27-11-2024 09:33 AM بتوقيت القدس المحتلة

عن «حرب اليسوعية»... بصراحة

عن «حرب اليسوعية»... بصراحة

لكن المشكلة في هؤلاء أنهم وُلدوا في بيئات ارتزقت تاريخياً في السياسة على ثلاثة عناوين: العداء لسوريا، العداء للمسلمين، والثورة على الإقطاع. فجأة، وجد هؤلاء أنفسهم أمام مأزق. عليهم أن يستمروا بالارتزق

إشكال جامعة اليسوعيةهل من الممكن البحث بصراحة في «قضية اليسوعية»، بالإذن من كل المعنيين؟..  ثمة جوانب عديدة متشابكة مترابطة في المسألة، بعضها «طبيعي» عادي، وبعضها الآخر «تقليدي» وطني، وبعضها الثالث مستجد طارئ ومقلق.


جان عزيز / جريدة الأخبار

في العادي والطبيعي أن يقع إشكال بين طلاب في جامعة. إنه منطق الهويات الطالبية وقاعدة البيئات الجامعية في أي مكان من العالم وأي زمان من أزمنة وجود الجامعات. حتى العنف مسألة مألوفة في هذا المجال، علماً بأن بلداناً متطورة باتت تشهد حالة عنف جامعي خطير جداً ودموي ومأساوي، لم يعرفها لبنان قط ولن يفعل حتماً، نظراً إلى ضوابط كثيرة كامنة في شخصية اللبناني عامة والطالب اللبناني خاصة، ما يشكل عنصراً من عناصر الأمان المجتمعي العميق، رغم كل مآسي الحروب حتى الأهلية. ومن هذا المنظار يمكن تصنيف ما حصل في «اليسوعية» أمراً عادياً طبيعياً مألوفاً في كل جامعة.

ثم هناك جانب «تقليدي وطني». بمعنى أن هذا هو لبنان، بكل بساطة. فهو تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً، وحتى يقضي الله أمراً، أو يُقضى على أمر «الله» في السياسة على الأقل... هو هذا اللبنان نتاج صراع دائم بين هويات الجماعات الطائفية. حتى حين انحدرت تلك الجماعات إلى مستوى القبائل السابقة لمفهوم المجتمع الحديث، وحتى حين سقط زعماؤها إلى درك المافيوزية المضاربين على منطق الدولة العصرية، ظلت تلك الجماعات في وجدانها وسلوكياتها ومكبوتاتها، تتصرف كوحدات سوسيولوجية تامة. والأهم أنها ظلت تعتبر الدولة وسيلة، فيما الجماعة هي الغاية.

وعلى طريقة تنسيب القيم، يصير ما هو خير لطائفة هو الخير المطلق. فالعامل المسيحي مثلاً، يضحي بديمقراطية كل الحركة النقابية وفاعليتها ودورها الأساسي في أي مجتمع، من أجل أن يبقى مركز ما في تلك الحركة الصورية حكراً على المسيحيين. وسائق التاكسي السنّي مثلاً، قد يسكت عن زيادة ضريبة البنزين، إذا ما سُوّقت لديه الفكرة على أنها لصالح سياسات رئيس الحكومة السنّي. والشيعي قد يحتمل احتضار الحركة السياحية في مناطقه وتداعيات ذلك على بحبوحته وعيشه، إذا قرأ ذلك كنتيجة من نتائج الأداء العام لفريقه السياسي. هو العامل الديني فاعل أول إذن، وشامل ومعمم. فبعد 14 قرناً على الأقل من «التعايش ـــ التجاوري» لا التجاوزي ولا التفاعلي، بين تلك القبائل، ظل كل منها يعتبر نفسه فوق الدولة قيمياً، لمجرد أن قبيلته كانت قبل الدولة تاريخياً...

وبهذا المعنى، ما حصل في اليسوعية أمر تقليدي وطني بلدي بامتياز. وهو نسخة عما يحصل في هذا المكان المسمى وطناً، في أي لحظة وأي موقع. فالصراع الطائفي في لبنان بات ممتداً من لجة المواطن إلى قمة الرؤساء. هذا إذا كان موقع الرؤساء عندنا قمة، وإذا لم يكن موضع المواطن أكثر من لجة. مروحة الصراع الطائفي تبدأ على مستوى البؤساء الجائعين بين جبل محسن وباب التبانة، الذين ظلت أساطير «المقدس» عندهم أقوى من وحدة لقمة خبزهم ومصير حياتهم وموتهم المشتركين. وتنتهي مروحة الصراع الطائفي نفسها عند مسؤولي رأس الهرم السياسي، الذين يتصارعون طائفياً على كل مقعد ووظيفة ومركز ودور وثروة وسلطة... فحين يكون صراع قبائلنا بهذا الشمول، لا يعود مستغرباً أن يعرف محطة له في جامعة.

استغلال إشكال اليسوعية في اثارة النعرات الطائفيةيبقى جانبان جديدان ومقلقان لتلك «الحرب». أحدهما «حزبي شيعي» وثانيهما «حزبي مسيحي».
 الجانب الحزبي الشيعي هو مسألة دقيقة وحساسة وصعبة التحديد والتشخيص ربما. لكنه بات واضحاً جلياً في عوارضه. هو شيء من مزيج مركب، من فائض قوة، وإحساس انتصار، على خوف كامن وشعور بالاستهداف، مضافاً إليها كلها عزم وجدان جماعي على تأكيد الهوية والندية والمساواة، وربما الثأر من تاريخ من الاضطهاد الدوني، والانتقام لحقوق ماضية مهيضة وحرمان سابق راسخ. شيعياً، كأن هناك حالة من يفكر ويقول ويتصرف على قاعدة: إنه زمن التكافؤ في كل شيء، لا قبول بأقل من ذلك. مقولة قد لا تكتفي في الواقع بمجرد التكافؤ.

فيما الجانب الحزبي المسيحي مناقض تماماً. فإذا كان الحاضر الشيعي يرفض ماضيه وينقلب عليه ويثأر منه ومن إيحاءات استعادته، فعلى المستوى الحزبي المسيحي هو الماضي من يرفض الحاضر ويطارده بالميغالومنيا ويحاول طرده من المستقبل والواقع، متسلحاً بأوهام وأمجاد وزجليات، ولازمة سلاح. والأخطر، هنا ثمة أحزاب عريقة صار مسؤولوها الراهنون محترفي سياسة. لا بالمعنى الإيجابي التخصصي للكلمة، بل بمعنى أن لا عمل معروفاً لهم إلا السياسة. تسأل مثلاً، ما هي مهنة هذا الزعيم، أو ما هي «صنعة» هذا القائد، أو ماذا يشتغل هذا البطل؟ لا جواب، إلا أنه سياسي. كلهم سياسيون محترفون. أي إنهم يمتهنون السياسة ويعيشون منها ويرتزقون من ممارستها. لا يمكن أن يشتغلوا شغلة ثانية في حياتهم. وهو ما يفسر مصيرية استمرارهم في السياسة. إنها مصيرية استمرارهم في الحياة نفسها.

لكن المشكلة في هؤلاء أنهم وُلدوا في بيئات ارتزقت تاريخياً في السياسة على ثلاثة عناوين: العداء لسوريا، العداء للمسلمين، والثورة على الإقطاع. فجأة، وجد هؤلاء أنفسهم أمام مأزق. عليهم أن يستمروا في الارتزاق، لكن عناوين رزقهم التاريخي قد نضبت أو نفدت أو أفلست. ما العمل إذن؟ لا بد من «عدو» جديد، يشكل مصدر ارتزاق جديد. بهذا المعنى بدا ما حصل أمام جدار «اليسوعية» نوعاً من سلوكية انتحارية، مناقضة نوعاً وجوهراً للاصطدام بجدار السفار الإيرانية، وإن كانت تشبهها في بعض التفاصيل... أما كيف أفلست عناوين هؤلاء، فمسألة قد تحتاج هي أيضاً إلى تفصيل لاحق.

 رابط المقال : http://www.al-akhbar.com/node/196210

موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه