و " إقامة الشراكات الأمنية بين الحلفاء " وغيرها من الإستراتيجيات الأمريكية المُقنّعة التي حان العمل بها في هذا الزمن التراجعي الأمريكي .
تتمظهر استراتيجية إقامة الشراكات الأمنية بين الحلفاء بأبهى صورتها اليوم , في ذاك التنسيق الذي بدأ يطفو على السطح بين بعض الدول العربية , وتحديداً الخليجية منها , مع الكيان الصهيوني , حيث تمثل هاتان المنطقتان المصالح الأساسية للأمن القومي الأمريكي , مرتكزةً – أي هذه الإستراتيجية – على ما يمكن تسميته بالعزل على الصعد كافة , وذلك كمقدمة حتمية في حماية المصالح الأمريكية في المنطقة , والتي من أهمها , أمن الكيان الصهيوني , ومصادر الطاقة في الخليج العربي والشرق الأوسط برمته .
في الحديث عن العزل بفئاته المتنوعة , يمكننا رصد العزل الخليجي , والعزل السوري , والعزل اللبناني , والعزل الإخواني , فضلاً عن العزل الفلسطيني ,وصولاً حتى الإيراني – ولو بطريقة مختلفة – كما سيرد لاحقاً .
في العزل الخليجي
لم تتماش المملكة العربية السعودية مع سياسة الإنفتاح التي تتبناها أمريكا اليوم مع إيران , وذلك كما توقعها الكثيرون , لأن منطق الأمور كان يفترض حدوث ذلك , وخصوصاً ان هناك سابقة لبست بعيدةً في الزمن , حدثت في بدايات عهد أوباما وانفتاحه على سوريا , مما لحقته تالياً " المسامحة والمصالحة " السعودية تجاهها , ومعها كل أولئك المستتبعين من اللبنانيين وغيرهم في المنطقة .
هذه المرّة لم تجر الأمور كما سابقتها , لا بل على العكس , اتخذت السعودية موقفاً حرداً من أمريكا , ومتباعداً أكثر مع إيران وحلفائها في المنطقة , إلى حد انتقاد السياسة الأمريكية الجديدة على العلن , فسارعت إلى الجنوح مسرعةً نحو الكيان الغاصب , كون العداء لإيران – كما تراه السعودية – مشتركاً مع الكيان الصهيوني ! واعتمدت أسلوبها الجديد في السياسة الخارجية , والقائم على العزل , لكل من تناصبهم العداء (إخوان مصر على سبيل المثال), وحثت حكومة البحرين على شهر سلاح طائفي مذهبي بغيض بوجه الثورة البحرينية التي حافظت على سلميتها واستقلاليتها – وبشهادة دولية - , ألا وهو قانون إسقاط الجنسية عن المعارضين ! وإسدال هذه الأخيرة على غير مستحقيها من المتبحرنين الجدد , والذين لا يمتون بصلة إلى البحرين !
لا يمكن لأي متابع للأسباب الخفية التي دفعت السلطة في البحرين لتبني هكذا قانون ساقط في كافة الأعراف والقوانين الدولية , إلاّ أن يعتبر ذلك - بشقه المعلن - عبث بالديموغرافيا البحرينية من جهة , ومن جهة أخرى , وهي الأساس , ليكون مقدمة لقمع الثورة الناصعة وترهيب فئاتها المجتمعية العريضة , لأنه لو قُدِّر لهذه الثورة أن تصل إلى مبتغاها في المشاركة السياسية الحقيقية , لكان الوجه السياسي للبحرين سيصبح مغرِّداً خارج سرب المنظومة الخليجية في مجلس التعاون , والتي تلتجأ اليوم نحو الكيان الصهيوني لإقامة الشراكة الأمنية معه بوجه ما أسموه المد والنفوذ الإيراني في المنطقة !
في العزل السوري
يتخذ العزل في سوريا أشكالاً متعددة , فمن العزل السياسي للنظام فيها , وذلك بسلبها مقعدها في الجامعة العربية , ومحاولة تكرار ذلك حيثما أمكن , إلى العزل الديموغرافي للشعب السوري , والتي أجبره الإرهاب على السير به , وخصوصاً في السنتين الأوليتين من عمر الأزمة , والتي يعمل الجيش السوري اليوم على كسر هذه العزلة الديموغرافية لبعض فئات الشعب السوري , بعزل الإرهاب ومحاصرته .. وصولاً إلى العزل الإقتصادي خارجياً وداخلياً , وذلك كان بتطويق مراكز الثقل في الدولة السورية ببؤرٍ إرهابية تهدد صمودها على الدوام , فضلاً عن العزل الجغرافي – الذي هو مطلب وهدف صهيوأمريكي – من الجولان , ودرعا , وحلب , والحسكة , فضلاً عن القلمون وغيرها من المناطق السورية التي تطل منها سوريا على العالم .
في العزل اللبناني
وفي متابعة للعزل السوري , والتي سعت إليه أمريكا منذ بداية الأزمة , أضحت المقاومة في لبنان – وبضغط سعودي هائل – هدفاً لمحاولة إدخالها في العزل السياسي الداخلي , بعد أن فشلت بعزلها في الميدان السوري , وقد تجلى ذلك بمنع قيام حكومة وحدة وطنية لغاية اليوم , ناهيك عن العزل بواسطة الإرهاب الذي يُطلق في البيئات الحاضنة للمقاومة من حينٍ لأخر , وذلك بغية عزل هذه الفئات عن باقي أطياف المجتمع اللبناني , فضلاً عن تلك الإغراءات التي يُلوّح بها للبعض تارةً لفك تحالفاته مع المقاومة , واتهام من تتحالف المقاومة معهم بالقيام بتفجيرات إرهابية على أسس طائفية , دون أن نغفل عن القرار الأوروبي المضغوط على أمره باعتبار " الجناح العسكري " للمقاومة , فصيلاً إرهابياً ( لقد تذكرت اليوم توصية أحد المفكرين الأمريكيين- اللبناني الأصل- لي ,ممن يُسمون في أمريكا بدبابات الفكر , عندما أبلغني في إحدى الندوات بأن أخطر السيد نصرالله بضرورة " الإنفتاح على الأخرين بكل ما أوتي من قوة " ).
في العزل الفلسطيني
منذ أن أغريت بعض الفصائل الفلسطينية المقاومة بالخروج من " السفينة الغارقة " , وضرورة صعودها على مركب حلف الإعتدال بوجهه الإسلامي – التركي , والذي صُوِّر لها أن سني حكمه ستكون مديدة , وذلك بفعل مؤثرات جمة , لا مجال لسردها هنا .. منذ ذلك الحين دخلت هذه الفصائل برجليها بالعزل المدبّر لها , فما لبثت بعد برهة وجيزة من الزمن , أن وجدت نفسها عالقةً في حصار عدوٍّ لئيم لا يرحم , وخصومةٍ مستجدة مع أطراف تتفاوت درجة الخصومة معهم .. ولم يقتصر الأمر على هذا الفصيل المقاوم , فحال السلطة الفلسطينية , لم يكن بعيداً عن هذا العزل , حيث أوجدت نفسها هذه الأخيرة أيضاً معزولةً بين المطرقة الأمريكية بضرورة متابعة التفاوض مع الكيان , وسندان التهويد والإستيطان لهذا الأخير على ما تبقى من جغرافيا فلسطين .
لعل العزل هو سمة المرحلة في زمن تساقط النفوذ الأمريكي , فهل يسعى هذا الأخير بإدخال العزل إلى فئة من فئات الشعب الإيراني , وهو ينفتح اليوم على الجمهورية الإسلامية بوجهها المعتدل ؟ إنها " الشيطان الأكبر " الذي يتوقع منه كل شيء , فالمكيافللية , هي سمةٌ للسياسة الخارجية الأمريكية على الدوام.
* باحث وكاتب سياسي لبناني
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه