لا يترجّل الفارس مختاراً عن صهوة سلاحه. الكرامة منوطةٌ بمقبض السلاح.. والقداسة كذلك؛ هذا ما يتعلّمهُ كلّ من يلبس زيّ المؤسسة العسكريّة ويلتزم عقيدتها.
علي عبد المجيد*
لا يترجّل الفارس مختاراً عن صهوة سلاحه.
الكرامة منوطةٌ بمقبض السلاح.. والقداسة كذلك؛ هذا ما يتعلّمهُ كلّ من يلبس زيّ المؤسسة العسكريّة ويلتزم عقيدتها.
في سوريا كانت مؤسسة الجيش موضع استهدافٍ حثيث؛ الكثير من الأجهزة والخطط والتنظيمات سخّرت لذلك.
دعواتٌ وأموالٌ لدعم الانشقاقات، وإقناعٌ للبعض الآخر، في حين كان التهديد بالاغتيال أو خطف أفراد العائلة وسيلةٍ لإرضاخ كثيرين.
وفق منطق الحروب الأمنيّة، يكفّل هذا الجهد التخريبي الداخلي العبء الأكبر من المعركة، ويودي فعلاً بأهمّ عناصر القوة في الجيش، غير أنّ الصمود النوعيّ لسوريا الدولة (وحلفائها بكلّ تأكيد)، حال دون ذلك.
مشهد الشمال
في قطاع الحرب الأقصى(الشمال السوري) ثمّة العديد من النماذج الفارقة.
مطار منّغ الشهير كان أبرزها.. ومثّل البيدق الأخير للدولة السوريّة في ريف حلب الشمالي؛ بعدها لم يعد لمنطق الدولة وجود في قطعة عسكريّةٍ هناك، واقتصر الأمر على بعض القرى الريفيّة التي ما زالت تدين للدولة بالولاء، وخصوصاً أمام المدّ الفوضويّ لمختلف أنواع الجماعات المسلّحة(التي بدأ اختلافها يثمر اقتتالاً بينيّاً شرساً؛ كانت الدولة تراهن عليه منذ زمن).
تحملُ هذه الجزر المتناثرة السلاح _باستماتة_ دون طغيان ذلك المد..الأقليّات عموماً هي القابضة على منطق الدولة هناك؛ تعي تماماً ما قد يُخبئه لها مستقبلٌ ترسمه حالة كـ"داعش"، أو تجمعاتٌ فوضويّة تسمي نفسها ألويةً وكتائب.
لا بديل عن "الدولة" في فكر هؤلاء.. بل ولا مستقبل دونها أصلاً.
فارس أعزاز
تتناقل الأوساط الموالية للدولة في ريف حلب _بفخرٍ ملحوظ_ قصّة شابٍ ريفيٍّ قاتل في مطار منّغ طوال فترة حصاره، كان ذا بأسٍ ووعي يستحقّان التقدير.
أنكر هذا الشاب صلته الاجتماعيّة بمدينته التي استفحل فيها مدّ السلاح المعارض، وآثر البقاء مع زملاء السلاح داخل المطار شهوراً طويلة.
هو بكلّ تأكيد ليس حالةً يتيمة (فالأكثر من الجنود عاشوا النفور ذاته تجاه المدّ الغريب في مناطقهم)، لكن.. لعلّهُ تجربة فريدة بالفعل في تفاصيلها، وما تختزنهُ من معالم شجاعةٍ لا تنكر.
ما زال أصدقاؤه الناجون يرددون بعض عباراته المتداولة، على بساطتها؛ فالوطن "أهم من الضيعة وأهل الضيعة"، و "البارودة شرف"..
"فيصل أديب الجكر"الذي لقبّه رفاق السلاح بـ"أسد مطار منّغ"؛ قاتل هناك حتى الرصاصة الأخيرة، وكان ضمن المجموعة الأخيرة التي أسرها المسلّحون.
ينتمي فيصل إلى مدينة"أعزاز" في ريف حلب، الاسم سيء الصيت؛ نتيجة قصة اختطاف الزوّار اللبنانيين الشهيرة، فضلاً عن سيطرة أحد الفصائل المتطرفة في المعارضة المسلّحة عليها.
تقع المدينة شمال غرب حلب بمسافة 48 كم، ولا تبعد سوى 7 كم عن الحدود التركية.
سكنها قبل بدء الأزمة قرابة الـ75000 نسمة، انخفض العدد بشكل كبير جداً بعد أن أصبحت ساحة للمعارك اليوميّة.
وسوى ذلك كلّه.. يَذكر التاريخ أنّ "مالك الأشتر" كان أوّل من قام ببسط السيطرة الإسلاميّة عليها(في العام 15 للهجرة)، بعد أن احتكرتها مملكة الشمال القريبة عشرات السنوات.
مُذ ذاك الوقت والمدينة معروفة الهويّة.. لكنّ أحداً لم يعرف من يُسيطر عليها فعليّاً في السنتين الأخيرتين، حيث اختلف السلاح المعارض داخلها _ولا يزال_ بشكلٍ دمويٍّ مفرط.
"فيصل" بطل حكايتنا سنّي الطائفة.. دون أن يُعير العنوان الطائفيّ قيمةً في علاقاته بالآخرين، أو اتخاذهم أصدقاء وأحبة.. أو حتى إخوة سلاح.
الوطن هو القضية التي يعيشها في وعيه البسيط؛ وكما كان يعتقد ويكرر: "إذا تركنا هالحَوَش ياخدوا أرضنا.. ما منستاهل نندفن فيها"؛ هذا ما نقلهُ عنهُ أصدقاؤه أيضاً(للتوضيح: كلمة "حَوَش" تفيد قلّة الشأن، وعدم الاحترام مطلقاً).
قصة الانسحاب
منذ بدأ حصار المطار، حاول المسلحون التواصل مع من يظنون أنّ انشقاقه أمرٌ وارد، وكان التواصل عبر اللاسلكي حصراً.
لطالما كان فيصل أحد المعنيين بهذه المحاولات؛ لأنهم يعرفون الكثير عنه وعن أهله في مدينته القريبة.
حدّثوه مراراً على جهاز اللاسلكي عن "فضيلة" الانشقاق عن "الجيش الكافر"، وعن ضرورة الالتحاق بركب "الثورة" قبل أن يفوته، وحتى عن بعض المنطلقات الشرعيّة والعقائديّة لما يسمونه "دولة إسلامية".. ووصل الأمر أنّهم أحضروا بعض أقربائه لفرض هذه القناعة عليه.
راق لهُ ذاتَ انتقامٍ أن يوقع مجموعةً من المسلحين في كمينٍ محكم.. غررهم بالانشقاق، وأنهُ فتح لهم ثغرةً توصل مجموعة منهم إلى مبنى الضباط مباشرةً؛ وانتظر مع زملائه في نقطة الاقتحام المفترضة.
بكلّ بساطة.. لم يخرج من المجموعةِ رجلٌ واحد؛ اثنان وثلاثون مسلّحاً أبيدوا خلال دقيقتين أو ثلاث، داخل حرم المطار، في وقتٍ مبكرٍ من صباح ذلك اليوم.
خاطبهم عبر اللاسلكي ساخراً.. توعدوه مراراً.. وتوعدهم أكثر، ولم تنته الحكاية.
في قصّة الانسحاب من المطار، التي تداولتها وسائل الإعلام بلهفةٍ عارمة، ذُكر أنّ مجموعةٌ من المقاتلين _وصفوا بـالفدائيين_بقيت لتغطية انسحاب بقية المجموعات المتوزعة على أرض المطار الواسعة.
أصرّ "الجكر"_بحماسته المشهودة_ أن يكون ضمن هذه المجموعة، ووعد أصدقاءه باللحاق بهم بعد تأمين الانسحاب مباشرةً.
كان لا بُدّ من تغطيةٍ حثيثةٍ للانسحاب، فالهجوم كان كبيراً جداً، والتراجع دون غطاءٍ ناريٍ هو انتحارٌ صرف.
وجدت المجموعة الفدائيّة نفسها بعد عدّة ساعاتٍ في زاويةٍ متقدّمة، كان المهاجمون قد تجاوزوها من كلا الجانبين، دون القدرة على المرور فيها لكثافة النيران؛ وليس من احتمالٍ للانسحاب مطلقاً.
الطلقات الأخيرة كانت مفعمةً بالمشاعر، بعدها أحاط المقاتلون بنقطة الحراسة التي يتمركز فيها الجنود الستة، وتمّ أسرهم أحياء.
سمع الرفاق المنسحبون خبر أسرهم على جهاز اللاسلكي، وأرّقهم للغاية مدى فرح أولئك المسلحين بالقبض على الجكر حيّاً!.. يبدو أنّ هناك من ينتظر الأمر بشغف.
إعدام في ساحة القرية
اقتاد المسلحون فيصلَ إلى قريته أعزاز..كان نصراً لحقدٍ متراكم.
ليس من داعٍ للتفكر في طريقة التشفي، منذ لحظة الأسر وحتى طقوسالانتقام؛ فقد بات أسلوب التعاطي مع الأسرى روايةً شهيرة.
جُرَّ الشاب في شوارع قريته بصلفٍ مبالغٍ فيه، من أشخاصٍ أغلبهم جاء إلى سوريا للمرة الأولى في حياته منذ أشهر فقط.
الشوارع التي تربى فيها.. والأزقة التي ركض خلالها حافياً في طفولته.. والجيران وأحجار الطريق.. كلها شاهدت مقاتلين ليبيين وتونسيين يعفّرون به التراب تشفياً، ويقودونه إلى ساحة القرية لإجراء حكم السلاح المتطرّف فيه.
ليس لأحدٍ أن يُقدّر مشاعرَ أهله الذين دفعوا ضريبة "النفي المؤبد" لعدم التبرّؤ من ولدهم، ولا إحساسَ أصدقاء طفولته الذين شاهدوه يُساق إلى الموت.
هتافات بلهجة عربية فصيحة وهجينة كانت تُطلق كلّ فينة وفينة، وبطش السلاح المتطرّف يُخيّم على الأرواح هناك.
رغم ذاك كلّه.. شهد جميع أهل القرية أنّ الشاب العشرينيّ كان يجهد ليرفع رأسه طوال دقائق اقتياده في الأزقة والحارات، وكأنّهُ يحفظ للمدينة كرامتها.. أو يستذكر تفاصيل جدرانها وألوان أبوابها للمرة الأخيرة، ويتأمّل ما تغيّر منذ فارقها قبل قرابة السنتين.
قامته الممشوقة كانت أطول من بعض الذين يدفعونه بأعقاب البنادق.
ابتسم لبعض من يعرفهم في القرية، ولم ينتظر ليرى إن كانوا سيردون بالمثل.. كما كالَ الكثير من الشتائم لجلاديه.
وصل الموكب الفوضويّ والهتاف إلى الساحة الصغيرة المكتظّة، وأعلن أحد المقاتلين بلهجةٍ عربيّةٍ محطّمةٍ "حكم الله"، ليوقَفَ فيصل بعدها مسنداً إلى حائطٍ حجريٍّ أبيض (وهو ما تتميز به بيوت الريف هناك).. المسلّحون يُكبّرون بطريقةٍ أقرب إلى الصراخ منها إلى ذكر اسم الخالق، ويبدأ احتفالٌ جنونيٌّ بالتشفي من الجسد الفتيّ، ورصاص عشرات الأسلحة الأوتوماتيكيّة تفتك به.
لم يترجلّ الشاب عن موقفه، ولم يطلب الرحمة أو يستعطف أحداً، لم يناشد أقربائه حتى..
يحكي أهلُ القرية أنّهُ كان يزدري جلاديه ، ويصيح فيهم حين يدفعونه بأعقاب البنادق، وأنّهُ كان ينظر في أعين الجميع وهو مسندٌ إلى ذاك الحائط.
إنّ قيمة الموقف الشجاع تبقى مشهداً إنسانيّاً جديراً بالإكبار، هكذا يموت الإنسان حيث يحبّ ويُضحي.. برأسٍ مرفوع حتى اللحظة الأخيرة!
*مدير مركز توثيق المعاناة الانسانية لضحايا الارهاب والتطرف في سوريا
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه