لا يكاد يختلف إثنان على أن جنيف النووي المنعقد الشهر الماضي وجنيف 2 السوري المزمع عقده الشهر القادم , هما الإستحقاقان المفصليان اللذان من خلالهما ترتسم معالم السياسة الدولية والإقليمية في المنطقة
حسن شقير
لا يكاد يختلف إثنان على أن جنيف النووي المنعقد الشهر الماضي وجنيف 2 السوري المزمع عقده الشهر القادم , هما الإستحقاقان المفصليان اللذان من خلالهما ترتسم معالم السياسة الدولية والإقليمية في المنطقة ولربما في العالم , وذلك لأن الأول – وبرغم الكثبر من المطبات التي ستعترض تنفيذه – قد وضع الملف النووي الإيراني على السكة الدبلوماسية للحل بعد حوالي عشر سنوات من الكباش حوله ..أما الثاني – وبرغم التشكيك في امكانية عقده أو حول نتائجه – فإنه لا بد أنه سيُشكل محطةً مفصلية من عمر الأزمة السورية ,لأنه سيتبين من خلاله الخيط الأبيض من الخيط الأسود فيها , وتحديداً عند أمريكا وملحقاتها في تحالف العدوان على سوريا ... لذلك فإننا سنتناول هذان الجنيفان بعيني الخديعة والحقيقة وتداعيات هذه النظرة أو تلك على هؤلاء بشكل مباشر.
أمريكا – المُقرّة
لعله من أولى تداعيات جنيف النووي على أمريكا في موسم تراجعها , هو في حده الأدنى - وكما أوحى أوباما نفسه لمن التقاهم من المحللين والصحفيين الصهاينة على هامش منتدى صبّان - اعترافه " بأن الشعب الإيراني في طبيعته وهيكلية نظامه , لا يدلان على أن تشديد العقوبات عليه ستحقق ما يعتقده نتنياهو من تحصيل مكاسب نووية أكثر مما اتفق عليه .." وبالتالي فإن أمريكا ما بعد النووي سترتد إلى داخلها أكثر من أي وقتٍ مضى , بحيث أن الأصوات المتخوفة من عودة أمريكا إلى عزلتها – أقلّه في الشرق الأوسط – عادت لتُسمع من جديد في المسرح السياسي الأمريكي .. وفي هذه الحالة فأمريكا هي الخاسرة حتماً .
هذا في جنيف النووي , أما في جنيف 2 السوري ,والمزمع عقده في الثاني والعشرين من الشهر القادم , فإن كانت أمريكا تسعى من خلاله صادقةً إلى حل الأزمة في سوريا , بالإتفاق مع روسيا , وفرض الحل على الأطراف فيها , فإن كل الدلائل والمؤشرات والتطورات توحي بأن هذه الصفقة المنتظرة ستُركّز سوريا استراتيجياً في محور الممانعة والمقاومة .. وأن أقصى ما يمكن أن يقرّه هذا المؤتمرهو فرضه بعض من الإصلاحات المهمة في بنية النظام , وأليات الحكم فيه .. وهي عبارة عن إصلاحات أقرّت الدولة السورية بضرورة تحقيقها , ومنذ الأيام الأولى من عمر الأزمة ...وفي مثل هكذا فرضية , تُعتبر أمريكا خاسرة سورياً , وبشكل جلي .
أمريكا – المخادعة
في المنتدى المذكور سابقاً , وعلى هامشه تحديداً , عبّر أوباما أيضاً عن أن دبلوماسيته المقررة تلك في الإنفتاح على إيران , تهدف فيما تهدف إلى " دعم الرأي العام الإصلاحي والتوجهات المنفتحة للرئيس روحاني , وذلك بوجه الرأي العام المحافظ في إيران .." , وفي مسار منفصل تواصل أمريكا فرض العقوبات على بعض الشركات والأشخاص التي تتهمها أمريكا بخرق الحظر على البرنامج النووي الإيراني ..وتشير مندوبتها إلى مجلس الأمن إلى أن مسار هذه العقوبات مستمرة برغم الإتفاق ! فإن كل ذلك سيجعل من الرأي العام الإيراني صفاً واحداً خلف قيادته , متلمساً بنفسه للخداع الأمريكي , متمسكاً أكثر وأكثر بحكمة القيادة في إفراغ العقوبات من محتواها بسياسة حياكة السجاد الصبورة , وذلك من خلال الإعتماد أكثر فأكثر على الإقتصاد المقاوم والسياسة المقاومة ... وهنا أيضاً أمريكا : خاسرة خاسرة .
هذا في جنيف النووي , أما في جنيف السوري المرتقب , فإذا كانت أمريكا تبتغي من خلال الدعوة إليه, لمجرّد حدوث حفلة إستعراضية لرفع العتب الأخلاقي عنها , وأنها تسعى من وراءه لإطالة عمر الأزمة .... فإن ذلك أيضاً لن يُغيّر من مسار الأمور كثيراً على الأرض السورية , والذي يسير لمصلحة الدولة فيها ومحور المقاومة من خلفها - وإن طالت المدة الزمنية قليلاً – فالأمور بخواتيمها , مما سيجعل حينها , لما تعرضه سوريا اليوم على من أوجدتهم أمريكا فيها , فلن يكون كما هو غداً بالتأكيد .. وهنا أيضاً : أمريكا , خاسرة خاسرة .
تركيا – الإستدارة
لعل إقفال الحدود التركية مع سوريا بوجه تدفق الإرهابيين عدداً وعدةً , والمفترض صدوره عن مؤتمر جنيف السوري القادم ,هو البارومتر الحقيقي الذي يدلل على موقع تركيا الحالي والمستقبلي في الأزمة السورية , حيث أن الإرهاب سيحشر عندئذٍ بين مطرقة الجيش السوري والقوات المساندة من جهة , وسندان الحدود التركية المقفلة من وراءهم , وبالتالي فإن هؤلاء الإرهابيين لن يكون لهم بدٌ إلاّ القيام بعملية ترانزيت نحو الأراضي التركية , وبشتى الطرق , هرباً من مصيرهم المحتوم ... وعليه فإن تركيا ستبدأ مرحلة سداد الفواتير المستحقة للدولة السورية رغماً عنها .. فتركيا التائبة لا بد لها من دفع كفارة ما اقترفته أيدي سياسييها على الأرض السورية .. فهي بهذه الصورة خاسرة بدون جدال .
تركيا – الإندفاعة
إذا ما صدقت بعض التقارير الصحفية الغربية من أن الإرهابيين باتوا يحضون اليوم ب"منازل أمنة " في الأراضي التركية قبيل انتقالهم إلى سوريا , وإذا انفض جنيف السوري دون معالجةٍ حقيقية للإرهاب العابر للحدود , فإن ذلك يؤشر إلى أن الدور السلبي لتركيا في الأزمة السورية ما يزال على حاله .. وبالتالي فإن ما تعيشه تركيا اليوم من هلعٍ لصمود الدولة السورية سيستمر , والخشية من تسرّب الإرهابيين من حاضنتها إلى حاضنات دول هي على خصومة مبطنة معها اليوم – كالسعودية مثلاً -, ستتزايد أكثر فأكثر .. وموقع تركيا – النموذج الإسلامي المعتدل سيتهشم أكثر فأكثر , فضلاً عن تزايد الأحقاد الداخلية في الجسد التركي بفعل انفضاح السياسة العنصرية لحكام تركيا الحاليين , ناهيك عن تراكم ثقل المشكلة الكردية , وتهديدها الإستراتيجي لوحدة الدولة التركية .. وفي كل هذه الأحوال , فتركيا المندفعة هي أيضاً : خاسر خاسر .
الكيان الصهيوني – المُسلّم
بعد أن فصّلْنا في مقالة سابقة جوهر الخلاف الصهيوامريكي حول جنيف النووي , والدوافع التي جعلت من الكيان الصهيوني يقف في مجابهته ... فلعله من المفيد الإشارة له إلى أن ذاك الموقف الصهيوني ليس بعيداً عن موقفه المشابه ضد جنيف السوري بتوازناته الجديدة .. ولكن , فلئن أسقط في يدي الكيان ,ووضعت الأزمة السورية على سكة الحل في جنيف 2 , فإن هذا الكيان سيكتشف أن ما يقرب من الثلاث سنوات من التدمير في الدولة السورية , لم يودي بهذه الأخيرة إلى ما كان يحلم به الكيان مع أمريكا في جعل هذه الدولة , دولةً فاشلةً , و دولةٌ ستخلع رداؤها المقاوم والممانع في القادم من أيامها , وتستدير نحو الحضن الصهيوني الذي بنى على ذلك أمالاً عريضة في جعلها الفك الأخر للكماشة التي يأمل الكيان في إطباقها على المقاومة في لبنان ..وفي هذه الفرضية سيكون الكيان الصهيوني أبرز الخاسرين المحتمين .
الكيان الصهيوني – المُؤمِّل
يُعتبر الكيان الصهيوني من اوائل المتحمسين لنشوب الأزمة السورية ومن أكثر المنظّرين في بداياتها لتحويلها إلى صراع مسلّح , وتسعير حربها, وإطالة أمدها , وجعل الدولة السورية تتشقق ديوغرافياً وجغرافياً ( مقالة حاييم آسا المستشار الإستراتيجي لرئيس الوزراء الأسبق رابين , حول " التوقعات في الشرق الأوسط " نُشرت في صحيفة معاريف بتاريخ 09-12-2011) وذلك بغية تحقيق استراتيجية الحماية في الذراع السورية – والتي كتبنا عنها سابقاً – وبالتالي مع مراهنة الكيان الصهيوني على فشل جنيف 2 , فإن زمن تساقط الإرهابيين , الذين راهن عليهم في تدمير الدولة السورية بجيشها وشعبها ومؤسساتها , وإنهاك واستنزاف من يساندها من قوى مساندة في المحور الممانع , وتحديداً حزب الله , فإن هذا الرهان الصهيوني سيسقط هو أيضاً في عصر التساقط الحالي والقادم للإرهابيين- الذين كان يُعوّل عليهم في تأمين الحدود السورية - , وستعود الدولة السورية – وبشكل كامل - إن عاجلاً أو أجلاً , إلى حيث يخشى الكيان عودتها , لأن هذه المرّة سيرافق هذه العودة , مقاومةً أرّقته , عندما كانت على حدوده مع لبنان فقط , فكيف بها ستصبح على حدوده السورية أيضاً , مع مفارقة مهمة جداً أعلنها الرئيس الأسد مؤخراً حول إطلاقه يد المقاومة في الجولان... وذلك في تغييرواضح لقواعد الإشتباك هناك ..! فهو بالتالي خاسر خاسر .
خلاصة القول , لا يتسع المجال هنا لذكر كافة تلك الدول الملحقة بهؤلاء الخاسرين , من الأردن , إلى السعودية وقطر .. فكلهم شركاء في المصاب .. فجميع هؤلاء مأزومون , خاسرون بعيني الحقيقة والخديعة على حد سواء .