تأخر المعسكر الغربي- "العربي المعتدل" في إدراك مخاطر النزاع، لكن أن تتأخر أحياناً في الخضوع للحقائق أفضل من ان تعاند للأبد
علي عبادي
تبينَ بعد ثلاثة وثلاثين شهرا من الأزمة السورية ان عسكرة النزاع أدت الى أضرار جسيمة على الأمن الإقليمي، إضافة الى إلحاق ضرر فادح بالبنية التحتية والنسيج المجتمعي في سوريا. تأخر المعسكر الغربي- "العربي المعتدل" في إدراك مخاطر النزاع، لكن أن تتأخر أحياناً في الخضوع للحقائق أفضل من ان تعاند للأبد.
قبل اجتماع جنيف 2 حول سوريا، تتبدى أجواء مختلفة الى حد كبير عن تلك التي صاحبت اجتماع جنيف 1 الذي عقد في 30 حزيران/ يونيو 2012. في ذلك التاريخ كان الغرب ومعه حكومات عربية حليفة يدفعون باتجاه إسقاط النظام في سوريا وتسليم مقاليد الأمر الى مندوبين مرضيّ عنهم، تحركهم في ذلك نزعة التخلص من علاقات سوريا بمحور المقاومة. أما الآن، فلا تبدو الحماسة الاميركية هي نفسها للتخلص من النظام، ليس لأنه حوّل ولاءه ناحية الغرب، ولا لأنه تخلى عن أصدقائه وحلفائه الذين لم يتخلوا عنه حين عزّ الصديق والحليف، بل لأن هناك اولويات أخرى.
الارهاب اولاً:
لم تعد الدوائر الاميركية تجد حرجاً في التعبير عن هذه الأولويات. يقول الديبلوماسي الاميركي رايان كروكر الذي عمل سفيراً لبلاده في لبنان والعراق وأفغانستان والكويت: "نحن في حاجة لبدء التحدث الى نظام الاسد مرة أخرى" حول مكافحة الارهاب وقضايا ذات اهتمام مشترك، مضيفاً في حديث لصحيفة نيويورك تايمز انه "يتعين القيام بذلك بصورة مؤكدة وبهدوء شديد". ويفسر كروكر، الذي يفصح عن تقييم جديد رائج حالياً في الاوساط السياسية الاميركية، هذا الاتجاه بالقول ان "الاسد سيء، لكن ليس بقدر (الجهاديين) الذين قد يملأون أي فراغ في سوريا". الأرقام المُذاعة تشير الى آلاف المجندين العرب والأجانب، بينهم الكثير من الأوروبيين والأميركيين، الذين يقاتلون في سوريا بصورة تثير قلقاً جدياً لأجهزة الامن الغربية. حتى الاجهزة الامنية العربية من الاردن الى مصر وصولا الى السعودية بدأت تدرك خطورة هذا الانخراط المفتوح في الأزمة.
الأوساط الغربية لا تخفي مخاوفها من ارتداد وحش الارهاب الذي تم "تخليقه" في سوريا على الأمن الاقليمي والدولي. إنها تتحدث عن مناخ مثالي أوجده الصراع المسلح المفتوح في سوريا لنمو الارهاب المتعدد الجنسيات والأغراض، يضاف الى بؤر تنمو باضطراد من مالي وليبيا الى سيناء واليمن والعراق مروراً بأفغانستان وباكستان. قوس ملتهب يفوق القدرة على السيطرة ويستقطب شباناً يقدمون أنفسهم قرابين لقضية غائمة تبدأ بالجهاد في سبيل الله وتنتهي بعنف ضارٍ وصراعات على النفوذ والإمرة والتسلط على حياة الناس وعدم احترام أية قواعد قانونية او انسانية. كل ذلك يمكن احتماله بالنسبة للغرب، لكن ماذا لو اصبحت سوريا- في ظل وضع عدم الحسم سنوات إضافية- قاعدة لتصدير الارهاب مرة اخرى الى العالم كما حصل في افغانستان خلال التسعينيات من القرن الماضي؟
رئيس هيئة الاركان الاميركية مارتن ديمبسي اعرب عن القلق من توسع تنظيم القاعدة وفروعه في سوريا عدداً وإمكانات. ويبدو الدهاء الاميركي بين السطور عند التطرق الى هذه الظاهرة المتجددة التي خبرها الاميركيون جيدا في العراق وافغانستان، اذ يقول ديمبسي: علينا ان نميز أيّها (التنظيمات المتشددة) في الواقع محلية وأيها اقليمية وأيها دولية، ولكل منها مقاربة مختلفة"، وبالطبع فان الاخيرة هي محل أولوية اميركية، برغم ان أجندات هذه الفروع تتداخل بسهولة نظراً للتقارب العقائدي والعمل على نطاق جغرافي مشترك، كما انه يوجد نوع من التواصل بين التنظيمات المتشددة في ساحات عدة من المنطقة والعالم. وما يريح مسؤولي المخابرات الاميركية بعض الشيء ان انخراط هذه الفروع او بعضها في الصراعات المذهبية يمكن ان يحرفها بعيداً عن قتال الغرب. وهنا مربط الفرس الذي قد يكون فرصة وتهديداً في آن معاً بالنسبة للأوساط الغربية. فالتنظيمات المتطرفة تتوسل الصراعات المذهبية أحياناً للاستقطاب والحصول على نوع من "شرعية التحدث" باسم فئة من المسلمين ضد فئة أخرى، قبل ان تعود مرة اخرى الى ممارسة "هواية" الارهاب ضد مصالح الغرب وحلفائه للغاية ذاتها.
ولهذا، يدور الحديث اميركياً عن العودة الى مكافحة الارهاب باعتباره "بؤرة لتوجيه السياسة الاميركية"، بحسب تعبير ويليام مكانتس المستشار السابق في الخارجية الاميركية. ذلك ان الملاذات الآمنة التي تشكلها فروع التنظيمات التكفيرية في سيناء وجنوب ليبيا وجنوب اليمن وشمال وشرق سوريا تدفع للاستنتاج بأن الاميركيين الآن ليسوا اكثر أماناً من الارهاب عما كان عليه الحال عام 2011 عندما اعلن الرئيس الاميركي باراك اوباما ان الحرب على الارهاب انتهت مع قيام قوة اميركية خاصة باغتيال زعيم القاعدة أسامة بن لادن.
تمهيد لجنيف 2
وإلى كل ما سلف، ثمة فجوة في الاستراتيجية الاميركية في التعامل مع الازمة السورية، في ظل تراجع القدرة على العمل العسكري المضمون النتائج. ويسعى المسؤولون الاميركيون الى سد هذه الفجوة عبر طرق عدة:
الاول: فتح قناة اتصال مع تنظيمات "إسلامية" لا تعمل تحت راية القاعدة حتى لو كانت تقترب منها عقائدياً في بعض الخطوط العامة، او تتشارك معها ارضية العمل العسكري والتعاون ضد الجيش السوري. والهدف إبعاد هذه التنظيمات التي اتخذت أخيراً عنوان "الجبهة الاسلامية" عن القاعدة.
والثاني: الدفع تالياً باتجاه العمل لإيجاد تعاون مكثف بين "الجيش السوري الحر" وهذه التنظيمات بهدف محاربة نفوذ القاعدة وحمل النظام على تقديم تنازلات في المرحلة الانتقالية.
الثالث: توفير الأجواء الملائمة لبدء محادثات قد تطول لإيجاد تسوية سياسية قد تتخللها جولات عسكرية لانتزاع مكاسب هنا او هناك.
على المحور الاول، تمكن دبلوماسيون أميركيون وأوروبيون من الاتصال بـ"الجبهة الاسلامية" التي تمثل ستة فصائل: "لواء التوحيد" و"جيش الاسلام" و"لواء الحق" و"حركة أحرار الشام" و"ألوية صقور الشام" و"كتائب انصار الشام"، وذلك خلال لقاء رتبت له قطر في اوائل تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي قرب انقرة بحضور ممثلين عن تركيا والسعودية، وكان هدف الغربيين من اللقاء، كما يقول دبلوماسي غربي لصحيفة وول ستريت جورنال، رأب الصدع بين الجبهة التي ترتبط بتمويل خليجي ورئاسة اركان الجيش السوري الحر بزعامة سليم ادريس الذي يعمل بشكل وثيق مع الاميركيين.
وجاء هذا اللقاء تتمة لاجتماع بين الفريقين المعارضين المتنافسين عقد قبل ذلك بأسبوع في اسطنبول بهدف التنسيق على الارض. وليس واضحاً ما اذا كان هذا الاجتماع قد أدى الى نتائج مهمة، في وقت اتضح ان اللقاء الاول لم يبدد بعد اجواء العلاقة السلبية بين الجبهة والجيش الحر. كما انه ليس من الواضح كيف يمكن التوفيق بين طرفين يتنازعان في كل شيء حتى على النظرة الى سوريا المستقبل، خاصة بعدما ذهبت "الجبهة الاسلامية" الى تبني رؤية سلفية لسوريا ونفيها للديمقراطية والدولة المدنية والانتخابات البرلمانية، من دون ان تتطرق حتى الى أدبيات المعارضة في "الحرية" او "الكرامة" في نكوص عن كل الخطابات السابقة.
ولتوضيح أثر هذا الاعلان، تجدر الاشارة الى ان لدى فصائل الجبهة المذكورة مجتمعة، وفق تقديرات استخبارية اميركية، ما يقرب من 45 ألف مسلح (لا يمكن التحقق من هذه الأرقام) بما يوازي او يفوق قدرات "الجيش الحر" الذي يتسم بالتفكك والتراجع أمام منافسيه من "الجبهة الاسلامية" و"داعش" و"النصرة".
الهامش السعودي يضيق
في المحصلة، فشل الغرب في توحيد المعارضة السورية المسلحة على مدى عامين ونصف، وهو يسعى الآن الى تعزيز موقفه في جنيف 2، وصولا الى تحقيق غايته في تحقيق انتقال تدريجي للسلطة يفضي الى تنحية الرئيس بشار الأسد ولا يؤدي الى فراغ يحول سوريا "جنة مأوى للإرهاب العالمي". غير ان مساعي التوفيق بين جماعات المعارضة المسلحة بوجهيها الليبرالي والاسلامي السلفي يكاد يكون متعذراً في ضوء تبني "الجبهة الاسلامية" الوليدة برنامجاً يتضارب مع جدول أعمال مؤتمر جنيف. وهذه الثغرة فتحت الباب أمام السعودية التي أنفقت نحو نصف مليار دولار على "الجيش الحر" في الفترة الماضية لتحويل اهتمامها الى دعم بعض مكونات "الجبهة الاسلامية" التي يقود جناحَها العسكري زهران علوش قائدُ فصيل "جيش الاسلام"، والأخير تلقى تعليمه في السعودية ويُعتبر قريباً جداً من مخابراتها.
أين تلتقي السعودية مع اميركا في سوريا وأين تفترقان؟
يلتقي الجانبان على هدفين: الاطاحة بالنظام في سوريا في نهاية المطاف، ومواجهة تنامي وجود تنظيم القاعدة في هذا البلد. ونقلت صحيفة وول ستريت جورنال الاميركية ان رئيس الاستخبارات السعودية بندر بن سلطان الذي ينسق الجهود السياسية والعسكرية السعودية في سوريا انه أبلغ ديبلوماسياً غربياً هذا الخريف تعهده بالعمل "لقتل الاسد ومقاتلي القاعدة"!
ويختلف الاميركيون والسعوديون في نقطة هامة وهي طبيعة المرحلة الانتقالية لحل الأزمة، حيث لا يتصور السعوديون بقاء الرئيس الاسد في سدة الحكم بعد قطع كل الجسور معه وذهابهم بعيداً في الرهان على الغرب لتحقيق هدف إسقاط النظام عن طريق تسليح المعارضة او التدخل العسكري الأجنبي. ويشعر السعوديون بقلق عميق من ان يؤدي الاتفاق المبدئي في شأن البرنامج النووي الايراني الى سحب البساط من تحت أرجلهم في سوريا واطالة عمر النظام الحالي. وهذا يفسر سر الهجوم الاخير المدعوم من قبلهم على الغوطة الشرقية في ريف دمشق بالتزامن مع التحضيرات لمؤتمر جنيف 2.
أما المسؤولون الاميركيون فيُظهرون تردداً على الأقل في مجاراة السعوديين في نظرتهم، لأنهم يخشون من ان يؤدي الفراغ الى سيادة فوضى شاملة في سوريا تكون فرصة لتنامي القاعدة، على غرار ما جرى في افغانستان عندما ادى الاقتتال الداخلي بعد الانسحاب السوفياتي الى ظهور حركة طالبان واستيلائها على السلطة عام 1996 بالتحالف مع تنظيم القاعدة. ولذا، قد لا يمانع الاميركيون في بقاء الاسد في الحكم او قد يغضون النظر مؤقتاً عن الأمر في غياب خيارات فاعلة لديهم وتضاؤل قدرتهم على الضغط والحشد، ومن هنا نفهم مقاصد كلام السفير الاميركي كروكر عن ضرورة التحدث الى الأسد. لقد اقتربت الادارة الاميركية نسبياً من قناعة روسيا بضرورة العمل على محورين: ايجاد تسوية للأزمة السورية ولو مؤقتة، ومكافحة الارهاب عاجلاً وليس آجلاً. أما المسؤولون السعوديون فلا يزالون يرون هامشاً من الوقت، وإن بدأ يضيق، لمتابعة مشروع إسقاط النظام في سوريا بصرف النظر عن الكلفة السياسية والانسانية المرتفعة، وهم يتصورون ان بإمكانهم التفرغ لاحقاً لمحاصرة القاعدة ولو من طريق استدراج فصائل محلية لقتالها او الحض على تدخل دولي جامع.
لكن المشهد الحالي ينبئ بتوازن اقليمي ودولي يتغير ويفرض الخضوعَ للحقائق على الارض، وقد أدركت اميركا متأخرة ان من المستحيل انهاء نزاع او حرب في المنطقة من دون التوفيق بين القوى الكبرى والاقليمية التي تدعم أطرافاً مختلفين في النزاع، وهذا سبب تعثر اميركا في العراق وافغانستان وتعقـّد الصراع في سوريا كل يوم. ومن المؤكد ان لا أحد يستطيع الادعاء راهناً بأنه يمكنه التحكم بمسار الاوضاع في سوريا على نحو حاسم، كما ان الجماعات المرتبطة بالقاعدة التي اجتذبتها الازمة السورية تمثل عدواً لجميع القوى الاقليمية والدولية دون استثناء، يضاف الى ذلك ان تفجير الصراع بصورته المذهبية البغيضة لن يعفي أحداً من العواقب المدمرة. لهذا يبدو الحل السياسي حاجة ماسة للجميع، كما للشعب السوري الذي يريد التقاط أنفاسه في صراع لا تبدو نهايته وشيكة.