30-04-2025 02:32 AM بتوقيت القدس المحتلة

مدينة الرسول (ص) في لقاء العائدين‏ من مصاب كربلاء

مدينة الرسول (ص) في لقاء العائدين‏ من مصاب كربلاء

إنهم على مقربة من المدينة.. مدينة جدهم.. ومهاجر أبيهم.. ومأوى أمهم.. مسقط رؤوسهم، وموطن أحبتهم، ما أصعب الدخول إليها وهم على هذه الحالة. لقد خرجوا مع الإمام الحسين عليه السلام واليوم رجعوا بلا الحسين عليه

يا لثارات الحسينلقد نجح إعلام الركب الحسيني في أداء واجبهم الرسالي في الشام، وأصبحت الخطب التي ألقاها ال البيت عليهم السلام حديث الأندية والمجالس، وعرف أهل الشام لؤم يزيد وخبثه، وصار المجتمع الشامي كالحمم تغلي على الدولة الغاشمة، وخشي يزيد وقوع الفتن واضطراب الرأي العام وخروج الأمر من يده، فلم يكن أحد من الناس في جميع الافاق راضياً بفعله.

ففكر بجدية في طريق للخلاص من مشكلة وجود ال البيت عليهم السلام في الشام، وعرض يزيد الأموال على السيدة أم كلثوم قائلاً: "يا أم كلثوم، خذوا هذا المال عوض ما أصابكم".

فأجابته عليها السلام: "يا يزيد، ما أقل حياءك وأصلب جهلك؟ أتقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم!". ثم دعا بالإمام زين العابدين عليه السلام وقال له: "إن أحببت أن تقيم عندنا فنصل رحمك ونعرف لك حقك، وإن أحببت أن أردك إلى بلادك".فقال الإمام زين العابدين عليه السلام: "بل تردني إلى بلادي..".فأمر يزيد النعمان بن بشير بتجهيز الأسارى بما يصلحهم، وطلب إليه أن يبعث معهم رجلاً من أهل الشام أميناً وصالحاً ليسير بهم إلى المدينة.

فسيّر معهم محرز بن حريث الكلبي، وهو من أفاضل أهل الشام، فكان يساير الركب وخيله التي معهم، فيكون الحريم قدّام بحيث إنهم لا يفوتون، فإذا نزلوا تنحى عنهم ناحية هو وأصحابه، وكانوا حولهم كهيئة الحرس، وكان يسألهم عن أحوالهم ويتلطف بهم في جميع أمورهم، ولا يشق عليهم في مسيرهم، إلى أن ادخلوا المدينة.

ومن الغريب جداً أن يقول أحد أن يقوم يزيد بإرسال هؤلاء لأجل المحافظة عليهم فحسب، وإن كان هو الظاهر المتراءى من القضية، ولكن الواقع هو المحافظة عليهم أولاً، والسيطرة على الأوضاع ثانياً، والثاني أولى بالمقصود، فمن الطبيعي أن يخاف يزيد حصول التمرّد والعصيان عليه في بعض البلدان الواقعة في المسير، وقد راعت السلطة ذلك بالبعث الى المدينة واستقدام عدة من ذوي السنّ من موالي بني هاشم وموالي بني علي من أجل مسايرتهم للركب. وكان يوم خروج الركب الحسيني من الشام في العشرين من شهر صفر، وبذلك تكون مدة بقائهم في الشام عشرين يوماً.

بقية الركب الحسيني في كربلاء :

لمّا رجعت نساء الإمام الحسين عليه السلام وعياله من الشام وبلغوا العراق، قلن للدليل: "بحق معبودك أن تدلنا على طريق كربلاء"،ففعل ذلك. فأخذوا بإقامة الماتم في أرض الطف لثلاثة أيام، وبذلك صارت سُنة حسنة استمرت من ذلك الحين إلى الان.

وأما المجلس الذي أقاموه في كربلاء، وقد حضره جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجال من ال الرسول صلى الله عليه واله الذين أتوا لزيارة قبر الإمام عليه السلام، فلم يكن عند ورودهم عليه السلام من الشام، بل في فترة زمنية أخرى، حيث إنهم كانوا يداومون على الزيارة.

و إن أول من زار الإمام الحسين عليه السلام هو الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري1 رضوان الله عليه الذي رحل من المدينة المنورة إلى كربلاء لأجل زيارة سيد الشهداء عليه السلام، وقد ورد إلى كربلاء في اليوم العشرين من شهر صفر أي في الأربعين الأولى للإمام الحسين عليه السلام مع عطية بن سعد بن جنادة العوفي 2 ، أي في اليوم نفسه الذي خرج فيه الركب الحُسيني من الشام، وبذلك يستحيل لقاؤهم في كربلاء في نفس الزيارة، ولم يكن رجوع الركب الحسيني إلى كربلاء في الأربعين الأولى ولا الثانية بل في الفترة الواقعة بينهما. ثم إن أهل البيت عليهم السلام تركوا كربلاء قاصدين المدينة، بعدما أقاموا العزاء على سيد الشهداء عليه السلام.

مدينة جدنا لا تقبلينا
 فبالحسرات والأحزان جينا
 
لا فأخبر رسول الله عنا
 بأنا قد فجعنا في أبينا
 
وأن رجالنا بالطف صرعى‏
 بلا رؤوس وقد ذبحوا البنين‏
 

لا مصاب كمصابك يا ابا عبداللهالمدينة قبل وصول خبر مقتل الإمام الحسين عليه السلام :

إن بعض أقرباء وأصحاب النبي صلى الله عليه واله كانوا يعلمون بمصير الإمام الحسين عليه السلام إجمالاً، وذلك عبر ما سمعوه عن الرسول صلى الله عليه واله مباشرة أو بالواسطة، فإنهم وإن فاتهم الفوز العظيم، أو قصّروا في سبيل نصرة أبن بنت نبيهم عليه السلام لم يمنعهم ذلك أن يعيشوا في حالة من الخوف والقلق وترقب الأحداث.

تربة الإمام الحسين عليه السلام

عن أم سلمة أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه واله جالساً ذات يوم في بيتي"، فقال: "لا يدخل عليّ‏َ أحد، فانتظرت فدخل الحسين عليه السلام، فسمعتُ نشيج رسول الله صلى الله عليه واله يبكي، فاطّلعت فإذا حسين في حجره، والنبي يمسح جيبنه وهو يبكي"، فقلت: "والله ما علمت حين دخل"، فقال: "إن جبرائيل عليه السلام كان معنا في البيت"، فقال: "تحّبه؟" قلت: "أما من الدنيا فنعم"، قال: "إن أمتك ستقتل هذا بأرض يُقال لها كربلاء، فتناول جبرائيل عليه السلام من تربتها فأراها النبي صلى الله عليه واله".

ولم تكن السيدة أم سلمة هي الوحيدة في نقل أخبار إتيان جبرائيل بتربة الإمام الحسين عليه السلام إلى جده الرسول الأعظم صلى الله عليه واله، بل هناك عدة أشخاص رووا ذلك على رأسهم أمير المؤمنين علي عليه السلام:

عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: دخلت على رسول الله صلى الله عليه واله ذات يوم وعيناه تفيضان، فقلت: "هل أغضبك أحد يا رسول الله صلى الله عليه واله؟ ما لي أرى عينيك مفيضتين؟" قال: "قام من عندي جبريل فأخبرني أن أمتي تقتل الحسين ابني"،ثم قال: "هل لك أن أريك من تربته"، قلت: "نعم، فمدّ يده فقبض قبضة، فلما رأيتها لم أملك عينيّ أن فاضتا".

عن أبو بكر وعمر وحذيفة وعمار وأبو ذر: خرج رسول الله صلى الله عليه واله إلى أصحابه وهو يبكي، فقالوا: "ما يبكيك يا رسول الله؟" فقال صلى الله عليه واله: "أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل من بعدي بأرض الطف وجاءني بهذه التربة وأخبرني أن فيها مضجعه".

تربة من كربلاء في متحف الإمام الحسين لا تزال تفيض دما عند العاشر من محرمأم سلمة تعرف باستشهاد الإمام الحسين عليه السلام‏

لقد قامت زوجة الرسول الكريم صلى الله عليه واله السيدة أم سلمة التي حصلت على شرف العلم وأصبحت موضع سرّ النبي صلى الله عليه واله، بدورها العظيم تجاه هذه المأساة، إذ استودعها النبي صلى الله عليه واله تربة من تراب كربلاء قبل مقتل الإمام الحسين عليه السلام بسنوات عديدة، وقال صلى الله عليه واله لها: "اجعلي هذه التربة في قارورة، ولتكن عندك، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قُتل الحسين صلى الله عليه واله"، ولقد احتفظت بها، وصار احمرارها علامة تحقق المأساة.

وكانت أم سلمة تحمل قارورتين من تراب الإمام الحسين عليه السلام، إحداهما سلّمها إليها رسول الله صلى الله عليه واله، والأخرى تسلمتها من يدي الإمام الحسين عليه السلام قبيل مغادرته المدينة، وقال لها: "... فإذا فاضتا دماً فاعلمي أني قد قتلت".

ويبدو أن السيدة أم سلمة قد خلطت التربة التي أعطاها إياها الإمام الحسين عليه السلام مع التربة التي كانت عندها، ذلك أنها بعد رؤيتها رسول الله صلى الله عليه واله في منامها وعلى رأسه ولحيته التراب، فسألته: "ما لكَ يا رسول الله صلى الله عليه واله؟".فأجابها صلى الله عليه واله: "شهدت قتل الحسين عليه السلام انفاً".فاستيقظت من منامها فزعة وفتحت قارورة واحدة فإذا هي تفيض دماً.

وكانت أم سلمة أول صارخة صرخت في المدينة، فتوجه أهل المدينة رجالاً ونساءً نحو بيتها، وإذ بها تصيح: "واحسيناه! وا ابن رسول الله"، فتصارخت النساء من كل ناحية حتى ارتفعت المدينة بالرجّة التي ما سمع بمثلها قط. عبد الله بن عباس يَعلم بإستشهاد الإمام الحسين عليه السلام‏

كان إبن عباس من الذين يعلمون بمصير الإمام عليه السلام فمن الطبيعي أن يكون ممن يترقب خبر استشهاده، وقد روى ابن عباس: "رأيت النبي صلى الله عليه واله فيما يرى النائم بنصف النهار، وهو قائم أشعث أغبر، بيده قارورة فيها دم"، فقلت: "بأبي أنتَ وأمي يا رسول الله، ما هذا؟" قال: "هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم".

السلام عليك يا شهيد كربلاءوصول مبعوث ابن زياد إلى المدينة المنورة :

أنفذ اللعين ابن زياد رسوله عبد الملك بن أبي الحارث السلمي إلى عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة "مبشراً" بقتل الحسين عليه السلام. فدخل على عمرو بن سعيد، فقال عمرو: "ما وراءك؟".قال عبد الملك: "ما سرّ الأمير. قُتل الحسين بن علي". فقال عمرو "لعنه الله": "هذه واعية بواعية عثمان بن عفان!". فصعد عمرو بن سعيد إلى المنبر وخطب بالناس وأعلمهم ذلك، فعظمت واعية بني هاشم، وأقاموا سنن المصائب والماتم.


دور بنات عقيل‏ :

كان لبنات عقيل دور مهم في إثارة مشاعر الناس وإنقلابهم نفسياً بعد مقتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأصحابه، فعندما أرسل يزيد بن معاوية مبعوثيه إلى المدينة ليخبرا بقتل الإمام الحسين عليه السلام سمعت بذلك أسماء بنت عقيل بن أبي طالب، فخرجت في جماعة من نسائها، حتى انتهت إلى قبر رسول الله صلى الله عليه واله فلاذت به، وشهقت عنده، ثم التفتت إلى المهاجرين والأنصار وهي تقول:

ماذا تقولون إن قال النبي لكم‏
 يوم الحساب وصدق القول مسموع
 
خذلتم عترتي أو كنت غيباً
 والحق عند ولي الأمر مجموع‏
 
فلم يُر باكياً ولا باكية أكثر من ذلك اليوم.

ثم خرجت زينب بنت عقيل في نساء من قومها حائرات، وهي تقول: "وا حسيناه، وا إخوتاه، وا أهلاه، وا محمداه"، ثم قالت:

ماذا تقولون إن قال النبي لكم‏
 ماذا فعلتم وأنتم اخر الأمم‏
 
بأهل بيتي وأنصاري أما لكم‏
 عهدٌ كريم أما توفون بالذمم‏
 
عودة بقية الركب الحسيني إلى المدينة المنورة

إنهم على مقربة من المدينة.. مدينة جدهم.. ومهاجر أبيهم.. ومأوى أمهم.. مسقط رؤوسهم، وموطن أحبتهم، ما أصعب الدخول إليها وهم على هذه الحالة. لقد خرجوا مع الإمام الحسين عليه السلام واليوم رجعوا بلا الحسين عليه السلام...

ومن الطبيعي أن تأخذ المسيرة منحىً عاطفياً أكثر من أي شي‏ء، فلقد عاش أهل المدينة مع الإمام الحسين عليه السلام وتعودوا عليه، ورأوا في وجوده وجود جده بعلمه وهيبته وخُلقه وشجاعته وغيرته وبكل مكارم الأخلاق، واليوم يسمعون بوصول أهل بيته قرب موطنه، أهل بيت خرجوا معه ورجعوا وحدهم، ولكنهم يحملون رسالته.

ومن هذا المنطلق، نرى أن المسيرة لم تكتف بالتزام الظاهر العاطفي فحسب، بل إنها عنيت بالجانب المبدئي والمنهجي أكثر، واستمرت على ذلك في أشكال مختلفة، سواء كان ذلك على شكل إقامة العزاء والمأتم، أو استمرار البكاء، أو إلقاء الخطب، أو بث الأدعية العالية المضامين أو غير ذلك. والغاية من كل ذلك هي تنوير الأفكار وإيقاظ المجتمع من السبات العميق الذي استولى على جميع أفراده، ما خلا من تمسك بالقران والعترة.

الإمام زين العابدين عليه السلام يوفد بشير بن حذلم‏ :

رجلة السباياالمتتبع لمسيرة الركب الطاهر من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام، يدرك أن الإمام عليه السلام كان هو المسيطر على الأوضاع، وكان يخرق الإعلام المشوّه ويقلب الأمر على الحكام، ويبيّن الحقائق المستورة، فكان نهجه وسلوكه نهج الفعل والتأثير، لا الانفعال والتأثر.

ومن هنا نفهم سر إيفاد الإمام زين العابدين عليه السلام لبشير بن حذلم الشاعر إلى المدينة، فلقد تمكن بصفته رسول الإمام عليه السلام، وبكونه شاعراً قوياً ومؤثراً عاطفياً،من التأثير في المجتمع حتى كاد أن يقلب الوضع في المدينة، بحيث تحرك أهل المدينة، بما فيها من الرجال والنساء والكبار والصغار، إلى خارجها لاستقبال ال بيت رسول الله صلى الله عليه واله،وقد استثمر الإمام عليه السلام هذه الفرصة.

قال بشير بن حذلم: فلما قربنا من المدينة، نزل الإمام علي بن الحسين عليه السلام، فحط رحاله وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه، وقال: "يا بشير، رحم الله أباك، لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شي‏ء منه؟"، قلتُ: "بلى يا ابن رسول الله صلى الله عليه واله، إني لشاعر"، قال عليه السلام: "فادخل المدينة وانعَ أبا عبد الله عليه السلام".

قال بشير: فركبتُ فرسي وركضت حتى دخلتها، فلما بلغت مسجد النبي صلى الله عليه واله رفعتُ صوتي بالبكاء وأنشأتُ أقول:

يا أهلَ يثربَ لا مُقامَ لكم بها
 قتل الحسين فأدمعي مدرارُ
 
الجسم منه بكربلاءَ مضرّجٌ‏
 والرأس منه على القناة يُدارُ
 
هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا أعرّفكم مكانه.
فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن، مخشمة وجوههن، ضاربات خدودهن، يدعون بالويل والثبور، فلم يرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه واله، وخرج أهل المدينة جميعهم لاستقبال بقية الركب الحسيني.

خطبة الإمام السجاد عليه السلام على مشارف مدينة جده‏ :

كان الإمام زين العابدين عليه السلام داخل الخيمة، فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه كرسي، فوضعه له، وجلس عليه، وهو لا يتمالك من العبرة، فارتفعت أصوات الناس بالبكاء وحنين الجواري والنساء، والناس من كل ناحية يعزونه، فضجت تلك البقعة ضجة شديدة، فأومأ بيده أن اسكتوا، فسكنت فورتهم، فقال عليه السلام: "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارى الخلائق أجمعين، الذي بَعُدَ فارتفع في السماوات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، وألم الفواجع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة.

أيها القوم، إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله وعترته، وسبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية. أيها الناس، فأي رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن أنهما لها؟

فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لجج البحار، والملائكة المقربون، وأهل السماوات أجمعون.

أيها الناس، أصبحنا مطرودين مشرّدين مذمومين شاسعين عن الأمصار، كأننا أولاد ترك أو كابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في ابائنا الأولين، إن هذا إلا اختلاق.

والله، لو أن النبي صلى الله عليه واله تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظّها وأفظعها وأمرّها وأفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وأبلغ بنا، إنه عزيز ذو انتقام".

ثم قام الإمام زين العابدين عليه السلام ومشى إلى المدينة ليدخلها.

الركب الحسينيبقية الركب الحسيني في مدينة الرسول صلى الله عليه واله‏ :

لما دخل حرم الإمام الحسين عليه السلام المدينة عجّت نساء بني هاشم، وصاحت المدينة صيحةً واحدة، ودخل الإمام زين العابدين عليه السلام وجماعته دار الرسول صلى الله عليه واله، فراها مقفرة الطلول، خالية من سكانها،خالية بأحزانها.

أما السيدة زينب عليها السلام فأخذت بعضادتي باب المسجد، ونادت: "يا جداه، إني ناعية إليك أخي الحسين"، وهي مع ذلك لا تجف لها عبرة، ولا تفتر من البكاء والنحيب، وكلما نظرت إلى علي بن الحسين تجدّد حزنها وزاد وجعها.

ولبست نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا يشتكين من حرّ ولا برد، وكان علي بن الحسين عليه السلام يعمل لهن الطعام للمأتم.  وعن الإمام جعفر بن محمد عليه السلام انه قال: "نيح على الحسين بن علي سنة كاملة كل يوم وليلة، وثلاث سنين من اليوم الذي أصيب فيه..". وهذا الخبر يدل على مدى حزن الهاشميين واهتمامهم بعزاء سيد الشهداء عليه السلام، بحيث حزنوا كأشد ما يكون الحزن واللوعة، واستمروا على ذلك، إبقاءً لذكر أبي عبد الله عليه السلام واستمراراً لنهجه.

مكافأة الحرس‏

الإمام الحسين سفينة النجاةلقد شكرت العلويات كل الذين قاموا برعايتهن من الشام حتى المدينة، وكان الرجل الحارس يسألهم عن حالهن ويتلطف بهن في جميع أمورهن، ولا يشق عليهن في مسيرهن إلى أن دخلن المدينة، فقالت فاطمة بنت علي لأختها السيدة زينب عليها السلام: "لقد أحسن هذا الرجل إلينا، فهل لك أن تصليه بشي‏ء"، فقالت عليها السلام: "والله ما معنا ما نصله به إلا ما كان من هذا الحلي". فقالت:"فافعلي".

فأخرجا له سوارين ودملجين وبعثا بهما إليه فردهما، وقال: "لو كان الذي صنعته رغبة في الدنيا لكان في هذا مقنع بزيادة كثيرة، ولكني والله ما فعلته إلا لله، ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه واله".

وأبى الإمام زين العابدين عليه السلام إلا مكافأته، فبعد رفضه للحلي، أخذ الإمام عليه السلام حجراً أسود أصم فطبعه بخاتمه، ثم قال:"خذه وسل كل حاجة لك منه فوالله الذي بعث محمداً بالحق، لقد كنتُ أسأله الضوء في البيت فينسرج في الظلماء، وأضعه على الأقفال فتفتح لي، واخذه بين يدي السلاطين فلا أرى إلا ما أحب".

شبكة المعارف الإسلامية