لحظة ضوء تلك التي اندلعت في بيروت، والتي شعت من جنوب افريقيا... جميلة بوحيرد عندنا، وعنوان إقامتها الرمزي متصل بعنوان الضاحية، «قصبة المقاومة» العربية.
لحظة ضوء في مسالك العتمة. ضوء أصيل لا يمكن وضعه تحت مكيال. كأنه جدير بالحياة أن تكون هذه اللحظة فقط، لأنها انتظارات المستقبل واشتهاءات الأيام الآتية.
كتبت نادين غورديمر، الحائزة على جائزة نوبل للآداب ما يلي: «أن تعيش في بلد حيث يوجد فيه أبطال، لهو أمر في غاية الأهمية... أن تكون في مكان وزمان مع نلسون مانديلا، فأنت تحسد على هذه المرتبة... وإذا كان للعبقرية خصوصية إنسانية، فهي تتجسّد في مانديلا».
نصري الصايغ/ جريدة السفير
أن نعيش معاً، لحظة اللقاء بجميلة بوحيرد في بيروت ونلسون مانديلا في هذا الكوكب، فذلك من حظوظ التاريخ النادرة. من كان يظن أن هذه العتمة العربية الكالحة والدامسة، سيزيحها ضوء من التاريخ المكتوم أو التاريخ الذي تم إقفاله، فيحتل مقدمة المشهد في بيروت أولاً، ثم في العالم.
لـ «الميادين» سبق غير مسبوق. جميلة المنسية تستعاد ذاكرتها بجدارة الانتماء إلى التاريخ والإنسان والقيم. وفي المقارنة غير المقصودة، بين زمنها وأزمنتنا السود، ظهرت الحاجة إلى «يقظة» تستحدثُ السؤال: ماذا فعلنا بتاريخنا؟ لماذا بعنا عذاباته وجراحه وأحلامه وقيمه وإنسانيته؟ هل من فرصة جديدة، لوصل ما انقطع مع التاريخ المقاوم؟. لنلسون مانديلا، كما لجميلة بوحيرد، كما لسلطان باشا الأطرش، كما لغيفارا، كما لمواكب الفدائيين الفلسطينيين، مقاتلين وكتاباً وشعراء وفنانين، كما لكوكبة من سناء محيدلي ومريم فخر الدين ولولا عبود... لكل هؤلاء، ومن على صراطهم، تاريخ محذوف من التداول، برغم أصالته ورسوليته.
لنلسون مانديلا وجوه ثرية. اختار الغرب وجهه الأخير: وجه الوديع، المسالم. الحكيم والجدير بأن يكون مثالا يحتذى، من دون أن يحتذوه. وجه مانديلا الأول هو وجه أنتيغون في مواجهة كريون العنصري، ونظام الفصل والقمع في جنوب افريقيا، الذي يمنع عنه وعن شعبه حقوقه الإنسانية. كتب مانديلا بعد ذلك العذاب: «أنتيغون ترمز إلى الصراع. كانت تمثل على طريقتها، المناضلة من أجل الحرية». الوجه الآخر، هو وجه سبارتاكوس الذي تصدَّى بسيفه وجسده العاري وقوته المذهلة للامبراطورية الرومانية. (شكل الامبراطورية تبدّل.
العالم البريطاني ومن معه من الغرب، كان الامبراطورية العظمى الحامية لنظام الأبارتهايد). سبارتاكوس المقيد إلى صخرة العنصرية، أعطى الشعلة لبروميثيوس ليواجه من وراء القضبان، الإله «زفس» حارس النظام العنصري. أما الوجه الأخير، فهو وجه الرجل الذي تجسدت فيه منظومة القيم الإنسانية الخالدة المؤسسة على الشجاعة، المعتركة بالمعاناة، النابضة بعشق الحرية، المؤنسنة بالتسامح وروح الانفتاح وامتناع الثأر. مانديلا، هذا هو، ويلزم أن لا يحذف وجهه الأخير الرائع، وجوهه الكفاحية، والسلاح الذي امتشقه ورفاقه، لمحاربة وهزيمة أخطر وأبشع عدو في جنوب افريقيا، ولا يتفوق عليه غير الاستيطان الصهيوني المستدام لفلسطين.
أغفلت من حياته التي ازدهر كتابها في الغرب، تلك المرحلة التي سجلها هو في مراسلاته، عن عذاباته وانحطاط الطغاة، ورفضه التنازل عن الكفاح المسلح، إلا بعد زوال الأسباب التي أدت إلى امتشاق السلاح.
في سجنه، أذلوه. وضعوه، عقابا لصموده وعدم تنازله، مع السجناء العاديين. وكان الآمر العسكري الأبيض يدخل قاووش الطعام القذر، ويختار الوقوف قرب طاولة الطعام الرثة، فيفك أزرار بنطاله، ويسحب... ويبوّل على الأرض قربه.
بعد سجنه وبعد إخلاء سبيله، وبعدما حرره أحرار العالم، لا سياسيوه، وفي احتفال حاشد لاستقباله، وأمام عشرات الألوف الذين تجمهروا لتحيته في جوهانسبورغ قال: «لن نتنازل عن الكفاح المسلح قبل إلغاء الأسباب العنصرية التي استوجبت حمل السلاح».
... ولجميلة وجه الحياة الأولى. الحياة المصنوعة من أحلام وحقائق، من واقع ومرتجى، من استبداد وتحرر، من ظلم ومساواة. وجه الحياة مع جميلة، كان الوجه الذي يصنع سحنة الأمل ويرسم تفاصيل الحياة. ولكن، «تؤخذ الدنيا غلابا». غلبت جميلة بنات أمتها، أخرجت المرأة من رطانة التبعية للرجل. صارت نداً له. تبزه أحيانا، صموداً وعصياناً وتحدياً، وإيماناً بالانتصار... عرفت في الجزائر، بنات لم تُتِح لهن أيامُ المعارك في الجبال وفي وهران، ان يتزوجن... صنعن حرية الجزائر بإرادتهن. ولما انتصرن، أُدْخِلن مرة أخرى، إلى أَسْر الذكر.
إلى ذلك الجيل، تنتمي جميلة. جيل بلغ الحرية بمشقة النضال. إنما ما بعد التحرر تضاءلت مساحة الحرية في الجزائر. ساد الصمت العربي الثقيل. بن بيللا في سجنه، والنخب الثورية، دخلت إلى نعيم السلطة بحراسة البنادق. يومها، فقدت جميلة وجيلها، «الوعد الصادق»، ثم أخرجت إلى الحافة، فالنسيان.
السلطة تكره تاريخها، إن كانت سلطة جاءت بعد ثورة. السلطات العربية، أكرهتنا على تبني تاريخ يسير بخط مستقيم، هو خط السلطة التي اجترت لمسيرتها نصاً تاريخياً تافها، بلا قيم ولا معان ولا وطن.
هكذا حذفنا من تاريخنا وجهه الحقيقي المتأصل بعشق الحرية، والمتصل بالقيم الإنسانية، ومحاربة الاستعمار ومكافحة الظلم والوقوف الشرس في وجه الاستبداد والاستتباع. أعطونا بدل تاريخنا الحقيقي، تاريخاً مُصنَّعاً بصيغة «الفاست فود». أطعمونا تاريخاً مشوَّها لا يشبهنا، ثم قالوا لنا: هذا أنتم.
لا... ليس هذا تاريخنا.
بدء تاريخنا الحديث كان مع سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى. بدء تاريخنا، مع ميسلون وبطولتها. واستمر هذا التاريخ في قتال العراقيين للانتداب البريطاني، والسوريين في مقارعة الاستبداد الفرنسي، والفلسطينيين في مقاومة للاستيطان الصهيوني، وأجيال المقاومة اللبنانية، بأسمائها وأعلامها المتعددة، في مواجهة الاحتلال وطرده من بيروت حتى بوابة فاطمة.
هذا هو تاريخنا الأصلي، ومن العار أن يستبدل بتاريخ الطوائف والمذاهب والفتاوى وأصحاب السلطة والصولجان.
لحظة ضوء تلك التي اندلعت في بيروت، والتي شعت من جنوب افريقيا... جميلة بوحيرد عندنا، وعنوان إقامتها الرمزي متصل بعنوان الضاحية، «قصبة المقاومة» العربية. ليس مجهولاً عنوان إقامة السيد. انه منتشر في العمق والسطح والمدى، وهو عنوان يمتد إلى ما بعد وما بعد حيفا.انه لحظ جميل، أن نعيش في زمن يلتقي فيه ثوار الأمس الجميل، لغد جميل. انه لحظ نادر، أن تكون في زمن جميلة بوحيرد ونلسون مانديلا وحسن نصر الله.
حكمة هذا التاريخ هي التالية: «إن النزول عن الصليب، يتطلب أولاً، جدارة تسلقه وتذوق آلامه». عيد الصليب العربي، قد تعقبه، ربما، قيامة الإنسان العربي الجديد؟
هل هذا وهم؟..
رابط المقال على جريدة السفير : http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionId=2641&ChannelId=63946&ArticleId=897&Author=نصري الصايغ
انه وهم جميل.